الحواس
انتُزع الشرّ من مكائد الشيطان (ليس تماماً) وتمّ حصره في الذات البشرية، فلم يعد هناك عوالم خفية أو غامضة ولا مخلوقات وظيفتها "إغواء" البشر وحرفهم عن طريق الصواب أو "اللعب" بمشاعرهم ليأتوا هذا العمل السيء أو ذاك.
صار الإنسان، ذلك الكائن الصغير، المهووس، الهادئ، والجبّار أحياناً، مسؤولاً عن أفعاله، نظرياً على الأقل، وانتقلت الشرور من موقعها في "الخارج" إلى داخل الإنسان، وبدأت الاتهامات لتقسيم الجسد البشري إلى أعضاء سامية وأخرى دنيئة، سامية تمجّد الرب وتشكره على ما يقدّمه من أطايب للأعضاء الدنيئة! ولم يعد مجدياً القول "وسوس لي الشيطان"، فالشيطان أصبح أنت أيها البغل.
كان الاتهام الذي يوجّه للساحرات مبنياً على ثلاثة اتهامات رئيسية، الميثاق مع الشيطان، احتفالات يوم السبت والسرقة من الهواء، وكانت الساحرات مجبرات على الاعتراف، نتيجة التعذيب الذي يتلقينه، بكل ذلك.
إحدى الساحرات وكان اسمها جين فوييه، سُئلت في الاستجواب عما إذا قام الشيطان بإنزال ثيابه وإظهار مؤخرته! ولما أجابت بنعم، تهرباً من التعذيب المستمر، سُئلت مجدداً: "أكانت مؤخرته ساخنة أم باردة؟!". فأجابت بكلّ حس السخرية الذي يمنحه اليأس: "لم أتذوّقها بلساني الذي أقدّس به الرب وأقرأ (السلام عليك يامريم)".
في حديث منسوب للنبي محمد، قال: "مَنْ وُقِيَ شَرَّ ثَلَاثٍ فَقَدْ وُقِيَ الشَّرَّ كُلَّهُ: لَقْلَقِهِ ، وَ قَبْقَبِهِ، وَ ذَبْذَبِهِ". في هذا المختصر الكوميدي نضع أيدينا بدقة على منبع الشرور كلّه، في العالمين الفوقي والسفلي، ونستطيع أن نجد أتباعاً للشيطان في أجسادنا نفسها... مجاز
بالنتيجة، انحصر الشرّ أو مأتى الشر والخطيئة في مجموعة من الأعضاء "السافلة" التي تختزنه وتتعاطاه في نشاطها العادي، ومن تلك الأعضاء بالطبع اللسان، البطن والأعضاء الجنسية، إذ شكّل هذا المثلث على الدوام، وفي العديد من الثقافات "محور شرّ"، منه تأتي الخطيئة وبسببه ينحرف الإنسان ويضلّ عن تعاليم الربّ، أي ربّ، وفي الامتناع عن الصوم وممارسة الزنا، في الشكّ والتساؤل، دلالات عدّة عن ماهية الانحرافات تلك.
في حديث منسوب للنبي محمد، قال: "مَنْ وُقِيَ شَرَّ ثَلَاثٍ فَقَدْ وُقِيَ الشَّرَّ كُلَّهُ: لَقْلَقِهِ ، وَ قَبْقَبِهِ، وَ ذَبْذَبِهِ"، وفي حديث آخر تغيّر فيه الترتيب، وجبت الجنة له. في هذا المختصر الكوميدي نضع أيدينا بدقة على منبع الشرور كلّه، في العالمين الفوقي والسفلي، ونستطيع أن نجد أتباعاً للشيطان في أجسادنا نفسها، تأتمر بأمره لا بأمر الله، وتتبع خطاه، كأنها "عميل سري" وضعه الشيطان ليقوّض النقاء الذي أراده الله في الجسد البشري، وفشل في تنقيته.
