بعد كتابة مذكرات لم تكتمل، مرفقة بديوان يضم مجمل أعماله الشعرية، التي غناها الشيخ إمام، ونشرت في دوريات صحافية، والكثير منها لم ينشر أو يسجل، وبعد تدهور حالته الصحية والنفسية في أحد بيوت عائلته بقرية البتانون في محافظة المنوفية، توفي نجيب شهاب الدين عن عمر يناهز السبعة والسبعين عاماً يوم الثلاثاء 1 حزيران/ يونيو.
فجّر موته حالة من الحب والأسى وسط مجايليه، نعاه صديقه محمد أبو الغار، الأستاذ بكلية الطب بجامعة القاهرة، والرئيس السابق للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، في مقال كتب فيه: "مصر فعلاً ولادة، ومليئة بالمواهب.. ومهما حوصرت وضربها الاكتئاب في القلب وتم الدفع بغير الموهوبيين للأمام... ولكن بمجرد أن ينطق مصري واحد بمقدمة أغنية يا مصر قومي وشدي الحيل فسوف تنطلق وراءه آلاف الأصوات".
يا مصر قومي وشدي الحيل \
— علي هشام (@Ali_Hisham) February 7, 2011
كل اللي تتمنيه عندي \
لا القهر يطويني ولا الليل \
آمان آمان بيرم أفندي \
نجيب شهاب الدين
ودعا الروائي إبراهيم عبد المجيد إلى جمع أشعاره ونشره، في تغريدة على "تويتر"، وتساءل في مقال له تحت عنوان "لغز الاستمرار في الحياة"، متسائلاً: "كيف عاش نجيب طول هذه المدة، ولم نقرأ شيئاً منشوراً له في مجلة أو في كتاب لحوالي أربعين عاماً".
ونعاه الناقد شوكت المصري في منشور على فيسبوك: "فقدت المنوفية رسولاً من رسل مصر الذين حملوا الحب والجمال إلى العالمين، يا مصر قومي وشدي الحيل، كل اللي تتمنيه عند نجيب شهاب الدين".
وانتقد محمد هاشم، صاحب دار نشر "ميريت" بوسط القاهرة، في منشور له الأوصياء، لمنعهم دخول الحشيش، "الذي يبقيه صاحياً ومتفاعلاً، بالقدر الذي دفعه لقطع الطعام وبعده الماء"، وأنهى منشوره قائلاً: "اسمحوا لكبارنا بقضاء أيامهم الأخيرة كما يحبون، مع السلامة يا شاعر".
1
"يا مصر قومي وشدي الحيل"، اندهشت فور عودتي لـ"بيت العيلة" في شبين الكوم، أن أسمع صداها في بيتنا الذي طالما احتضنت حيطانه الإسمنتية المكتظة بالأثاث صوت أحمد موسى، وأصوات أخرى لطالما حرضت على الثورة، والمعارضة، كان أبي (ابن عم نجيب) يستمع لها على موبايله، وقال لي: "ده عمك نجيب طلع محبوب جداً، وله أغاني حلوة".
لم أستوعب موت نجيب سوى بعد مرور يومين، كانت عائلتي تراني أسير على دربه، وكانت شديدة التحفظ والخوف من أن أقضي نهايات أيامي وحيداً، أحتاج إلى مساعدة أولاد الأخ والأخت، كانت تلك صورة نجيب في عائلتي.
تربى العديد من الأدباء المصريين في بيئات ريفية، وترك المكان انطباعاً أكبر في كتاباتهم، وهو ما بدأ به نجيب شهاب الدين مذكراته التي تسربت مقاطع منها على السوشيال ميديا.
كتب نجيب: "لقد كبرت في كنف تلك الجنة الصغيرة، التي جعلتني وأنا طفل صغير أستطيع زراعة المساحة الصغيرة أمام المنزل، زرعتها كلها جرجير... أرض طيبة يعيش عليها ناس طيبون".
ولا كان شباب في الغيطولا كان شباب في ميدان
ولا كانوا راصدين سما
ولا كانوا فاتحين بيبان..
ولا كانت السهرة حلوة
ولا كانت الدار أمان..
حضرت عزاءه في اليوم الثالث على وفاته، في فناء الدار التي تربى فيها عمي نجيب، بعد أن أحيطت بالجدران والأسوار، واستبدلت الغيطان الواسعة بحديقة تزين الدار الإسمنتية، التي شهدت طفولته، كان محمد ابن أخيه، وهو مدرس لغة فرنسية ومشارك نشط لصفحات تنوير على السوشال ميديا، يتنفس الصعداء بعد مرور أكثر من عامين على رعايته له، التي يبدو أنها تركت أثراً بالغاً في نفسيته.
يشدد ابن أخيه على أن سنوات الطفولة كانت لها أثرها البالغ على شخصيته، كتب نجيب عنها: "وجدت نفسي في تلك الجنة، التي كان بها الكثير مما لا يتناسب مع كونها جنة".
2
للتربية الانضباطية تقدير كبير في عائلتنا بالبتانون، يبدو من الكتب والمذكرات والكتابات الاجتماعية أنها كانت نمطاً شائعاً، خاصة العائلات ذات المكانة، وفرض نمط الحياة الذي يعيشه الأب والأم على الأبناء يبدو طبيعياً كالشمس والهواء، مما يكون له أثره البالغ على النفوس الحساسة، والشخصيات التي فضلت نمط حياة مختلف.
على العكس من جنينية الجرجير، كانت في حياة نجيب بالطفولة "الكثير مما لا يتناسب"، كتب عن الأجواء الأسرية التي تربى فيها: "كان أبي موظفاً حكومياً في زمن كان المثل الشائع فيه "إن فاتك الميري أتمرغ في ترابه"، وهو مثل عمره من عمر دولة محمد علي، فقبل محمد علي لم يكن هناك ميري، والميري هو عصب دولة الجيش والأمن. وهو أول من حظي بلقب أفندي في العائلة، حين واصل دراسته التي لم تتم، أرغمه أبوه على الزواج من فتاة تمتلك ثلاثة فدادين، وتلك مميزة تجعلها عروساً مثالية بالنسبة لجدي، الذي كان قد باع أرضه، وبدد ماله في ليال حمراء وسوداء وهمجية، فقد كان يشغل منصب وكيل شيخ الخفراء، وقد طردوه من الخدمة بعد اتهامه بالمشاركة في سرقة جاموسة".
كنت في بدايات شبابي عندما ذهبت إلى القاهرة شديد النقمة على سكان الأقاليم، لطبعين منتشرين في شخصيتهم، هما التكتم الشديد، وتقديس النجاح العملي والمادي. لا تستطيع أن تعرف الكثير عن أعز أصدقائك، دائماً هناك شيء مخفي، وهو الأهم.
أشار المؤرخ خالد فهمي في كتابه "كل رجال الباشا" إلى الظروف القاسية التي رزح تحتها أجدادي، ونحتت تلك الأنماط، كانت الضرائب باهظة على الفلاحين، للدرجة التي حرص فيها أشد الناس غنى على الإصرار على نيل الصدقات والزكاة، حتى لا يأخذوا أموالهم، وكانوا يكنزون "القرش الأبيض لليوم الأسود"، في مكان ما تحت الأرض، من هنا ظهرت أمثال مثل "داري على شمعتك تقيد".
مكثت مع عمي لأيام متفرقة بين عامي 2009 و2010، كان معتزلاً في غرفته، التي يخرج منها الدخان الأزرق، يتحدث بكلمات بسيطة كالشذرات، وتعج الصالة بالزوار أحياناً.
3
أثرت في الأماكن التي عاش فيها نجيب، وأصابتني برعشة، لم أمكث في بيته بمصر القديمة طويلاً، فقد كان رافضاً بشكل شديد أن أدخل مساحته الخاصة، وابن عمي الذي يقوم على رعايته كان يخبرني أن حالته الصحية والنفسية لا تسمح بالتفاعل "اللي بالك فيه"، كنت أشعر أن لهذا الجيل تجربة مهمة.
