شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"أتركة" المسلسلات العربية... نمط فني متداوَل أم تغييب للواقع؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 3 ديسمبر 202202:15 م

خلال أكثر من عقد، غزت الدراما التركية الشاشاتِ العربية عن طريق عملية الدبلجة، وحظيت بجمهور واسع في المنطقة لم يتراجع حتى في ظلّ تتالي الأعمال التي تم استيرادها بنسق كبير حتى أصبحت طبقاً ينافس بقوة الأعمال العربية التي أصبحت بدورها تتجه لتقديم أعمال تحاكي في مضامينها وصورها نظيرتَها التركيةَ تحت عباءة ما يطلبه المشاهدون.

ويبدو أن صناع الدراما العرب لم يكتفوا بهذا القدر من التأثر بالدراما التركية فاتجهوا في السنوات الأخيرة لاستنساخ الدراما التركية عبر تقديم نصوص وصور وقصص وأماكن وأزياء وواقع تركي لكن بوجوهٍ عربية وبلغة عربية لجمهور عربي، ليصلوا بهذه الخطوة إلى "أتركة" الدراما العربية بشكل كامل.

وتتكبد شركة كبيرة مثل "إم بي سي" وغيرها تكاليفَ باهظةً لإنتاج مسلسلات تركية يتم استنساخها بحذافيرها، بما في ذلك مواقع التصوير، برغم توفر بعضها بالدبلجة العربية، وتقدمها على قنواتها بعد عملية تسويق كبيرة تسبق عملية العرض.

ولا يبدو أن هناك تفسيراتٍ لهذه الخطوة سوى أن العامل التجاري بات المحرك الرئيسي للأعمال الدرامية عربياً، وأن الرهان على إنتاج دراما عربية من رحم الواقع السوري أو اللبناني (باعتبارهما الدول الأكثر تقديماً لأعمال تركية استنساخاً ودبلجةً)، بنصوص جديدة، لم بعد يجلب صناع الدراما الباحثين عن أسهل الأمور والأعمال الأكثر استقطاباً للجمهور، حتى وإن كانت المضامين غريبة ولا تمت بصلة لهؤلاء المتفرجين المستهدفين، بل إن النجوم أنفسهم أصبح همُّهم من يدفع أكثر، لا من يقدم لهم عملاً بجودة أكبر.

ناقد الدراما المصري عصام زكريا يرى أن إعادة استنساخ الدراما التركية إلى العربية هو نمط فني موجود في أغلب الدول، ويتنزل في سياق عملية استنساخ أعمال شهيرة قد تكون أمريكية أو مكسيكية أو غيرها، وتلبي حسب تقديره تطلعاتِ بعض الجماهير في الهروب لعوالم جميلة وخيالية.

ويقول موضحاً لرصيف22: "بالنسبة للدراما التركية فلها جمهورها الكبير في العالم العربي وسط شريحة معينة معظمها من ربات البيوت، لأنها عادة تدور حول قصص حبّ وميلودراما عائلية. وبدل أن يشاهد المتفرجون العرب النسخة الأصلية بالممثلين الأصليين وباللغة الأولى للعمل، يجدون أنفسهم أمام قصة يتم أخذها ووضعها في بيئة عربية وبنجوم عرب حتى يتفاعل معها الجمهور بشكل أحسن. ولا يمكن أن يكون تأثير ظاهرة استنساخ الأعمال التركية على الدراما العربية دائماً سلبياً، فمسألة أنها تتجاهل القضايا السياسية والاجتماعية الجادة، وتسبح في عالم من الهروب والتغييب، فهو جزء من دور هذه الأعمال التجارية التي تلبي رغبة الناس في الهروب إلى عالم آخر فيه وجوه جميلة وقصص حبّ خيالية ودراما صاخبة.

بمعنى أن هذه رغبات الجمهور وتوقعاته في أن يهرب من واقعه. لكن الخطأ يحدث عندما يتم الاقتصار على هذه الأعمال. لا بد أن تكون هناك أعمال كثيرة متنوعة تلبي كلَّ الأذواق، لأنه حتى المشاهدون أنفسهم لا يفضلون لوناً واحداً يكون سائداً، بل يحبذون أن يكون لهم المجال لاختيار ما يناسب رغباتهم التي تتغير وليست ثابتة. وأعتقد أنه أصبح هناك نوع من التنوع في الدراما العربية اليوم".

تتكبد شركة كبيرة مثل "إم بي سي" وغيرها تكاليفَ باهظةً لإنتاج مسلسلات تركية يتم استنساخها بحذافيرها، بما في ذلك مواقع التصوير، برغم توفر بعضها بالدبلجة العربية، وتقدمها على قنواتها بعد عملية تسويق كبيرة تسبق عملية العرض

كانت البداية مع "عروس إسطنبول"، المسلسل التركي الأول الذي نُقل إلى العربية تحت عنوان "عروس بيروت" سنة 2019، وصدر في ثلاثة أجزاء بمجموع 220 حلقة تباعاً، من بطولة ظافر العابدين وكارمن بصيبص وتقلا شمعون. وحقق هذا العمل نجاحا كبيراً وجذب عدداً كبيراً من المشاهدين، حتى أنه احتل المرتبةَ الأولى على منصة "شاهد" في مناسبات عديدة، كما ساهم في نجاح عدد من الوجوه الجديدة، على غرار مرام علي وفارس ياغي.