الزبّ ربٌّ للنساء، يمقنه ويخفنَهُلو يستطعن أكلنه، من شهوة، ورشفنه
لَقْلَق: ثبات ما لا يثبت
وقع اللسان في محظورين، الكلام والتذوّق، وإذا كان للتذوق الممنوع حرية الاستخدام بعد الخطيئة الأولى، فإن ثمرة التعبير المحرّمة ما زالت قائمة، وتضعنا أمام معضلة سجّلت تاريخاً عنيفاً غالباً وضحايا مستمرين.
تأتي كلمة "لَقْلَق"، التي تشير إلى اللسان، من عدم ثبات ولجلجة في فهم المعنى ناهيك عن إيصاله، اللسان اللَقْلَق، لسان غير خبير بما يريد، بما يود التعبير عنه، تملكه امرأة ذات "ضلع أعوج ولسان متلجلج" غالباً، يقابله من الناحية الأخرى اللسان القوي الذي يعرف ما يريد التعبير عنه ويفهمه، لسان الرجل، النبي، الإله، لسان يقول المعنى ولا يبطنه، يصرّح، لا يخاف من الأذى الذي تصنعه الكلمات.
لسان "بيّن"، لا تصيبه حبسة ولا "لَقْلَقة"، وهذا اللسان هو اللسان "الإسلامي" الصحيح، الذي لا يودي بصاحبه إلى حيث موضع الشرّ. اللسان يؤلم، اللغة تؤلم حين نورد ملاحظات غير سارّة، لئيمة: جفاف اللسان يفضي إلى جفاف اللغة.
اللسان ضلع من أضلاع الشر الثلاثة، ويقال للمتحدث بلغة غير لغته إنه يمتلك لساناً آخر، كأن التحدث بلغة أخرى يفترض امتلاك وعي ومنظومة فكرية وتعبيرية مختلفة، تماثل امتلاك لسانين وآليتي تعبير، وهذا منبع للشرّ وإمكانية التفلسف وبالتالي الشرك.
ومع ذلك، اللسان المثبّت على عظمة صغيرة هشّة (العظم اللامي) كأنه مثبت في الفراغ، له مطلق الحرية في الحركة والالتواء، فما بالك بمن يمتلك اثنين منه، يتذوّق بهما الطعوم، يبلع، يقبّل، يلحس الفروج ويمصمص، وبالتالي استحق هذه المكانة الشيطانية: لسان عاهرة، لسان أفعى، لسان متشعّب، هذا الذي يؤلم أكثر من عثرة القدم، ومن ضبط لسانه على نحو ما فقد استحق الجنة، وكأن الجنّة مخصصة للخرس والحامدين فقط.
القَبْقَب: فراغ ممتلئ بالفراغ
البطن بيت الداء كما قالوا، متناسين عوامل عدة "تجلب" الداء أيضاً، لكن التصريح اللغوي بهذا الشأن وهذا اللفظ يضع البطن أيضاً موضع القلق وعدم الثبات. عندما "يقبقب" الشخص يهذر، ويخلّط كلامه بالهذر، وهذا ما تفعله البطن غير النبيلة، تخلط الأطعمة والأنبذة، وتقرقر وتقبقب حيث لا ينبغي لها فعل ذلك.
اللسان اللَقْلَق، لسان غير خبير بما يريد، بما يود التعبير عنه، تملكه امرأة ذات "ضلع أعوج ولسان متلجلج" غالباً، يقابله من الناحية الأخرى اللسان القوي الذي يعرف ما يريد التعبير عنه ويفهمه، لسان الرجل، النبي، الإله، لسان يقول المعنى ولا يبطنه، يصرّح، لا يخاف من الأذى الذي تصنعه الكلمات... مجاز
المعدة عضو غير محبوب، معلقة بدون حاجة، مبرمجة لإنتاج أكوام من المواد المقززة ولإطلاق ضرطة بين حين وآخر، هي جزء حميمي منا لكنه جزء قذر، نخجل منه، كابن عاق وخرّيج سجون ويتعاطى أنواعاً مختلفة من الموبقات، أن تتلبك معدتك يعني أن تكون خارج المجالس وخارج "الأدب"، وبالتالي لا تمتلك الصيغة المثالية للمؤمن المثالي: سحبل، صقال، قفساء، غيهبان، ضروطة ونهمة، كلّها تشغلك عن بيت الفكر ببيت "الخراء".
