شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"المكتب"... فرصة ضائعة لمناقشة تحولات المجتمع السعودي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 27 نوفمبر 202201:43 م

لا ابتكار في الأمر، لكن الابتكار لم يكن بالضبط هو المطلوب في تقديم نسخة عربية، سعودية تحديداً، من المسلسل الشهير "ذا أوفيس" The Office، الذي قُدّم لأول مرة عام 2001  في سلسلة قصيرة من 14  حلقة بدأ بثها على BBC البريطانية، بناء على فكرة وكتابة الكوميديان والكاتب والمخرج البريطاني ريكي جيرفيز، وشريكه الأثير ستيفن ميرشانت.

كان المسلسل وقت عرضه الأول أقربَ إلى عمل ثوري، غيَّر من تقنيات بناء وتقديم المسلسلات الكوميدية، وصار جزءاً من الثقافة الشعبية، ليتبعه على نمطه العديد من الأعمال الشهيرة الناجحة مثل Modern family وParks and recreation.

النسخة السعودية هي الإصدار رقم 12، بعد 10  نسخ أخرى محلية أنتجت في دول مثل كندا وتشيلي وفرنسا والهند وبولندا. لكن تظل النسخة الأمريكية ذات التسعة مواسم هي الأشهر عالمياً، وعلى الرغم من انتهاء مواسمها في عام 2013، عادت لتشهد أنجح أوقات عرضها في الولايات المتحدة عام 2020 ، في وقت جائحة كورونا، حيث حصد المسلسل 57  مليار دقيقة من المشاهدات، وما زالت كبرى منصات المشاهدة في العالم تتنافس على عرضه (يمكنكم مشاهدته حالياً عبر خدمة أمازون برايم).

بالطبع لن يكون من المنطق أن نتوقع أن تكون النسخة العربية في مثل جرأة النسخة الأمريكية، لاعتبارات الدّين والمعايير الرقابية. ظهر هذا على عدة مستويات...

ركز الأصل البريطاني الذي قدمه الثنائي جيرفيز وميرشنت عام 2001، على كآبة مكان العمل في بداية القرن الحالي؛ الوظيفة مملة، وقاتلة كأمر لا يمكن تحسينه عبر أي ادعاءات، وذلك من خلال تقديم محاكاة هزلية للعروض الوثائقية الواقعية التي انتشرت في تلك الفترة، والتركيز على الوجوه الشاحبة والأعين المطفأة للموظفين التي تحدق في أجهزة الكمبيوتر، ملتقطاً رتابةَ الحياة اليومية وأثرها الكابوسي.

حاولت النسخة الأمريكية من المسلسل -الذي أطلق نجومية ستيف كاريل-  في الموسم الأول نقلَ تلك الروح، لكنه تلقى تقييماتٍ منخفضةً على شبكة إن بي سي، قبل أن يجد صناع العمل -ومن بينهم جيرفيز  وميرشانت نفسهما- أن عليهم أن يجدوا صوتاً آخر ينجو بالعمل من "كآبة الحقيقة". وقد وجدوه من خلال اللمسة العاطفية، وأن يتحول ديفيد برينت، المدير في المسلسل البريطاني، من مدير لئيم إلى مايكل سكوت، المهرج الذي يعيش إنكاراً للواقع، ويؤمن بأن ذلك العمل المملّ قابل للتحويل إلى مغامرة مسلية، يرى نفسه فيها رباً لعائلة، أفرادها هم موظفو المكتب، وباحثاً في وجوه الموظفين عن أصدقاء، وفي قلوبهم عن الحب، وأن تنتصر قناعته تلك في النهاية.

وكانت الكلمات الأخيرة لجيم الذي يمثل الموظفَ الذكيَّ الباحثَ عن الإثارة وسط وظيفة مملة، وحفنة من الحمقى ومتوسطي الكفاءة في المسلسل: "كلُّ ما أملكه أدين به إلى تلك الوظيفة، هذه الوظيفة الغبية والرائعة والمملّة والمدهشة".

وهي نتيجة مختلفة عما توصل إليه نظيره في المسلسل البريطاني، والذي كانت دوافعه وسماته مختلفة، فبدا أكثر هشاشةً واستسلاماً.

في ظل توافر المال والفرصة، من حقنا أن نطمع في المزيد، في شيءٍ أكثر جدية، وأن يتجاوز الأمرُ حدودَ النزوة

الضلع الثالث في تلك الكوميديا، كانت شخصية دوايت، الموظف الرجعي، ذي الآراء المتطرفة، المتذلل لمديره، بينما يمثل أيضاً فئةً خطيرة في المجتمع الأمريكي، ظهرت بشكل واضح عند صعود ترامب إلى السلطة عام 2017.