ويبدو أن نجاح "عروس بيروت" جماهيرياً لا فنياً جعل فكرة استنساخ الدراما التركية بمثابة الخيار الأفضل لدى صناع الدراما العربية، وخاصة السورية واللبنانية، الذين لم يترددوا في تكرار التجربة مراتٍ متتاليةً، وتؤكد المؤشرات أن التجربة ما زالت متواصلة، وستشمل عدة أعمال. وبهذا يكون مشروع التعريب أو الاستنساخ أو بالأحرى "الأتركة" قد انتقل إلى حجم أكبر على مستوى عملية الإنتاج الضخمة واستقطاب ممثلي الصف الأول واستمالة مؤلفي مسلسلات عربية لتعريب النصوص التركية الأصلية دون أدنى تصرف.

وقد تم عرض عدة أعمال حتى الآن فيما يجري تصوير أعمال أخرى بينها مسلسل "الثمن" المستنسخ عن العمل التركي "ويبقى الحب"، ويؤثثه ممثلون سوريون ولبنانيون، أبرزهم النجم السوري باسل خياط ورزان جمال ونيكولا معوض ورفيق علي أحمد وصباح الجزائري، على الرغم من أن اختيار هذا العمل للتعريب أيضاً بلا مبرر، حيث تمّ بثُّه قبل سنوات طويلة على عدد من القنوات العربية مدبلجاً باللهجة السورية.

ويتم أيضاً التحضير للنسخة العربية من مسلسل "الخائن" الذي عرض قبل عامين على القنوات التركية، والذي من المتوقع أن يمثل فيه قيس الشيخ نجيب وسلافة معمار وريتا حرب، فيما يجري منذ فترة عرض مسلسل "ستيلتو" أو "الكعب العالي" المستنسخ عن المسلسل التركي "جرائم صغيرة"، مثيراً جدلاً كبيراً برغم تحقيقه نسبة مشاهدة عالية منذ بثّ حلقاته الأولى.

صناع الدراما العربية الباحثين عن النجاح السهل قد أعلنوا الحج إلى الدراما التركية غير مكترثين لتأثير مثل هذه الظاهرة على مستقبل الدراما العربية

في هذا العمل الذي ورد في نسخة طبق الأصل عن العمل التركي ودون أي خصوصية عربية، تم التركيز بشكل مبالغ فيه على عناصر الإبهار، سواءً في الأزياء والماكياج والإضاءة، جعلت الممثلات، خاصةً، يظهرن مثل تماثيل الشمع، كما وصفهن بعض النقاد. وسيطرت عليه مناخات الدراما التركية بشكل كبير جداً، إذ تم تصوير العمل في مواقع التصوير التركية ذاتها التي دارت فيها أحداث المسلسل الأصلي، كما تمّ اللجوء إلى عدد كبير من كادر مسلسل "جرائم صغيرة"، بما في ذلك المخرج التركي إندر إيمير، ليقدّم العمل بروحٍ تركية خالصة لا فرق بينه وبين العمل التركي الذي تم طرحه سابقاً على شاشات "إم بي سي" عدا الممثلين السوريين واللبنانيين.

وتصف كاتبة الدراما السورية هنا ابراهيم هذا العمل بقولها: "ستيلتو تافه جداً، وغير واقعي، وبرغم ذلك حقق نجاحاً كبيراً، لأن الناس تريد رؤية هذه المظاهر، مع أنها غير واقعية، ولا تلامس إلا فئةً معينة متمثلة في العائلات الأرسطقراطية".

ويبدو أن صناع الدراما العربية الباحثين عن النجاح السهل قد أعلنوا الحج إلى الدراما التركية غير مكترثين لتأثير مثل هذه الظاهرة على مستقبل الدراما العربية، ولا حق الجمهور العربي في تلقي أعمالٍ تحاكي واقعَه، وتلامس قضاياه وتحدياته. ولم يدركوا أن الدراما التركية الراكضين نحوها لم تصنع مجدَها عبر عمليات الاستنساخ، ولم تبلغ النجاح الذي هي عليه بالهرولة المجنونة وراء أعمال غيرها ونقلها دون أي جهد فني يذكر، بل سخرت كلَّ الوسائل الممكنة من أجل تطوير أعمالها الخاصة، من ديكورات ضخمة وطبيعة خلابة ونجوم منتقين بعناية فائقة، فضلاً عن أدوات التسويق الأخرى التي ساعدت في إيصال هذه الدراما لشاشات 150 دولة حول العالم وتحقيق إيرادات ضخمة، إذ من المتوقع أن تصل إيرادات تركيا القادمة من مسلسلاتها مليار دولار مع دخول سنة 2023.

