كنت من الخوارج ومن المراهقين، حين دفعني الانفعال إلى التصريح بما لا يقوله إلا خوارج ومراهقون. كانت مجلة "الثقافة الجديدة" قد توقفت بعد العدد 148، كانون الثاني/يناير 2001، عقب أزمة الروايات الثلاث التي افتعلها وزير الثقافة فاروق حسني. نزع الوزير قناع الفنان عن وجه رجل دين، وتوجه إلى التلفزيون مبكراً ونحن نيام، وأطلق تصريحات ذات طابع سلفي انتهازي، ينافس بها رئيس جامعة الأزهر أحمد عمر هاشم، وقد شحن طلابه عام 2000، للتظاهر ضد رواية "وليمة لأعشاب البحر".
أثبتت التجربتان قرب المسافة بين كلا الرجلين، عمر والفاروق الذي أسند إلى سامي خشبة رئاسة تحرير مجلة "الثقافة الجديدة"، بداية من العدد 149، أيلول/سبتمبر 2002، وحمل الغلاف عنوان "النقد التعاوني... والتشجيعي وانهيار النقد (الحقيقي) في مصر"، مصحوباً بستّ صور لمن شملهم الاستطلاع، وجاءت صورتي بين سلوى بكر وعبد المنعم رمضان، وفي المتن كان رأيي تالياً لفارس خضر الذي تصدّر التحقيق.
ما أسهل الهتاف في مظاهرة أو في مقال يفضح ويرفض ويندد ويدعو ويطالب، وما أشقّ العكوف على ديوان أو رواية أو ظاهرة إبداعية
كنت قد أصدرت مجموعتين وروايتين آخرهما "باب السفينة"، وقلت في تحقيق "الثقافة الجديدة" إن في مصر نقاداً "لا يمارسون المطلوب منهم، من بين هؤلاء سامي خشبة الذي يمتلك منهجاً ورؤية وقدرة لكنه لا يفعل شيئاً". قلت إن من أسباب اضطراب المشهدين الإبداعي والنقدي وجود ظاهرة "النقد لأسباب إنسانية"، بدافع الشفقة على كاتب مسكين، أو المجاملة لطبيب أصابته حرفة الشعر، وذكرت اسم الطبيب أحمد تيمور.
لم تكن مواسم الجوائز قد بدأت، بالنهج نفسه، فانتقلت نسخة النقد الأدبي إلى النقد المالي، ليكسح انفجار طوفان الجوائز ضمائر تمنح الأموال والألقاب، بوازع الشفقة أو تبادل المنافع وما أكثرها. قلت أيضاً إن هذا النوع من النقد الأدبي يؤدي إلى خلل، فيغيّب "مبدعين مهمين منهم أحمد زغلول الشيطي وعاطف سليمان"، وذكرت أسماء ثلاثة نقاد، راهنت عليهم في تقويم هذا الاعوجاج، فأغضبتُ نقاداً آخرين، ويبدو أن الغاضبين كانوا على حق.
عاطف سليمان
وقد غيّب الموت المفاجئ الدكتور حاتم عبد العظيم أحد النقاد الثلاثة، وأما أحدهم فقد تقمّص دور المفكّر وأغراه النضال، وانشغل عن مشروع النقد، فما أسهل الهتاف في مظاهرة أو في مقال يفضح ويرفض ويندد ويدعو ويطالب، وما أشقّ العكوف على ديوان أو رواية أو ظاهرة إبداعية. الهتاف مجاني لا يكلف شيئاً أكثر من إرهاق مؤقت للأحبال الصوتية، والبحث النقدي كاشف وفاضح أحياناً، يضع صاحبه في مقارنات ربما تكشف عورته.
ومن غير قصد اختبرت هذه الثنائية، وكانت روايتي "وشم وحيد" طرفاً وأنا مجرد شاهد. صدرت الرواية في صيف 2011، وأهديتها إلى ناقد أعلنت رهاني عليه قبل عشر سنوات. وقد عاهدت نفسي ألا أسأل أحداً ـ طلب رواية أو بادرت بإهدائها إليه ـ عن رأيه، بل لا أستفسر عما إذا كان قد قرأها أم لا؟ وبمناسبة مرور عام على الثورة، في 25 كانون الثاني/يناير 2012، كنا في مسيرة من دار الأوبرا إلى مجلس الشعب مروراً بميدان التحرير، لتذكير الإخوان بأن الثورة لا تزال في الميدان؛ فلا يركنوا إلى أمان البرلمان. وفي استراحة بين هتافين، قال لي الناقد، بعد سبعة أشهر، إنه قرأ نصف الرواية. النصف الأول بالطبع، نحو ثمانين صفحة، ولا أظنه انتهى منها بعد تسع سنوات.
يوجد نقد مبدع، نصّ موازٍ ينافس الإبداع في المتعة والعذوبة، ويزيد عليه باتساع الرؤية وموسوعية المعرفة. هذا النقد أحبه، وأقرؤه لذاته، ثم أعود إليه بعد قراءة النص الإبداعي الذي يتناوله. ولا يكتب هذا النقد إلا محبّ للإبداع، متحقق، يؤمن بأن له رسالة فكرية وجمالية تمنحه شعوراً بالرضا؛ فلا يغار من شاعر أو روائي. وهناك نقد آخر، منغلق على ذاته، ربما يتوجه به صاحبه إلى نفسه، إلى قرناء وأنداد إثباتاً للجدارة. أحببت رواية "زهر الليمون" التي صدرت وأنا طالب في الجامعة، ثم قرأت دراسة عنها، فقلت لعلاء الديب إنني محظوظ، فلو قرأت المقال غير المفهوم ما اهتممت بالبحث عن الرواية. وضحكنا.
