شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
مصرف ليبيا المركزي: صانع الملوك... وآفة الحكومات

مصرف ليبيا المركزي: صانع الملوك... وآفة الحكومات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 28 نوفمبر 202201:12 م

هل تعرف محافظ بنك الإمارات أو قطر أو السعودية؟ ربما ستجد صعوبةً أكثر في معرفة حاكم البنك المركزي الألماني، وحتى البنك الفيدرالي الأمريكي، وذلك على الأغلب لأن محافظ/ حاكم البنك، شخصية فنية، لها علاقة إدارية رقابية على السياسة النقدية، ومهمتها غير ذات علاقة –مبدئياً- بالحياة العامة بشكل مباشر.

حسناً، في ليبيا، يمكنك أن ترى وضعاً مختلفاً، فلأسباب سياسية عدة في ظل الانسداد الراهن، تحقق للمحافظ السيد الصديق الكبير أمران؛ الأول أنه لا توجد جهة ذات شرعية عملية يمكنها إزاحته، فالبرلمان لا يحكم عملياً في طرابلس، وقراراته لا أثر لها، بما فيها قرار سابق بانتخاب محافظ جديد، ظهر اسمه، ولم يخرج من بيته بعد ذلك ليؤدي مهمته حتى الآن.

أما الأمر الآخر، الذي أفاد المحافظ، فهو قدرته على جمع الولاءات، وتفريقها أيضاً، إذا كانت ضده، فقدرة البنك المركزي على صرف اعتمادات التوريد لمختلف البضائع والسلع تجعل رضا السيد الكبير وغضبه حاسمين، في نيل المخصصات المالية وتسييل العملة الصعبة للاستيراد. وقد استفاد السيد الكبير من الوضع السياسي وازدواج الشرعيات، حتى بات تعطيل نهاية هذا الازدواج هدفاً للمحافظ ومن يواليه، فحسم قضية الوزارة الأولى سيعني لاحقاً حسم المناصب السيادية العامة، ومن بينها محافظ المركزي، وهكذا يمكن القول إن الأزمة السياسية هي أفضل "مصدّة رياح" يمكن أن يلجأ إليها محافظ المصرف.

وإذا علمت أن البلد الذي يعتمد في 98% من إيراداته على النفط، وهو ما يذهب إلى البنك الخارجي، التابع للمصرف المركزي، فستعرف أن ميزانية الدولة تخرج من تحت عباءة المحافظ، ومع الاختلاف والتناقض السياسي، سيكون شرط الحصول على تمويل أي حكومة رهناً بموافقة المحافظ أو رضاه، وهذا بالذات ما يجعله الحاكم الفعلي للبلاد، أو صانع الملوك على الأقل. لهذا فهذا المنصب هو طموح الجميع، إما للحصول عليه، لضمان ولائه، أو لتحييده على الأقل.

داخل المصرف... مصرف آخر!

ولكن هذا نصف المشهد، ومن خارج المصرف بالذات، أما بقية المشهد فهو داخل المصرف المركزي نفسه، إذ من المفترض أن يكون للبنك المركزي الليبي فرع رئيس، مقره طرابلس، مع فرع له في شرق ليبيا ومقره مدينة البيضاء. ومع انقسام البلاد، وعدم التوافق بين مجلس الإدارة والمحافظ، بات المحافظ في طرابلس وبقية أعضاء مجلس إدارته في البيضاء، وأصبح للبلاد عملياً مصرفان، من هنا أصبح هناك محافظان (شرقي وغربي)، مطلوب من كليهما تمويل مهام الحكومات شرقاً وغرباً، وأصبح كل منهما، يمول الحكومة التي تقع في نطاقه، مع الامتيازات الهائلة والاستثنائية لمحافظ البنك في العاصمة طرابلس، ليصبح الصراع على المنصبين معاً، مع محاولات مستمرة وفاشلة لتوحيد إدارة البنك.

 اتفق السيد باشاغا مع محافظ البنك المركزي على ميزانية تسيير لا تتعدى 3 مليارات ونصف، لكن هذا الاتفاق لم يرضِ أبناء المشير

رفض عقيلة الصامت

هذا ما يشرح إعلان مجلس النواب إقالة نائب محافظ المصرف المركزي علي الحبري، من منصبه في المصرف، وإنهاء عضويته ورئاسته للَجنتَي إعادة استقرار بنغازي ودرنة. ثم قرار النائب الأول لرئيس مجلس النواب فوزي الطاهر النويري، هذا الأسبوع، بإقالة نائب محافظ المصرف المركزي، وهو مكلّف كمحافظ أيضاً، وتكليف مرعي مفتاح رحيل البرعصي، بمهام محافظ ليبيا المركزي حتى تسلّم المحافظ مهامه (وسنعرف موقع السيد البرعصي لاحقاً). ووفقاً للقرار رقم "97" لعام 2022، وبحسب المادة الأولى، يُكلَّف البرعصي، كنائب لمحافظ مصرف ليبيا، وبمهام المحافظ حتى تسلم المحافظ مهامه، وكذلك بمهام رئيس لجنة استقرار بنغازي ودرنة.