تربى نجيب في بيئة أسرية شديدة المحافظة والتكتم أيضاً، ألمح لي محمد، وهو أيضاً شديد التحفظ في التصريحات الإعلامية، إلى أن كتاب "معنى الحياة" لعالم النفس ألفريد آدلر، من مدرسة التحليل النفسي، مهم في شرح حالة نجيب الانعزالية، قرأت الكتاب، وكان يدور على أن معنى الحياة يتمثل في التعاون، بالزواج والوظيفة والأصدقاء، وشدد على أن التربية تؤثر في إحساس الفرد بحياته، وقدرته على التعاون الخلاق.
في قصيدة تداولها محبوه على صفحات السوشيال ميديا، كتب نجيب إلى ابنه، مستحضراً طفولته:
ماتخافش من أي شيء
لأني قبلك خفت
خفت من كل شىء
عوّضنى كل الخسارة
أنا خسرت كتير
خسرت طَعم الجسارة
وكسبت بصة عينيك
4
"لو عشت مصر زمان مش حتقدر تعيش فيها دلوقتي"، كانت تلك إحدى شذرات نجيب، التي كان يلقي بها بين الحين والحين عندما يخرج من غرفته في مصر القديمة.
على عكس محمد، جادل مصطفى طاهر صديق محرر في القسم الثقافي لصحيفة "الأهرام" أن معظم الجيل الذي عاصر نكسة 1967، أثرت عليهم بشدة، ونصحني بالرجوع إلى كتاب "وقفة قبل المنحدر" من مذكرات الروائي علاء الديب لفهم حالة نجيب الانعزالية.
تأمل تلك اللحظات في حياة نجيب لتفهمنا الجوانب المظلمة التي باتت تجتاح مصر، لئلا تتحول تجاربنا بعد رحيلنا إلى مجرد "اذكروا محاسن موتاكم"، لنفهم لماذا "لا تقوم مصر وتشد الحيل" رغم أغاني الشيخ إمام ونجيب شهاب الدين
لفتت انتباهي تلك الكلمات التي وصف بها التغير الذي اجتاح مصر بعد الهزيمة، وللدهشة فإن كلماته تصف نمط الحياة غير الطبيعية الآن في القاهرة، التي تعايشنا معها منذ نعومة أظفارنا، كتب: "قالوا عنها (نكسة 1967) سرطان، وسمعت شرائط الكاسيت المليئة بالسح والدح وخوار الرجال، سكن الناس المقابر في ضمير مثقل بالذنب والعجز كنت أذهب إلى هناك".
"أصبح لي من هؤلاء أصدقاء (لقد تغير معنى الصديق)، مارست هناك الحب (فقد تغير معنى الحب).. تقول لي امرأة تبيع ليلها وثديها، وقد دهنت غرفتها باللون الأحمر: لم يعد الرجال هنا يعرفون كيف يضاجعون النساء".
في قصيدة، كتب نجيب:
بقى هي دي المعابد، وهو ده الإيمان؟
ما كانتشي دي مدرسة
ولا كانشي ده كان
ولا كانت أمك بتشقى
ولا كان شقاها حنان
ولا كانت الساقية دايرة
ولا كانشي غيط شعبان
ولا كان شجر جمير
جدوره في الأزمان
ولا كان شباب في الغيط
ولا كان شباب في ميدان
ولا كانوا راصدين سما
ولا كانوا فاتحين بيبان..
ولا كانت السهرة حلوة
ولا كانت الدار أمان..
كده الكوانين تنطفي
كده المواعي تنكفي
كده الضنا الغالي يهون
ويهون عليكيو الهوان
ما كانتشي دي مدرسة ولا كانشي ده دكان.
ويجادل الفنان التشكيلي محمد الجبيلي بأن صديقه نجيب لم يكن منعزلاً عن الناس، كما يشاع، فقد كان بيته صالوناً ثقافياً يجتمع فيه شعراء وفنانون، هو فقط لم يكن "غاوي شهرة".
بحسب الجبيلي، لم يتوقف نجيب عن الكتابة قط، سواء الشعر أو مذكراته أو مقالات نشرها في دوريات ثقافية، وكان مولعاً بفؤاد حداد وبيرم التونسي.
كان من المفترض أن ينشر مذكراته منذ ثلاث سنوات، إذ اتفق مع ناشر على نشرها، كتاب يضم مذكراته ومجموعته الشعرية، ولكن المرض لم يمهله لاستكمالها، ومعظم قصائده تدور حول الوطن الذي "كان مهموماً به".