أدركت جدوى النقد، ودوره في تنبيه الكاتب القلِق إلى المناطق الرخوة في الكتابة، وأنه لا يكتب لنفسه، وأن ما ينشره يصير ملكاً لقارئ واعٍ ربما لم يولد بعد، وهذا القارئ لا يرحم
في تلك الفترة كنت قد نشرت قصصاً في مجلات يكفي النشر فيها للاطمئنان النسبي. دلّني رجاء النقاش على فريدة النقاش رئيسة تحرير مجلة "أدب ونقد"، ولم ينسَ أن ينبهني إلى أن محمد روميش، عضو مجلس التحرير المسؤول عن إجازة النصوص القصصية، "ذوقه صعب، ولا يعجبه العجب". ونشرت قصتي "في حديقة الحيوان"، في شباط/فبراير 1988، وصرت صديقاً لروميش حتى وفاته. وفي نيسان/أبريل 1988 نشرت قصة "لو" (نحو 250 كلمة)، في مجلة "إبداع"، وفرحت بأول مكافأة عن النشر، 26 جنيها بعد خصم الضرائب. أنستني المكافأة غضبي من رئيس التحرير الدكتور عبد القادر القط؛ لاعتراضه على جملة قال إنها قاسية نفسيا على القارئ، ورأى "تخفيفها"؛ لأنها لا تناسب سني الصغيرة، فما كان من مدير التحرير عبد الله خيرت، بابتسامته وأبوّته، إلا أن احتواني وترك لي مكتبه، ووفر لي أوراقاً لأغيّر سطراً واحداً. كما نشرتُ في مجلة "القاهرة"، في عهد رئيس التحرير الدكتور إبراهيم حمادة.
من تلك القصص، التي نشرتها في سنوات الجامعة، انتقيت مجموعتي الأولى "مرافئ للرحيل"، وبصدورها أدركت جدوى النقد، ودوره في تنبيه الكاتب القلِق إلى المناطق الرخوة في الكتابة، وأنه لا يكتب لنفسه، وأن ما ينشره يصير ملكاً لقارئ واعٍ ربما لم يولد بعد، وهذا القارئ لا يرحم. نوقشت المجموعة الأولى في ندوات، وفي جلسات عامة أو ثنائية حميمة، وسألني صديق: لماذا تحرص على وصف كل شيء؟ اُترك لذكاء القارئ فراغاً. هنا وعي بالطرف الثاني الذي يتلقى النص، فتوقفت طويلاً قبل الانتقال إلى منطقة أخرى، وكنت محظوظاً بحفاوة من يتوفر فيهم عاملان اثنان قلّما يتفقان... المعاصرة والمجايلة، وبالأدق: الزمالة والمجايلة، فليس "عدوك ابن كارك" وحده، وليست المعاصرة هي الحجاب وإنما المجايلة أيضاً.
وحظيت روايتي "أول النهار" بحماسة زملاء، من الذين سمّاهم يحيى حقي أعضاء "نادي فن القول"، ومعظمهم من جيلي، كتبوا عنها كلاماً بعضه أخجلني: خيري عبد الجواد، عاطف سليمان، قاسم مسعد عليوة، د. بهيجة مصري إدلبي، محمد عيد إبراهيم، د. جورج جحا، حسين عيد، محمد العشري، د. زهور كرام، د. نهلة عيسى، هشام بن الشاوي.
للمصادفات أدوار مع "أول النهار". فوجئت بدراسة في صحيفة "الحياة" اللندنية للدكتور فيصل دراج (8 آب/أغسطس 2007)، ثم علمت بالمصادفة أن إلياس فركوح كان في مصر، ثم قابله فيصل دراج في عمان، وسأله عن الجديد الذي عاد به من القاهرة، فأعطاه الرواية. نسخة مثلها وصلت إلى المغرب، وحفّزت الدكتور عبد الرحيم مؤذن (1948 ـ 2014)، فكتب عنها دراسة مطولة، شارك بها في ملتقى بالمغرب، ثم نشرها بعنوان "أول النهار: حكاية قرية في حجم الكف" في صحيفة "العلم" المغربية (21 شباط/فبراير 2013). وبعد زيارة لإبراهيم فتحي للقاهرة عاد إلى لندن، ومن هناك فاجأني مقاله "أول النهار... تساؤلات عن معاني حياة الفرد وعلاقاتها بالجماعة" في صحيفة "القاهرة" (30 تشرين الثاني/نوفمبر 2010).
وفي الدورة الأولى للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر 2008) بلغت "أول النهار" القائمة الطويلة، ضمن ستّ روايات مصرية في القائمة الوحيدة في تاريخ الجائزة التي لم يعلن عنها إلا في حفل منح بهاء طاهر الجائزة عن "واحة الغروب". وفي 2010 سألني محمد عبد الحافظ ناصف عن جائزة الطيب صالح، ولم أكن أعلم بها، وليس عندي عمل جديد. فقال: لا تشترط رواية مخطوطة. وأرسلت نص "أول النهار" بالإيميل، لأفاجأ في شباط/فبراير 2011 بفوزها بالجائزة الأولى، ربما لأن لجنة التحكيم خلت من أي مصري.
مريم نعوم
آخر المصادفات أن يفرح المخرج أحمد فوزي صالح بالرواية، فيعطيها لكاتبة السيناريو مريم نعوم، وتتحمس لها، بعد نجاح تجربتها مع روايتيْ "ذات" و"واحة الغروب"، وتتعاقد معي على تحويل "ثلاثية أوزير" وتضم "أول النهار" 2005 و"ليل أوزير" 2008 و"وشم وحيد" 2011 إلى ثلاثة مسلسلات تلفزيونية. فماذا أريد أكثر؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 10 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت