تلبيس إبليس على الكاتب التعيس... جناية الخلجنة على النقد

تلبيس إبليس على الكاتب التعيس... جناية الخلجنة على النقد

ثقافة نحن والحرية

السبت 12 يوليو 20257 دقائق للقراءة

 استثناء واحد، للنجاة من غواية الخليج، يؤكد القاعدة. الخليج، بثقله المالي، فخٌّ ينجو منه أولو العزم وحدهم، قضى على مشاريع مبدعين لهم الله ولهم ما سلف من أعمال في أيام البراءة. أما النقاد فلهم الأموال الآيلة إلى الورثة. ندّاهة الخليج بريئة من طمس الأحلام قصيرة العمر. في البدء يقررون الاكتفاء بسنة واحدة لسداد الديون. يسددون الديون، فيبدأ المسلسل... سنة لشراء شقة، سنة لشراء سيارة، سنة لبناء بيت فالأولاد يكبرون، سنة لتأمين المستقبل بوديعة بنكية. بعد خمس سنين سمان يخشون مواجهة أنفسهم، يستخسرون الرجوع، كيف يتركون أموال الخليج؟ وقد فرقهم البِعاد عن رفاق في مصر لا يزالون على باب الكريم، لا يذوقون طعم المال، يعيشون حياتهم Economy. الاصطلاح لا يخص درجة السفر بالطائرة، قرأتُ أن أصله باليونانية Oikos، بمعنى المنزل، أي تدبير إدارة البيت بفنون الاقتصاد.

صلاة المسيح "لا تدخلنا في تجربة" نجّتني من غواية. حضر مسؤولان لاختيار صحفيين في جريدة خليجية جديدة. جرت المقابلات في مكتب زميل أثناء زيارتي له. عرض عليّ لقاءهما فرفضت. اقترح بضع دقائق للدردشة. تكلمنا في عموميات، ثم في قضايا مهنية، انتهت بكلامي عن معايير رويترز التي تضمن المصداقية للوكالة الدولية. سألني أحدهما: هل تطبق هذه المعايير في عملك بالأهرام؟ قلت: لا. وخرجت ليكملا المقابلات.

فاجأني زميلي بأنهما يصرّان على سفري. آنذاك كان ياسر الزيات متحمساً للسفر، وأغراني بأننا سنقابل هناك بشراً من الشرق والغرب. ثم عاد بعد شهور خائب الأمل في التجربة. زميلي، الذي سافر مع المسؤوليْن، سيتقاعد هذا العام. قامت في مصر ثورة عظيمة، الْتهمتها موجتان من القوى المضادة للثورة، ولا يزال هناك. ياسر الزيات قرأ المشهد مبكراً.


الناقد التعيس يتجاهل مشاريع قديمة علاها الصدأ. ينسى السنين الخمس الأولى، ويحصي اغترابه بالعقود، وتراكُم النقد بمعنييه المالي والكتابي، ولا تسعفه ذاكرته بتذكّر شروط العبودية المختارة، فيراجع جدول الالتزامات

زميلي الشاب، الذي كان يكتب الشعر، لا يزال في الخليج، يستمرئ البعاد. لم يعد بالطبع شابّاً ولا شاعراً، هجره الشعر الذي يغار ويأبى أن يكون على هامش الاهتمام. الإبداع سلطان يستعصي على من يتخذه مجرد برستيج. بقيتْ من الشعر أدوات اللغة عند صاحبي الذي غادره الشباب والشعر. هروب الشعر عوّضته سلطة التحكم في النشر في المؤسسة الخليجية.

في كل زيارة يجمع ملفات في الإبداع، ويعِد أصحابه بإرسال المكافآت. ثم لا يرد على أحد. تباعدت زياراته للقاهرة، وحملتْ إليّ المصادفات قصاصات وصفحات فيها قصصي المنشورة. لا تأتي أي مصادفة بالمكافآت، دائماً تستعصي الفلوس. مرة واحدة جرّبت الاتصال. جاءني صوته آليا محايداً، منزوع الألفة والدفء. تجاهل الإشارة إلى المكافأة، وهو الذي طلب القصص. تسلّمها ولم أرسلها. سألته فأجاب: "يصير خير". لم يقل كعادتنا في مصر: "ربنا يسهّل"، أو "إن شاء الله". في تلك المكالمة، الأولى والأخيرة، استنكرتُ لهجته غير المصرية. حين قال: "يصير خير"، أشفقت عليه، تمنيت شفاءه، وزهدت في المكافأة. وددت لو أن الرد مصري، والبساط أحمدي، بدلا من التماهي من غير ضرورة.

 التماهي، بمعنى الاستلاب الطوعي، سلوك غير حميد، لا يحبه أهل البلد، يحترمون الغريب المحتفظ بعاداته. التقليد مدعاة لقلة القيمة والسخرية. حضرتُ في نيودلهي، عام 2012، حفلاً رسمياً استبقه صديق عربي بشراء زيّ تقليدي، لبسه مجاملة للهنود الحاضرين، فتغامزوا قائلين إن هذا الزي كان خاصّاً بالعبيد والخدم، ويباع لأغراض ليس منها الاستعمال الطبيعي.

