شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الحياة في المخيمات وصدمة اكتشاف أوروبا… كيف روى مخرجون عرب حكايات الثورة واللجوء؟

الحياة في المخيمات وصدمة اكتشاف أوروبا… كيف روى مخرجون عرب حكايات الثورة واللجوء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 2 ديسمبر 202204:53 م

في القاهرة المحتضنة مهرجانها السينمائي الدولي الأعرق في الشرق الأوسط وأفريقيا، عُرضت أفلام عربية متنوعة من حيث الموضوعات والمعالجات المطروحة والأساليب الفنية، ولكن ثمة تيمة مشتركة بين عدد منها تحرك أحداثاً على الشاشة الفضية، وتصنع تحولات كبرى، وتخلق صراعات داخلية وخارجية متقاطعة مع ماضينا القريب وحاضرنا الذي نعيش.

فقد شهد العالم العربي موجات من التظاهرات والاحتجاجات الشعبية لا تزال أصداؤها تدوي، وتجذب صناع الأفلام لتقديمها في بنيات سردية متباينة، إذ نجدها حاضرة بقوة داخل عدة أشرطة سينمائية في الدورة الـ44، تستهدف جميعها تتبع أحوال البشر ومصائرهم، وإن كان لكل منها خصوصيته ونهجه المستقل.

السباحتان: رحلة شقيقتين للأولمبياد

في عام 2015، فرت السباحتان يسرى وسارة مارديني من الحرب التي اندلعت في سوريا عقب الثورة، ونجَتا بحياتهما من القصف والحصار الخانق، وسعَتا وراء حلم المشاركة في أولمبياد ريو دي جنيرو.

كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر، وشاهدة على بطولة من نوع خاص، بعدما قفزت الشقيقتان من القارب الصغير المهترئ، الذي ينقلهما ومجموعة من اللاجئين إلى جزيرة لسبوس اليونانية، وتوليا دفعه وسحبه في المياه حتى وصل إلى بر الأمان.

أولت وسائل إعلام عالمية القصة اهتماماً كبيراً، وتابع كثيرون أخبارها بشغف وإعجاب، من بينهم المخرجة المصرية الويلزية سارة الحسيني.

تقرر الحسيني أن يكون فيلمها الروائي الثاني عن هذه الحكاية الملهمة، التي تستند في جوهرها إلى علاقة الشقيقتين إحدهما بالأخرى، مثلما كان الحال في فيلمها الأول "أخي الشيطان"، المتتبع حكاية شقيقين مصريين في لندن، تقول: "أردت أن أبرز الحب بين الأختين، ففي البداية تتنافسان ولكن يتحول الأمر إلى رابطة قوية مع نضجهما بالنهاية".

تفتتح المخرجة فيلمها المتاح حالياً على شبكة "نتفليكس" بلقطات تصف حال سوريا، تزامناً مع بداية خروج المظاهرات إلى الشوارع في 2011، إذ تنعم الفتاتان بممارسة الحياة اليومية في سلام، ثم تقفز بالزمن أربع سنوات لنشاهدهما ترقصان في ملهى ليلاً بينما تمطر القذائف على سماء العاصمة. 

توضح الصورة التي تقدمها الحسيني في الثلث الأول من الفيلم ما آلت إليه البلد بعد اشتداد الأزمة، وما طرأ على حياة الشقيقتين، وتحديدًا يسرى المتمسكة بالوصول للأولمبياد، لكن التركيز بالأساس ينصب على الاختلافات بين الشخصيتين؛ سارة المتمردة القوية، ويسرى المنضبطة المثابرة على حلمها، وعلاقتهما بالأب الذي يتولى تدريبهما على السباحة.

ورغم محاولات التقرب من حياة الناس العاديين في هذا الجزء، فهو يبتعد عن روح سوريا وهويتها العربية، نتيجة بعض الخيارات البصرية، واستخدام عدد من الأغاني الأجنبية في خلفية المشاهد الأولى، فضلاً عن الحوار الدائر بالإنجليزية بين الشقيقتين وابن عمهما غالبية الوقت.

ننتقل في الثلث الثاني إلى الرحلة الشاقة، التي تناولتها أفلام تسجيلية وروائية كثيرة تعرضت لقوارب الموت وأحلام اللاجئين بالفرار إلى أوروبا. نتابع تنقل الفتاتين بصحبة ابن عمهما بين الأراضي التركية واليونانية وصولاً إلى ألمانيا، في مشاهد تحمل لحظات تيه ولهاث وراء أحلام بعيدة ومشاحنات قصيرة وأزمات متفرقة، تمر دوماً بدعم ومساندة الأختين إحدهما للأخرى.

ورغم هذا، يبدو ما يحدث على الشاشة أقل مما تسعى المخرجة لإيصاله إلينا عبر الكادرات المتنوعة، كذلك تأتي اختيارات بعض الأغاني العربية منفصلة تماماً عن طبيعة المشاهد، ممّا يحيل بيننا وبين الاندماج معها.

أما الثلث الأخير فيخصص لمرحلة تدريبات يسرى في ألمانيا، وبحث سارة عن ذاتها وشغفها بعيداً عن سطوة أبيها. يغوص هذا الجزء في معاناة اللاجئين المحظوظين بالوصول إلى أرض أوروبية، وكيف يصدمون بواقع الروتين والإجراءات الطويلة التي تسرق أعمارهم وتغتال أحلامهم ببطء.

على الرغم من انضمام يسرى إلى فريق اللاجئين في الأولمبياد، ومن أنها تحمل قضيتهم على عنقها، فإن مصير الغالبية يظل معلقاً، مثل ابن العم، الذي كان يحلم بأن يكون منسق أغانٍ، ووجد نفسه مقيداً بقوانين لا مفر منها، والشقيقة الكبرى سارة التي نعلم في نهاية الفيلم أنها عرضة للسجن، بسبب عملها التطوعي مع اللاجئين. 

رحلة يوسف: تحية للمنسيين

بينما بحتفي "السباحتان" ببطلتين سوريتين حفرتا اسميهما في التاريخ، يركز المخرج السوري جود سعيد في فيلمه "رحلة يوسف" على المنسيين، الذين يُهجَّرون داخل أوطانهم، ويضطرون للبدء من جديد في بيئة قاسية تضعهم أمام اختبارات عدة، وتعرّضهم للموت في أي لحظة.

البنت، التي نتعرف عليها للمرة الأولى أثناء مشاركتها في إحدى المظاهرات، تؤمن بضرورة التغيير وتعي جيداً فساد والديها، وأخطاءهما التي لا تغتفر؛ لذلك تبدو مشاعرها نحوهما مزيجاً بين الحب والاستياء والرفض

يفتتح سعيد الفيلم بلقطة واسعة لثلوج الشتاء الموحشة، ثم ينقلنا إلى جثة مغطاة لأحد الشباب الذين حاولوا الهرب من القرية، ولكن كان مصيرهم الموت والتشويه بفعل الذئاب. نعلم منذ البداية أن النجاة باتت صعبة، مهما حاول الناس التمسك بالحلم والحياة، وما يبقى من الإنسان تطمس ملامحه، حتى يصبح طي النسيان.

وسط هذا العالم البائس، تنبت قصة حب بين شاب وفتاة يتيمين، ومتجاورين في السكن، لكن الفتاة تتعرض للتهديد بعد إصرار عمّها على تزويجها. يقرر الجد "يوسف" أن يهرب بحفيده والفتاة، ومعهم خالتها، ليحمي حبهما، ويمنحهما فرصة للعيش بعيداً عن الموت المحيط بهما.

تأخذهم الرحلة إلى مخيم، فيحاولون تأسيس بيت، وحياة طبيعية، ولكن لا سبيل إلى هذا في واقع النازحين.

ينضم الفيلم إلى قائمة أفلام جود سعيد، المهتمة بالشأن السوري وما شهده من تغييرات عقب 2011، والمنشغلة أيضاً بالصياغة السينمائية وشكل السرد، لكنه يمتاز بابتعاده إلى حد كبير عن الاستقطاب السياسي، والتركيز على الحكايات الإنسانية بتعقيداتها وثرائها. إذ يقربنا مع عالم المخيم وشخصياته المتنوعة والأعمال التي يتربحون منها، كالتنقيب في تلال القمامة عما يصلح للبيع، وأعمال الخياطة والزراعة. كما يكشف لنا عن الصراعات الدائرة، والقيم التي يسعى المرء للتمسك بها، والأخرى التي يكتسبها في هذه البيئة.

سنوات وسنوات مرت على موجات ثورات الربيع العربي، يما يكفي لتخلق حكاياتها الخاص، وأناسها المتميزون... تعرف على سلسلة من الأفلام العربية عرضت في مهرجان القاهرة تتحدث عن عائلات ومسنين وشباب وفتيات، في كفاحهم/ن لخلق فرصهم الخاصة

يقسم المخرج فيلمه أربعة فصول، كل منها يحمل عنواناً يرسم العلاقة بين الجد والحفيد، التي تتعرض لاختبار صعب مع اكتشاف موهبة الصغير في كرة القدم، وتلقيه عرضاً بمغادرة البلاد. فمثل هذه الفرصة هي الأمل المتبقي أمام الكثير من النازحين، لكن المخرج يعود ليذكرنا في النهاية بأن الواقع ليس بهذه السهولة.

رغم قسوة الموضوع، فإن الفيلم لا يخلو من خفة الظل التي يجيد سعيد دمجها في ثنايا السرد، وكذلك تحضر لحظات الغناء والحب والصداقة والمرح في الشريط السينمائي. ومع أنه ينزلق قرب النهاية في تقديم بعض الأحداث دون حتمية درامية وبشيء من فجاجة مثل تعرض طفل للاعتداء الجنسي، سعياً وراء إدانة الفعل وطريقة تعامل الناس معه، فإن المخرج إجمالاً يمسك خيوط الحكاية بإحكام ويبقى مخلصاً لفكرته وأبطاله. 

السد: الثورة وقوة الخيال

حينما انطلقت شرارة الثورة السودانية في ديسمبر/ كانون الأول 2018، كان المخرج اللبناني علي شري يعمل على صناعة فيلمه الروائي الطويل الأول "السد" ليكون آخر جزء في ثلاثية بدأها بفيلمين قصيرين هما "القلق" و"الحفار"، تتناول علاقة الأرض بالعنف الواقع عليها، مع محاولة لإعادة قراءة للتاريخ والسياسة.

كان اهتمام شري آنذاك منصباً على سد مروي المُعد ضمن السدود المضرة بالبيئة، والعمال الذين يعملون بكمائن الطوب هناك، متعايشين مع الملوثات والسموم من حولهم، لكن تصاعد الأحداث في السودان دفعه لتغيير مسار الفيلم وحكايته.

لم يتخل شري عن حكاية العمال الذين يمارسون مهامهم اليومية على ضفاف النيل، بل اختار من بينهم شخصيته الرئيسية "ماهر" ليخلق الرابط بين الحياة الروتينية في منطقة مهمشة، وما تشهده العاصمة من حراك وتغيرات سياسية كبرى، فهؤلاء العمال يتابعون أخبار الثورة عبر الراديو والتلفزيون، وكأنها حدث في بلد بعيد عنهم لن يغير من واقعهم شيئاً، ولا يمسهم على أي مستوى.

لكن "ماهر" الذي يبدو ظاهرياً في حالة استسلام تام لهذه الحياة، اعتاد التسلل إلى الصحراء ليبني جسماً ضخماً مصنوعاً من الطين، مادة الخلق، مخصصاً وقته وجهده لهذا العمل.

ومع اندلاع الثورة، تدب الروح في الجسد، ويصبح حاضراً في خيالات عامل الطوب وأحلامه، يحثه ويوقظه من السبات العميق، في لمحة واقعية سحرية تمنح الشخصية فرصة لإطلاق العنان للخيال، ورسم واقع أكثر براحاً وحرية.

يتملك الغضب ماهر مع انهيار الجسم بفعل المطر، تزامناً مع محاولات إجهاض الثورة، لكن هذا الغضب له جذور تمتد بداخله نتيجة للحياة التي يعيشها، والجو العام الملوث من حوله والقمع المتفشي في البلاد. رغم ذلك، تستمر رؤياه في الظهور كأنها رفيقه في الرحلة، ومرشده للخلاص.