يبدو أن نجاح "عروس بيروت" جماهيرياً لا فنياً جعل فكرة استنساخ الدراما التركية بمثابة الخيار الأفضل لدى صناع الدراما العربية، وخاصة السورية واللبنانية، الذين لم يترددوا في تكرار التجربة مراتٍ متتاليةً

لم يدرك هؤلاء أن سعيهم لـ"أتركة" الدراما لن يؤدي إلا للمزيد من تراجع الدراما العربية وفسح المجال أمام منافستها التركية لتكون الحاضر الأكبر على الشاشات العربية، برغم أن الدراما العربية تظل الأقرب إلى الشعوب العربية، لأنها الأكثر تعبيراً عن قضاياها برغم كلّ علّاتها.

كاتبة الدراما وصاحبة التجربة الكبيرة في عملية دوبلاج المسلسلات التركية، السورية هنا إبراهيم انتقدت استنساخ الدراما التركية وتحويلها إلى دراما سورية أو لبنانية أو حتى نقل الدراما اللبنانية إلى السورية، معتبرةً أن أيَّ عملٍ مدبلج أو مترجم لا يمكن نقلُه من ثقافة إلى أخرى أو من مجتمع إلى آخر لأن هذه الدراما خاصة بمجتمع معين.

وتقول في تعليق لنا: "من خلال تجربتي الطويلة في الدوبلاج والعمل على المسلسلات التركية اكتشفتُ أن أغلب الأعمال التركية لا تلامس الواقع والمجتمع التركي في حقيقته. هناك نوع من المبالغة في عدة أماكن. وهل هذه الدراما تشبه الطابع السوري؟ الأكيد أن الإجابة هي (لا)، ولا يمكن تطبيقها على أرض الواقع في المجتمع السوري. ولهذا أعتبر هذا الأمرَ نوعاً من تزييف حقيقة المجتمع".

وتضيف: "الدوبلاج يمكن أن يلعب دوراً هاماً في نقل ثقافات الشعوب الأخرى والتعرف عليها، وحتى هذا يسير مع الأخذ بعين الاعتبار ما يلائم المجتمع المتقبل للأعمال المدبلجة. ولهذا خلال تجربتي في الدوبلاج كنا نقوم بكثيرٍ من التغييرات بما يتناسب مع الفكر السوري؛ مثلاً العديد من المفردات تتغير، والعديد من الجمل يتمّ حذفها، والأمر ذاته مع كمّ كبير من المشاهد في المسلسل.

لكن السلبي في الدوبلاج والاستنساخ هو أن يتحول إلى مدمّر للدراما الحقيقية التي تعودنا عليها؛ فمثلاً اليوم هناك العديد من الأعمال الدرامية السورية الغير حقيقية. يعني أستطيع القول إنه بين عشرين عملاً نتابعه في رمضان، لن نجد أكثر من عملين يلامسان أرض الواقع أو يقتربان من الصورة الحقيقية لواقع المجتمع السوري، على غرار مسلسل (كسر عظم) الذي يحاكي واقعنا، وقد يبدو في بعض النقاط مجملاً بعض الشيء. لكنه عموماً نجح في ملامسة قضايا حقيقية. وبالنسبة للممثلين، فإنهم يعتبرون هذه الأعمال نوعاً من (البزنس)، وتدخُل في إطار عملهم. لهذا فهم قادرون على تقديم أي شخصية ومن صميم اختصاصهم المتمثل في اللعب بالشخصيات وتحويلها للصورة التي يريدها المخرج أو بما يتناسب مع النص".

وحتى اليوم يبدو أن تعريب المسلسلات التركية أو استنساخها هي ظاهرةٌ بصدد الاتساع مع توجّه شركات الإنتاج الكبرى لنقل عدد هامّ من المسلسلات التركية. لكن تبقى مسألة استمرارها ومدى صمودها أمراً غير محسوم في ظلّ تململ الجماهير اليوم، والانتقادات الواسعة التي أطلقوها على مسلسل "ستيلتو" ونجومه، وإقرار عدد كبير من دول عربية مختلفة بأن كلَّ ما يقدم في مثل هذه الأعمال لا يمت بصلة إلى المشاهدين العرب، لا على مستوى المضمون ولا الصورة ولا الأماكن، وحتى الممثلون تمّت "أتركتهم"، فلم يفد وجودهم في شيء.

وفي هذه الأثناء ما هو مؤكد أن الدرامية العربية تعيش أحدَ أسوأ مراحلها في ظلّ سيطرة الباحثين على ركوب التريند، والساعين للمزيد من تسطيح العقول في المنطقة، بذريعة ما يطلبه الجمهور الذي أُثبت مراراً عدم جدواه، وغير المكترثين لواقع الشعوب العربية بكلّ شرائحها ومشكلاتها وتطلعاتها إلى دراما وسينما تعكس قضاياهم بصدقٍ وبلا تجميل وإسقاطات زائفة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image