استعارة المفردات لا تختلف كثيراً عن استعارة الزيّ المحلي. إذا استبعدنا الجينز باعتباره زيّاً عولمياً، فإن الأزياء والخطاب الاستعمالي اليومي جزء من الهوية، تلخيص للخصوصية. في سيرته "رحلتي الفكرية" كتب الدكتور عبد الوهاب المسيري أنه لكي يعبر عن الهوية، في نهاية رحلته الأمريكية، غيّر بعضا من سلوكه، فارتدى "جلباباً ريفياً في الحفلات التي تقام لتوديعي في الولايات المتحدة حين حصلت على الدكتوراه، إعلانا عن أن عودتي ليست مجرد عودة جسدية وإنما عودة روحية". وعن تجربته السعودية قال: "كانت السيدة السعودية تسير إما محجبة تماماً وإما منقبة، وبجوارها خادمتها الفلبينية تلبس الجينز وتدلي شعرها! ولله في خلقه شؤون!". لا تختلف الفلبينية عن الخادمة العربية المسلمة في الحجاز. لم يكن مسموحاً لها بالنقاب الذي يعتبر زيّاً طبقياً للتمييز.

 فلماذا يا صديقي السابق تستعير لهجة في الكلام مع ابن بلدك؟ التنازل يُطمع فيك أهل البلد، لا تستهن بذكائهم. في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة، قبل سنوات، سمعت سينمائياً مصرياً مسنّاً يمتدح شابات خليجيات، يقول لهن إن أفلامهن الأولى، المتواضعة بحكم السن والتجربة، تتسم بروح ما بعد الحداثة وطموح جان لوك غودار. يزداد التملق والمبالغة ولا تفتح أبواب الخليج للعجوز التعيس.

في البدايات البريئة، يواصل الناقد مشاريع حملها إلى الخليج. ينجز بعضاً منها بفضل الوحدة، وفراغ يتيحه الاكتفاء بعمل واحد. بالتدريج تبدأ الخلجنة. دعوة إلى ندوة أو ملتقى محلي، دراسة عن قضية أو عمل محدد لشاعر أو روائي، تحكيم جائزة محلية. للمشاركة البحثية مكافأة، وينشر المقال في صحيفة أو مجلة محلية بمكافأة أخرى.



الناقد المتخلجن تحدثه نفسه بأنه لا ضرر من كتاب يمرّ، لكنه لا يمرّ، الرمال تحت الأقدام تتحرك، والموجة تدفعه إلى الشاطئ للطمأنة، وسرعان ما ترتد إلى العمق بأقوى من القدرة على الثبات. لا مجال للعودة

 يتأجل الطموح إلى تنفيذ المشاريع القديمة، وبالتقادم تبرد في يدي الناقد فيفقد الحماسة، الأدق أنه يخشى التصدي لما يحتاج إلى جهد، يخاف أن تفضحه ذهنية اعتادت السباحة بجوار الشاطئ، ولا تقوى على اعتلاء الموج ومصارعته. وفي هذا التردد ومراجعة النفس، يتلقّى عرضاً بتطوير البحث إلى كتاب، والمكافأة حاضرة ومغرية، وأصحاب النصوص يريدون اسماً من خارج الحدود يكسبهم شرعية حضور ملتقيات عربية وأجنبية. الناقد المتخلجن تحدثه نفسه بأنه لا ضرر من كتاب يمرّ، لكنه لا يمرّ، الرمال تحت الأقدام تتحرك، والموجة تدفعه إلى الشاطئ للطمأنة، وسرعان ما ترتد إلى العمق بأقوى من القدرة على الثبات. لا مجال للعودة.

الناقد التعيس يتجاهل مشاريع قديمة علاها الصدأ. ينسى السنين الخمس الأولى، ويحصي اغترابه بالعقود، وتراكُم النقد بمعنييه المالي والكتابي، ولا تسعفه ذاكرته بتذكّر شروط العبودية المختارة، فيراجع جدول الالتزامات: مقالات تنشر في منابر محلية عن كتّاب محليين، ونصوص مطلوب تحكيمها، ومشاريع كتب. ويكرر نفسه بكتابات لا تختلف كثيراً إلا في عناوين الإبداعات وأسماء مؤلفيها. صار قريباً منهم قربا لا يمنحه شرف الاندماج، يسكن خانة "المقيم"، غريباً يعمل بِلُقمته.

لا يتجدد؛ فلا يسعفه الوقت، ولا تستفزه نصوص تدعوه إلى تطوير أدواته. وقد يتبدد آخر ما كان يعتزّ به ويحرص عليه قبل السفر، يفقد عزّة النفس، ويفخر بقائمة أعمال في سيرة ذاتية تفوح منها رائحة الغاز، مضافاً إليها أحياناً منصب "مستشار" لمسؤول محلي فقير الموهبة.

في السنوات الأخيرة أضيفت إلى الناقد المصري المتخلجن مهمة جديدة. مشهّلاتي، كفيل ينوب عن كفيل، خولي ينتقي نفرًاً من عمال تراحيل الثقافة، كلما أرادوا تجميل معارض الكتب وغيرها من الأنشطة الثقافية والفنية برمز مصري، ليكن طه حسين، نجيب محفوظ، أم كلثوم. لا تفكير في أمثال أحمد لطفي السيد أو سلامة موسى.

 نموذج وحيد، ممن أعرف، يظل مثالاً للنجاة. استثناء واحد يثبت القاعدة. حالة نادرة من الوفاء بالتزام تجاه الوعي، والاعتزاز بالذات. ليس في هذا المثال ادّعاء لبطولة، الصدق يوجب الاعتراف بأن أحداً في الخليج لا يطلب إلى"المقيم" تنازلاً. هناك من يبادرون إلى الابتذال. يُرضون أبناء البلد ولو بارتداء زيّ الخدم، عن عمد، لا عن غفلة كما فعل صاحبي العربي في بلاد الهند.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image