برّأت العلوم الحديثة المعدة من دونيتها في سلّم الأعضاء، بل ذهب البعض للتدليل على الحسّ السليم للفلاسفة في "أخلاقيات التغذية" التي تفضي إلى مثاليات التفكّر، لكنها بقيت منبعاً مهماً للشرور.
يكتب ميترودور (فيلسوف أبيقوري يوناني 331-278 قبل الميلاد): "يالها من فرحة، ياله من تشجيع، لأنني تعلّمت من أبيقور أن أبهج بطني بشكل صحيح".
"خنازير أبيقور" يشغلون الرأس الأفلاطوني عن وظائفه النظرية في المعرفة والحكم، فالفلسفة الروحانية التي استولدت منها الأديان، تتوقع أن يكرّس الإنسان نفسه لله: أن تؤمن بإله سماوي يعني أن تتعلّم كيفية الموت جائعاً.
الذَبْذَب: مأتى الشرور
ليست الكلمة من الأسماء المعروفة للفرج الذي يستعمل في العربية للجنسين، وإن تشابهت في اللفظ مع كلمة "زب" الذكرية، ويُجمع على "أزباب" و"أزبّة"، ومؤنثه زبّاء، ومن هذا قول ابن الرومي:
أن تؤمن بإله سماوي يعني أن تتعلّم كيفية الموت جائعاً.
الزبّ ربٌّ للنساء يمقنه ويخفنَهُ
أصبحن يستجلينه جداً ويستنطِفنه
أعظمنه فدعونه ربّاً وإن صحَّفنه
لو يستطعن أكلنه من شهوة ورشفنه
يقع الذبذب أيضاً في نفس محنة عدم الاستقرار، إذ إنه متقلقل وباحث عن ما يدخل فيه أو يحتويه، فلا ثبات له ولا رأي يقرّ عليه قراره، فاستحق بذلك، من عيني النبي أو قائل القول، أن يكون ضلعاً للشرّ، لكنه في استخدام اللفظ هذا يقصد على الأكثر تحكّم الرجل بعضوه، وعدم "رميه"، "شكّه"، "غرسه" في أي لحم والسلام (رغم صعوبة الأمر، خصوصاً أن القائل اعتاد زرع "ذبذبه" في أي فتحة معقولة)، يصحّ فيه قول أبي النواس:
إنّ لي أيراً خبيثاً/ عادمَ الرأسِ فَليتا
لو رأى في الجوّ صدعاً/ لنزا حتى يموتا
أو رأى في السّقفِ دِبراً/ يتحوّل عنكبوتا
أو رآه جوفُ بحرٍ/ صارَ للأنعاظِ حوتا
محنة "الزبّ" عظيمة، فهو من ناحية قلق، رجراج، يبحث عن مستقرّ ليرهز ثم يقذف ثم يستكين، ومن ناحية أخرى يجب أن يتحكّم في دخوله وخروجه بحدّي الحلال والحرام، ناهيك عن حدّي العذرية والتحصين، وهو محاصر أيضاً برغبة النساء اللواتي يردن أكله ورشفه، في قيامه، ويعرضن عنه في استكانته، فهو لا يكون "زبّاً" إذا استكان ونام، إنما "حمامة"، قطعة لحم محصورة وظيفتها في التبوّل ودلالة النوع، والخطر يأتي من "ذبذبته"، من قلقه الذي يرتفع في العروق ليملأها ويخرج للطعان ولملء تلك "الحفرة السوداء، حفرة الشيطان"، الهاوية التي تفغر فاها لابتلاعه وجرّه للخطيئة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...