لم يكن السؤال المطروح فقط حول مغزى إصدار نائب رئيس البرلمان بالذات القرار، بل حول توقيته أيضاً. ولأن كل شيء خلف السياسة ليس سوى المال، فلم تكن أهم الأسباب رفض السيد علي الحبري، تمويل حكومة البرلمان المكلفة برئاسة فتحي باشاغا، بل عدم رضا أبناء المشير خليفة حفتر، على طريقة أو آلية هذا التمويل. فالمشير خليفة حفتر، الحاكم المطلق في شرق البلاد، ثم أبناؤه، يرون في تمويل حكومة باشاغا مصدر تمويل لهم أيضاً. فماذا حدث؟

أبناء المشير... وتمويل التسيير

من أهم الملاحظات والانتقادات التي وُجّهت إلى حكومة السيد باشاغا، جمعه بين وزارتي المالية والتخطيط، في حقيبة واحدة، ثم تكليف أحد الموالين للمشير حفتر، وهو أسامة حماد (وزير مالية سابق)، كوزير للمالية والتخطيط، وقد حدث أن طلب السيد باشاغا ميزانية تسيير لا تتعدى 3 مليارات ونصف المليار، على أن تسلم للحكومة، ليتم صرفها وفقاً للتبويب المعدّ لذلك، وتم الاتفاق فعلاً مع محافظ البنك في البيضاء على آلية تمويل، بجزء أول قبل نهاية العام، على أن يُستكمل ذلك وفقاً لجدولة زمنية محددة للعام القادم.

هذا الاتفاق لم يرضِ طبعاً، أبناء المشير، ولا حليفهم وزير المالية والتخطيط أسامة حماد، الذي يريد الميزانية تحت تصرفه، أولاً، ثم أن تكون ستة مليارات بدلاً من ثلاثة مليارات ونصف، ومع عدم استجابة الحبري للشرطين، كان لا بد من إزاحته، وبقيت عقبة موافقة رئيس البرلمان عقيلة صالح، فتشكلت كتلة من النواب، وتم الكشف عن دعاوى وتهم فساد في إدارة صندوقَي إعادة إعمار كل من بنغازي ودرنة، المكلف بهما السيد الحبري نفسه، ومع زيادة الضغط، يمكنك معرفة أن إصدار تكليف المحافظ الجديد باسم نائب رئيس البرلمان، يعكس عدم رضا عقيلة صالح، الرئيس على ذلك، ما يعني أن الصراع بين باشاغا وعقيلة من جهة، وأبناء المشير حفتر ووزير مالية باشاغا من جهة أخرى، قد نتجت عنه إقالة محافظ المصرف في شرق ليبيا، بعد أن امتنع على المشير وأبنائه ضمان حصولهم على الأموال مباشرةً.

عقب اللقاء في المغرب، بين رئيسي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة عقيلة صالح وخالد المشري، عاد الحديث مجدداً عن المناصب السيادية، وخاصةً محافظ المصرف المركزي

مصرف واحد لا يهمّ... المهم أنه مصرف

عقب اللقاء في المغرب، بين رئيسي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة عقيلة صالح وخالد المشري، عاد الحديث مجدداً عن المناصب السيادية، وخاصةً محافظ المصرف المركزي، وقاد المشري رئيس مجلس الدولة، هجوماً مكرراً على الصديق الكبير، مبرزاً أن بقاءه في منصبه لأكثر من أحد عشر عاماً، أمر غير مبرر، سواء كان جيداً أو سيئاً، لكن الصديق الكبير وعبر السنوات الماضية استطاع إجادة التوقيت والفعل، وكان الصراع حول الحكومة والسلطة سبباً مهماً ليعيد موقعه في التوازن المناسب. ويبدو أنه سيستمر كذلك لفترة أخرى.

لكن ما يحدث الآن بات يعني عملياً أن الصديق الكبير ليس مهماً لكثيرين، وأن وجود مصرف مركزي آخر، يكفي ولو مؤقتاً للبعض الآخر، للحصول على المطلوب، ما يشرح بوضوح حقيقتين: الأولى أن التسوية السياسية غير مطروحة أو مستبعدة، طالما يستطيع الفرقاء الحصول على تمويل مالي في الوقت الراهن، وهو ما يتوفر للحكومتين مع وجود مصرفين مستقلين واقعياً. والثاني أن الحديث عن دور خارجي في الصراع الليبي، أمر غير واقعي، على الأقل في الوقت الراهن، فما يحكم الصراع طموحات شخصية وجشع سياسي لا أكثر، وأسطوانة الحرب بالوكالة انتهت، كما قال الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.

من هنا، لا تحتاج إلى أي توضيح لكون السيد مرعي مفتاح رحيل البرعصي، كنائب للمحافظ وقائم بأعمال المحافظ مؤقتاً، وهو المعروف عنه الولاء للقيادة العامة، سيكون مجرد واجهة لترتيب الحصول على ميزانية حكومة باشاغا، ولكن من دون باشاغا، ليصبح الحاسم في ذلك، موقف باشاغا نفسه، وقدرته على الصمود ومنع صرف الميزانيات من دون إدارته المباشرة. ولا شك أن شخصية باشاغا وصرامته، أمران واضحان ومهمان، ولكن واقعياً يبقى السؤال قائماً: إلى متى سيصمد باشاغا بالفعل؟ 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image