شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ثلاث قصص متخيلة عن أخطاء الوحي

ثلاث قصص متخيلة عن أخطاء الوحي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 12 نوفمبر 202201:30 م

حياكة الكلام

 

في القصّة أن محمداً أملى يوماً على عبد الله بن أبي السرح: ﴿وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَاٰنَ مِن سُلَالَة مِّن طِین، ثُمَّ جَعَلنَـاهُ نُطفَة في قَرَارࣲ مكِین، ثُمَّ خَلَقنَا النُّطفَةَ عَلَقَة فَخَلَقنَا العَلَقَةَ مُضغَة فَخَلَقنَا المُضغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لَحماً ثُمَّ أَنشَأنَـاهُ خَلقاً آخَرَ...﴾، فاستحسن عبد الله هذه الآية وقال: "تبارك الله أحسن الخالقين"، فأعجبت الجملة محمداً وقال له: "اكتبها، هكذا نزلت".

في مكان آخر، كان الربّ يضحك: "فعلتموها ياأبناء الكدر".

خطأ يقارب الصواب

كان الملاك العجوز يشعر بالملل والإهمال من المهام الصغيرة التي تُلقى على كاهله المرتعد، وكأنه طالب غرّ في المعجزات: تقليم الشجيرات لعائلة من المزارعين في آسيا الوسطى، إحضار دفتر رسم كبير وأقلام تلوين لطفل في مجاهل إفريقيا، اقتحام أحلام عجوز وإخبارها أن وحيدها مازال على قيد الحياة في حرب أهلية في الشرق الأوسط... كانت مهاماً تافهة، لا تليق بالملاك الذي قيل إنه يحمل ستمائة جناح، ويتمتع بقوة جسدية هائلة تجعله يحمل كلمات الله بخفّة كأنها ورق سجائر، الكلمات نفسها التي لا يجرؤ أحد على التفكّر بمعانيها، ناهيك على حملها، كانت تتخفّف بين يديه حتى تصبح عهناً قديماً عابراً، وتتوه الدلالة فلا تقود إلى ثقل أو خدر.

كان الملاك بالكاد قد ارتشف أول رشفة من فنجان قهوته عندما وصله الهاتف الإلهي، قال لنفسه: "مهمّة جديدة! ربما هي تحضير البيض المقلي لمعتوه رأى الله في نومه، أو مساعدة امرأة عفيفة على نشر كيلوتاتها النظيفة تماماً من النشوة، أو قرع الدفوف مع مجموعة من الصوفيين القذرين".

حرّك السكّر من جديد في الفنجان، ونظر نحو النافذة المفتوحة على جبال السماء، كانت الكلمات المقدّسة تتطاير جذلة في فضاءات الجنّة، والكلمات المدنّسة تقعي على ذيلها بحذر، ومن بعيد لاحت له جموع عمّال النظافة ومقلّمي الأشجار: "يجب أن أبحث عن عمل إضافي. هذه المهام الصغيرة لا تكفي مصاريف قصر كهذا. ولا تليق بالتأكيد بمن قال عنه الرب إنه ذراعه اليمنى... يا للهول".

تلقى التكليف بيد مرتاحة: "أمممم... نبي جديد؟ وكأن شيئاً قد ينفع مع هؤلاء البشر الملاعين". قال في سرّه: "ليس اليوم. غداً ربما أو بعد غد. ماذا يعني تأخير يوم أو اثنين في عمر رسالة كهذه؟".

جال الملاك في أنحاء العالم بحثاً عن النبي الذي وصفه الرب بأنه صادق أمين فحسب، كأنها علامات مميزة، مثل لون العيون أو الطول. عينا الملاك الضعيفتان عجزتا عن تبيّن الشخص المنشود. كان مصاباً بمد النظر الشيخي، فلا أحد يعلم كم عمره، لكن يقال إنه خُلق قبل أن تعرف الشجرة ضرورة مدّ جذرها في التربة... مجاز

كان ذلك قبل ألف سنة من نزول جبريل إلى النبي وإلقائه ذلك التصريح العنيف: "اقرأ".

اليوم صار دهراً والرسالة احترقت أطرافها وأصبحت تشير إلى معنى مختلف عما أراده الرب. تباطأ الملاك ونسي الرب، في زحمة أعماله الجليلة، أمر الرسالة، لكن الأخطاء البشرية كانت تتراكم حتى صارت قدر جبل أُحُد والكعبة مطمورة تحت أطنان النفايات.

خطأ ثان

جال الملاك في أنحاء العالم بحثاً عن النبي الذي وصفه الرب بأنه صادق أمين فحسب، كأنها علامات مميزة، مثل لون العيون أو الطول. عينا الملاك الضعيفتان عجزتا عن تبيّن الشخص المنشود. كان مصاباً بمد النظر الشيخي، فلا أحد يعلم كم عمره، لكن يقال إنه خُلق قبل أن تعرف الشجرة ضرورة مدّ جذرها في التربة، وقبل أن تدرك الطيور أن جناحين رقيقين قادران على التحليق في الهواء. كان ملاكاً قديماً كالزمن نفسه. "ياللجحيم": قال، "أكان صعباً عليه لو أراني إياه في بللورته السحرية؟".

جلس في حانة مرتجلة على أطراف الصحراء. وطلب دنّاً من الخمر، وأخذ يراقب الموجودين في الحانة. كانوا خليطاً من لصوص الماشية وقطاع الطرق والمشعوذين والنطاسيين، وبعض كتّاب الحيل الكيميائية وشذّاذ الآفاق والشعراء الجوالين، وبين الحين والآخر كانت تطلّ امرأة بعيون سوداء، تجول نظرها في الحضور السكران، وتختار أحدهم بأن تلقي نظرة طويلة إلى آلات الرجال المنتصبة تحت ثيابهم، ثم تومئ وتذهب.