يبدو شري في البداية مهتماً بالجانب التوثيقي للعمال وأشغالهم، إذ تتأمل الكاميرا الأجساد وحركاتها وموقعها من التكوين المحيط بها.

يصبغ شري الفيلم بصبغة شاعرية، وينخرط في تقديم لغة بصرية جذابة، نابعة من خبراته العملية في مجالات الفن التشكيلي وفن الفيديو والوسائط المتعددة، لكن تبدو النتيجة النهائية مفتقدة شيئاً ما، لأن الاهتمام بالتكوينات البصرية طغى على الحبكة الدرامية، وطريقة صياغة الحكاية نفسها، والتماهي معها.

"المتضررون من الثورات"

في الوقت الذي يركز غالبية السينمائيين على حكايات البشر العاديين، أحلامهم والمصاعب التي عايشوها مع انطلاق ثورات الربيع العربي، يختار المخرج الجزائري مرزاق علواش أن يصنع فيلماً عن عائلة تنتمي إلى النظم الفاسدة، التي ثارت عليها الشعوب عموماً، والجزائر على وجه الخصوص.

تبدأ الأحداث بمشاهد متفرقة للتظاهرات في ربيع 2019، إذ تعلو أصوات الشارع بصورة تؤرق وتبث الرعب في نفوس كل من كان وجهاً من وجوه السلطة.

البنت، التي نتعرف عليها للمرة الأولى أثناء مشاركتها في إحدى المظاهرات، تؤمن بضرورة التغيير وتعي جيداً فساد والديها، وأخطاءهما التي لا تغتفر؛ لذلك تبدو مشاعرها نحوهما مزيجاً بين الحب والاستياء والرفض

في هذه الأجواء، نتعرف على الوزير السابق "مروان" وزوجته، اللذين يعيشان في توتر وقلق خوفاً على حياتهما وأملاكهما التي تمتد على طول البلاد، فيخططان للرحيل لكن نظراً لأن اسميهما مدرجان ضمن قوائم الممنوعين من السفر يضطران للفرار في سيارة عبر الصحراء في رحلة خطرة.

يركز علواش فيلمه على طبيعة العلاقات داخل أروقة البيت الفخم الذي تعيش فيه العائلة؛ بداية من علاقة الزوج والزوجة المتدهورة على مدار السنوات حتى أصبح كل منهما يعيش في عالمه الخاص يمارس سلطاته ويستخدم نفوذه لتحقيق مصالحه دون أن يأبه بالآخر. فقد نسيا الحب الذي جمعهما في الجامعة، وأدت الطموحات السياسية إلى تخليهما عن المبادئ التي آمنا بها في الماضي، فتشققت العلاقة وأصبحت مشوهة وإن كان لا يزال بينهما تقدير للعشرة الطويلة.

كذلك كانت علاقتهما بابنتهما صدامية وبعيدة عن التفهم والاحتضان. فالبنت، التي نتعرف عليها للمرة الأولى أثناء مشاركتها في إحدى المظاهرات، تؤمن بضرورة التغيير وتعي جيداً فساد والديها، وأخطاءهما التي لا تغتفر؛ لذلك تبدو مشاعرها نحوهما مزيجاً بين الحب والاستياء والرفض.

ينسحب تعقيد العلاقات على من يعملون في خدمة العائلة؛ فمثلاً السائق الخاص الذي يثق فيه الزوجان ويعتبرانه أمين أسرارهما، يرى هو أنهما يستحقان المحاكمة، ويقودهما إلى الموت رغم حبه لابنتهما. في المقابل، يبدو أفراد الأمن المسؤولين عن تأمين البيت أكثر وضوحاً في علاقتهما بالزوجين؛ حيث يمقتان الثنائي ويتظاهران باحترام زائف أمامهما.

تأتي الثورة عموماً في خلفية الأحداث، فيما يسرد مرزاق علواش فيلمه في إطار من التشويق والإثارة. كما يعتمد على الكوميديا في الكثير من الحوارات والمواقف بين الزوجين بهدف انتزاع الضحكات وتخفيف حدة الموضوع، لكن هذا الخيار أثر على مضمون الفيلم عموماً، وجعله حافلاً بمبالغات لفظية تفسد متعة المشاهدة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image