5
يقسم محمد الجبيلي حياة نجب إلى ثلاث مراحل، المرحلة الستينية التي شهدت توهجه مع الشيخ إمام، والمرحلة السبعينية التي عمل فيها بالأمم المتحدة واقترن بصوفي، صحافية فرنسية، وأنجب منها إسماعيل وآسيا، والمرحلة الثمانينية التي عاد فيها إلى مصر، وعمل في وظيفة بالمجلس الأعلى للثقافة.
تعرفت على نجيب عن قرب عن طريق جاسر الموجي، الذي لعب والده سعد الموجي دوراً محورياً في تكوين "شلة" الشيخ إمام، عندما ذهبت إلى "بيت الغورية" في حارة "خوش قدم" للمرة الأولى، وهو كان مسرح تلك الأغاني، أخبرني جاسر وفي عينيه حنين، أني جلست على نفس الكرسي الذي كان يجلس عليه عمي، سهرنا على أغانيهم، وشعرنا كأن الزمن توقف عندهم، وكأن كل الأجيال التي تلتهم تعيش على ذكرياتهم.
نجيب شهاب الدين في شبابه، تصوير ناجي الشناوي
كنت أحاول مع صديقي جاسر، الذي تربى على أغاني الشيخ إمام في بيت العائلة، أن أبحث عن جذور ثقافية لي خارج مصر. برأيي أن النكسة خلقت دوائر في حياتنا تنتهي للعجز والاكتئاب، وأن معظم مجايليها تأثروا بها بشدة، لم يكن لنا إرث ثقافي وأخلاقي محرض يقوينا في أوقات الشدائد، حدثته عن جيل الهيبيين، الذي توفي أحدهم العام الماضي، ديفيد غرابر، وعام 2014 توفي نيكولاس ساند، الكيميائي الآندرغراوند وأبرز طباخي عقار الأسيد.
كان للرئيس الأمريكي دونالد ريغان دور بارز في حظر الحشيش وكل مشتقات المشروم، واعتبره كتاب أمريكيون ممثلاً عن رأسمالية الشركات، وللرئيس بيل كلينتون دور آخر في تعزيز الدور الاجتماعي والاقتصادي لشركات التكنولوجيا، مما سمح بخلق وظائف عن بعد، بعيداً عن تحكمات الدولة في دول استبدادية مثل مصر، وهو ما ساعدني على التحرر من الاعتماد على الصحف ودور النشر والثقافة المحلية، وعلى استبطان الحالة الهيبية.
أخبرني جاسر أن عمي لحق بقايا جيل الهيبيين عندما سافر إلى فرنسا، وتزوج هناك.
انخرط محمد ابن أخي نجيب في الحياة الاجتماعية والعائلية، ودافع بشدة عن وعي الناس الذي يتشكل من خلال "التعاون"، وحل مشاكلهم الحياتية، وليس في الانعزال، وسافر جاسر إلى كندا ليتزوج ويستقر.
"كان يحب مصر جداً، كتب لها أشعار كتير"، كانت من أكثر الكلمات التي سمعتها عنه من أصدقائه المثقفين، برأيي كان نجيب متوحداً توحداً صوفياً بمصر، توهج لحظة توهجها، والعكس صحيح، ربما لحظات حياته الأولى والأخيرة تحمل مفاتيح لشخصية مصر، لفهمنا الحالة المصرية خاصة غير المتوهجة منها، المنطفئة، والمكتئبة، والمكبوتة.
ربما من المهم تأمل تلك اللحظات في حياة نجيب لتفهمنا كل الجوانب المظلمة التي باتت تجتاحنا، وتدفعنا إلى الهجرة أو الاكتئاب أو الاندماج الانهزامي مع المجتمع، من المهم تأملها، ووعيها لئلا نكون جلادين لأنفسنا، أو لغيرنا، ولئلا تتحول تجاربنا وحياتنا بعد رحيلنا إلى مجرد "اذكروا محاسن موتاكم"، لنفهم لماذا "لا تقوم مصر وتشد الحيل" رغم أغاني الشيخ إمام وكلمات نجيب شهاب الدين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...