شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
حداد على الناقد الذي خانته صنعتُه

حداد على الناقد الذي خانته صنعتُه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 12 ديسمبر 202210:43 ص

بدأت مسيرة العزاء نهايات القرن التاسع عشر مع "موت الإله" على يد فريدريك نيتشة عام 1887 في كتابه "العلم الجذل". وتتالت الميتات بعدها، "موت التراجيديا" لجورج شتاينر عام 1961، ثم "موت المؤلف" مع رولان بارت عام 1967، تلا ذلك موت الإنسان مع دونا هاروي في "مانيفستو السايبروغ" عام 1985، ثم "موت الأدب" مع ألفين كيرنان عام 1991، لكن يمكن أن نجزم، وننحاز هنا إلى الصنعة التي ندعي ممارستها، أن "موت الناقد" كان الأكثر إمتاعاً للكثيرين، إذ تعرض شخص الناقد للاغتيال، والقتل، والحبس بعيداً في سجون الأكاديميات، بوصفه أحد رموز عالم الفن والأدب الأكثر إشكالية والأقل فائدة للأدباء والقراء على حد سواء.

جاء إعلان هذا الموت عام 2007 على يد رونالد ماكدونالد في كتابه "موت الناقد"، الذي ترجم للعربية للمرة الأولى عام 2014 بتوقيع فخري صالح، وظهر في طبعة جديدة هذا العام لنفس المترجم عن دار المتوسط، يمكن التحذلق حول سبب إعادة النشر، واقتباس ما يشير له ماكدونالد بأن موت الناقد كان "بلا مظاهر للعزاء".

التغيرات والطعنات التي تعرض لها الناقد حسب الكتاب تبدو حين نقرأها الآن حنيناً إلى زمن "جميل" بالمعنى المبتذل للكلمة. فالكتاب المؤلف عام 2007 يعلن تراجع دور الناقد الأكاديمي أمام ذاك الصحافي، ثم تراجع دور الأخير أمام منتديات القراءة وقوائم الـBest seller لتبدو قراءة الكتاب (الآن) نوعاً من الحداد المتأخر، فالميتات التي اقترحَها ماكداول تبدو رحيمة أمام ما نشهده، فعزلة الناقد الأكاديمي وشعبوية الناقد الصحافي شأنان غير مهمين بل ومسلم بهما.

ما يحكم مكانة الناقد حالياً هو سياسات التمثيل ونظام الهويات والذوق، أما القطيعة بين الجمهور والناقد، فشأن واضح. الجمهور ببساطة يتصفح، لا يقرأ. الجمهور يفضل أن "يخبره" أحدهم عن كتاب بفيديو قصير عوضاً عن قراءة مراجعة لكتاب ما

ما يحكم مكانة الناقد حالياً هو سياسات التمثيل ونظام الهويات والذوق، أما القطيعة بين الجمهور والناقد، فشأن واضح في عالمنا اليوم، الجمهور ببساطة يتصفح، لا يقرأ. الجمهور يفضل أن "يخبره" أحدهم عن كتاب بفيديو قصير عوضاً عن قراءة مراجعة لكتاب ما، ناهيك بأن كتب النقد الأكاديمي غالية الثمن جداً، ومن ينجح بالتسلل من قلعة الأكاديمية إلى عالم الصحافة، يجد نفسه بمواجهة المدافعين عن "أدبهم"، فلا أحد "يفهم" المكتوب أو يمتلك سلطة تقييمه سوى الكاتب و"جماعته". أما الناقد، فالأفضل أن يكون رجل علاقات عامة، لا للحفاظ على قيمة الأدب أو مصداقية نشاطه السياسي، بل لدفع بدل إيجار منزله.

ناشطون ونقاد

يشير الكتاب إلى أن مقتل الناقد سببه صعود الدراسات الثقافية منتصف الستينيات وما ترافق معها من ثورة طلابية في أوروبا، إذ اتخذ قرار التعامل مع "كل شيء" كأدب، وتحول دور الناقد هنا إلى ما يشبه الناشط السياسي، يدافع عن قيم اليسار، ويحاول فضح الأيدولوجيا فيها، آخذاً بعين الاعتبار أن الأدب أداة سلطوية وليدة شروط تاريخية بحتة، قيمته الجمالية ليست إلا تزييناً للأيديولوجيا. تراجع دور الناقد ذو التوجه السياسي في أيامنا هذه، وحل مكانه "الناشط"، ذاك الذي يتعامل مع كل الفنون والآداب بوصفها أشكال تمثيل، وكل من لا يراعي "التمثيل"، لا يقدم أدباً يليق بالقراءة أو الجمهور.

يبحث "الناشط" في الأشكال الأدبية بوصفها جزءاً من خطاب ( ولا إشكالية في ذلك) حلّ مكان القيمة، ما جعل وظيفة العمل الأدبي تدور حول "التمثيل" و"إطلاق خطاب" يعبر أو يحكي بصوت فئة مهمشة أو مقموعة، الشأن الذي لم يكن مهيمناً زمن تأليف "موت الناقد"، ولا ننكر أن سياسات التمثيل فتحت الباب أمام الكثير من الأصوات المجددة، لكن الحكم على أدبيتها أو فنيتها، لم يعد بيد الناقد، بل الناشط الذي يستخدم هذه النصوص بوصفها أداة "جماليّة" لمجابهة السلطة.