بدأ الراعي بقص حكايات عن شعوب وقبائل ملوّنة بألوان قوس قزح، وعن نساء ينبتن كالثمار على الأغصان، تستطيع أكلهن أو مضاجعتهن، ثم يعدن كاملات إلى الأغصان،

"لماذا لم تخترني هذه العاهرة، ويختارني الرب لمهمة أشبه بالعهر؟": قال لنفسه، ثم تأمّل في كتاب التكليف الذي يحمله في يده. كان يحوي اسماً يقع تماماً عند الطية. وإضافة ليده المتعرّقة ونقاط الخمر التي سالت على الكتاب في حانة أخرى. لم يبدُ من الاسم إلا لطخة غامضة. الحرف الأول كان ميماً بالتأكيد، لكن البقية؟ ما الاسم الذي ذكره الرب؟

تساءل الملاك في سرّه، وكان سرّه مخموراً وعلى قدر كبير من التيه والحيرة، كان سرّ ملاك حائر.

خرج ليكمل بحثه. كان قد بلغ به الملل حداً لم يطقه ملاك قبلاً، والملائكة الملولة تسقط في الاختبارات وتتحول إلى غيوم أحياناً. عندما مرّ على مغارة وقرّر النوم فيها آملاً أن يهديه النوم حلاً سحرياً. سقط في النوم ووقع الكتاب من يده.

قال الملاك: "اقرأ". قال الراعي: "أظنّك تقصد، قُلْ، احكِ، أو اتلِ، مشافهة، فلا قراءة إلا من نص مكتوب ومدوّن، أو أنك تعبث بي وبمخيلتي. أتعلم، أنا ضجر منكم، من الآلهة التي تظن أن العالم يسير على الشأن الذي تشاء بينما يسير القمل في خصاها ولا تملك أن تفلّيه، لماذا لا تقول لي ببساطة من أنت وماذا تريد؟"... مجاز

في اليوم التالي، كان ثمة راع لاهٍ يحصي أغنامه، ودخل الغار ليضع فيه حوائجه وحيرته. عندما وجد كتاباً مطوياً. فتحه بتلهّف ظانّاً أنه يحتوي كنزاً، فسمع صوتاً هادراً يقول: "اقرأ".

لستُ هو

انتهى الراعي من تخليص جنين جديد من أمه، وتركها تساعده على الوقوف. كانت قدماه ترتجفان والأم تدفعه بلسانها على النهوض. فكّر بأن الولادات الجديدة ستساعده على اقتناء لباس جديد وربما حصير أيضاً. وفكّر بأن الولادات الجديدة تعني أرقاماً جديدة تضاف إلى أرقام قديمة.

تساءل الملاك في سرّه، وكان سرّه مخموراً وعلى قدر كبير من التيه والحيرة، كان سرّ ملاك حائر.

مسح العرق عن جبينه وطفق يبحث عن مكان ظليل يرتاح فيه ويزدرد اللقيمات القليلة التي تحويها صرّته.

كانت الصحراء في تلك الآونة ما تزال بكراً: الرمل يتدحرج بملل والرياح تستأذنه بالهبوب، الغيوم القليلة المتناثرة بالكاد تعرف مهمّتها والأشواك تتعانق كأنها ترقص.

جلس في ظلّ صخرة عظيمة، بينما هدرت ستمائة جناح فوق رأسه في أزيز هائل.

بدأ الملاك الملول بالقول: "اقرأ".

ردّ الراعي الأكثر مللاً: "أين النصّ لأقرأ منه؟".

أعاد الملاك: "اقرأ".

قال الراعي: "أظنّك تقصد، قُلْ، احكِ، أو اتلِ، مشافهة، فلا قراءة إلا من نص مكتوب ومدوّن، أو أنك تعبث بي وبمخيلتي. أتعلم، أنا ضجر منكم. من المعلّمين الذين يظنون أن كل شيء سهل للآخرين، من فلاسفة العصر، من مدرّبي التنمية الخرائية، من الآلهة التي تظن أن العالم يسير على الشأن الذي تشاء بينما يسير القمل في خصاها ولا تملك أن تفلّيه، لماذا لا تقول لي ببساطة من أنت وماذا تريد؟".

قال الملاك: "معك حق. وأنا أيضاً مللت من المقاصد التي لا تدرك والألغاز غير المفهومة. أنا ملاك وأحمل لك رسالة من الرب".

قال الراعي: "لا أحب الرسائل، وبالكاد أحفظ اسمي واسم زوجتي وكلبي، عندي ولادات متعثّرة... هل تحفظ بعض القصص الجيدة؟".

قال الملاك: "الكثير منها".

وبدأ الملاك يخبره قصصاً عرفها أو رآها في حياته التي بدأت عندما كان الأزل طفلاً صغيراً يحبو والأبدية كانت شريطاً ملوّناً يرفرف في الفراغ. قصص عن الأنبياء السابقين، وكيف أنهم ضاعوا في مقاصد الرحمن، وعن مقاصد الرحمن غير المفهومة كأنها هذر مخمورين، وبدأ الراعي بقص حكايات مختلفة سمعها من جوّابي الآفاق، عن شعوب وقبائل ملوّنة بألوان قوس قزح، وعن نساء ينبتن كالثمار على الأشجار، تستطيع أكلهن أو مضاجعتهن، ثم يعدن كاملات إلى الأغصان، وعن بلاد رمالها من البهار الثمين وحصاها من الأحجار الكريمة، طيورها تتكلم بلسان أنسي وعشبها لونه أزرق، ونسي الاثنان الرسالة، والرب ينتظر ضَجِراً على مائدة ضجره... إلى الغد يا أحبائي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image