يبحث "الناشط" في الأشكال الأدبية بوصفها جزءا من خطاب (ولا إشكالية في ذلك) حلّ مكان القيمة، ما جعل وظيفة العمل الأدبي تدور حول "التمثيل" و"إطلاق خطاب" يعبر أو يحكي بصوت فئة مهمشة أو مقموعة. أما الحكم على أدبية أو فنية النصوص فلم يعد بيد الناقد

يسخر الكتاب إلى مفهوم "الجماعة الأدبية" حيث النقاد يراجعون كتب أصدقائهم، الذين يضمنون كتبهم "مقدمات" من أصدقائهم النقاد، حلقة مفرغة تنفي الجمهور. لكن حالياً، بات النشر ذاتياً. صحيح أن سلطة النقاد وأصدقائهم لم تتلاشَ، لكنها تحولت في سياقات عديدة إلى ما يشبه المؤسسة، تتكرر الأسماء بسبب الهويات والخطابات المحددة لتنفي "الآخرين" المهتمين باللعب وسؤال القيمة والانتهاك. أولئك الذين لا يدخلون ضمن الخطاب، ومهما حاولت فئة من "النقاد" التأكيد أن ما يحدث من ترسيخ لأحدهم أو إحداهن ليس إلا جزءاً من سياسية ما، لا علاقة لها بالتسويق أو القيمة الأدبية، فلن تجد سامعاً. "الخطاب" أقوى من النقد، ويمتلك "الحقيقة" و"القوة" ضمن المفهوم الفوكودي التقليدي.

منتديات وخوارزميات

يحيلنا الكتاب إلى الجمهور الذي أراد تحطيم دور الناقد التقليدي (الصحافي والأكاديمي) وسلطته في ترسيخ قيمة ما أو جماليات ما، إذ استعيض عنه بمنتديات القراءة ونوادي القرّاء ضمن الانترنت، هذه الدمقرطة لعملية القراءة والانتشار تبدو مبشرة، إذ لم تعد الصفحات الثقافية مسؤولة عن التوصية بكتاب، بل تلك المجموعات المغلقة أو المفتوحة.

لكن ما لم يأخذه ماكداول بعين الاعتبار -لأن التكنلوجيا لم تكن بعد متطورة- أن نوادي القراءة والأكثر مبيعاً ليسا معيار الذوق، بل "الخوارزمية"، تلك التي توصي بما نحب وما يشبه ما قرأناه. الذكاء الاصطناعي أصبح قادراً على توفير ما يلائم كل قارئ على حدة، وهذا ما تقوم به منصات الكتب الرقمية، سواء كانت أمازون أو كيندل، أو حتى أبجد نفسها. الخوارزمية كسلطة على الذوق أشد تأثيراً من الناقد، كونها تخاطب الفرد، بينما الأخير يخاطب "القراء".

عزاء الناقد الذي بعث بعد موته أنه تحول إلى قارئ محترف أسس لنوع خاص يقبله الأكاديمي ويستهلكه الجمهور دون أن يقع أسير الحداد على مهنته

يمكن القول إن سؤال "ما الكتاب الذي تنصحني به؟" أصبح مبتذلاً، ولم يعد قيد التداول، فمنصة الكتب الرقمية والخوارزمية التي تحكمها تخبرنا مباشرة، وتقدم لكل قارئ 10 احتمالات على الأقل، تلائم تاريخه وقراءاته، وتحول سؤال ما الذي يجب أن أقرأه إلى يقين يتجلى بعبارة "لأنك قرأت كذا، نرشح لك كذا وكذا وكذا". استبدلت الخوارزمية الذوق البشري والنصيحة، بمعادلات تقيّم الأدب بناء على التشابه، لا القيمة الأدبية، وعزلت تجربة القراءة عن الجماعة والفضاء العام والرقمي وتحولت إلى شأن فردي، لا داعي لنسأل أحد، أو نتبادل الآراء حول كتاب جديد، إذ ستوصي لنا الخوارزمية بكل شيء.

لم يخطر أيضاً ببال ماكدونالد أن الناقد الصحافي سُيستبدل بالشارح، ذاك الذي يتضح عمله أكثر في الفنون البصريّة، فكل فيلم أو مسلسل له شرح يبث على يوتوب. يكفي أن نكتب اسم الفيلم وبعده Explained حتى تظهر أمامنا عشرات الفيديوهات لشراح ومعلقين مختلفي المستويات، كل واحد منهم يحاول تفسير وتأويل وتأريخ كل فيلم وعلاقته مع الأفلام الأخرى، وجمالياته ومصادره، بل أحياناً يمكن مشاهدة هذه الفيديوهات عوضاً عن الفيلم نفسه، وتحول نقاد السينما إما "فلاسفة" متأثرين بالدولوزية وعلاقة السينما مع الزمن أو علماء سياسية يحاولون قراءة أشكال السيادة عبر الصورة المتحركة.

رغم الموت والقتل الذي تعرض له الناقد، تمكن من تحويل "نصه" إلى عمل فنيّ مستقل، يحوي جماليات خاصة بقارئ محترف. لم يعد الجمود الأكاديمي جذاباً، ولا الشعبوية الصحافية الترويجية نافعة، بل ظهرت نصوص عن النصوص يكتبها نقاد، نصوص جعلت الناقد قارئاً حذقاً وكاتباً ضمن نوع يحاول الاستقلال عن عالم الفن والأدب، ربما هذا عزاء الناقد، إذ بعث بعد موته، قارئاً محترفاً أسس لنوع خاص يقبله الأكاديمي ويستهلكه الجمهور، دون أن يقع، أي الناقد، أسير الحداد على مهنته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image