بعد 4 سنوات من انتهاء عرض المسلسل، كان دوايت مثالاً للفاشية المعاصرة، كارهاً للنساء، متشككاً في كلِّ من حوله، عدا مديره بالطبع، تواقاً للسلطة، مؤمناً بحمل السلاح، بداروينية البقاء للأقوى، ونظريات المؤامرة، بل إن جدَّه الأكبر كان ألمانياً نازياً، وتخبئ شخصيتُه عنفاً كامناً ينتظر الفرصة للانفجار. وهو تطوير كبير عن شخصيته المقابلة في الأصل البريطاني، الذي كان موظفاً بغيضاً يجاورك في المكتب، ربما يحمل الكثير من بذور شخصية دوايت، لكن سحرَ الشخصية الأخيرة، كان مخيفاً ومنذراً.

هنا رؤيتان مختلفتان، تحمل كلٌّ منهما بصمة الأصالة، وتُظهران بوضوح أنه يمكن في النهاية تقديم شيء أهمّ من ملاحظات الرقيب واعتبارات البيئة والهوية، عبر دفع الإبداع إلى حدوده القصوى، فصار المسلسل الأمريكي ظاهرةً عالمية تتفوق شهرتها على الأصل.

فرصة ضائعة

بالطبع لن يكون من المنطق أن نتوقع أن تكون النسخة العربية في مثل جرأة النسخة الأمريكية، لاعتبارات الدّين والمعايير الرقابية. ظهر هذا على عدة مستويات، من بينها عدم تقديم شخصية أوسكار المحاسب الذكي المثلي جنسياً، كما تجاهلت النسخة العربية العلاقات الجنسية بين الزملاء والزميلات في العمل، وجرأة النكات وعنفها.

لكن السؤال هنا: هل يمكن قراءة المسلسل ضمن سياق التحول والانفتاح الذي يمرّ به المجتمع السعودي؟ هل يكمن هنا المفتاحُ للحكم على ما إذا كان إصدارُ تلك النسخة مجردَ نزوةٍ من جهةِ إنتاجٍ تملك المال لشراء حقوق أكبرِ مسلسلٍ من حيث عدد دقائق المشاهدة في العالم؟ أم أن هناك فرصة ضائعة لمناقشة جدية لهذا التحول داخل المجتمع، وشكلِ علاقات العمل بناءً على ذلك الانفتاح على المعاصرة؟

عُرفت السعوديةُ حتى فترة قريبة بانغلاقٍ لا يسمح للسيدات بالعمل مع الرجال في نفس مساحات العمل المشتركة، وتجرب الآن انفتاحاً غير مسبوق في تاريخها، وهو الأمر الذي يجعل إصدار ذلك المسلسل من السعودية بالذات، أمراً ذا مغزى.

يتبع المسلسل السعودي خطَّ النسخة الأمريكية؛ يلتصق بها تماماً على مستوى شكل التنفيذ وأداء الممثلين، حتى إنهم يبدلون اسم الموظف المؤقت (Temp) من "رايان" إلى "ريَّان"، ومايكل سكوت ( المدير) إلى مالك، مما يحيلنا إلى توقع الحذر أو الكسل غير المفهوم، الذي نأمل أن يتغير لاحقاً في المواسم الجديدة. وربما يمكن لنا أن نستثني نجاح فريق العمل في تعريب النكات، لتبدو طبيعية غير مقحمة.


التغييرات الأساسية التي يمكن رصدها في الحلقات الأولى من المسلسل، يظل أبرزها بالطبع حذف شخصية أوسكار المثلي جنسياً. عدا ذلك فكلها هامشية، لكنها تنخفض بإمكانيات الكوميديا إلى حدودها الأدنى، كتغيير شخصية خطيب بام، موظفة الاستقبال في النسخة الأمريكية الذي ستتركه لاحقاً من أجل زميلها "جيم" في الشركة، إلى شقيقها، ربما لأن صناع النسخة السعودية، رأوا أن من الأسهل على المجتمع السعودي، تقبل فكرة إخفاء الحبِّ عن الشقيق، لا أن تكنَّ امرأةٌ مشاعرَ لشخصٍ آخر غير خطيبها.

كذلك إبراز أداء الموظفين للصلاة أكثر من مرة، كأنما يؤكد صناعُ المسلسل أنه برغم تطرقنا لمشكلات جديدة على الدراما السعودية، كمسألة احترام النساء ودورهن القيادي في سوق العمل والمساواة، وهي المسألة الأبرز التي تعرضت لها الحلقات الأولى، إلا أننا ما زلنا نحتفظ "بهويتنا"، وهي مسألة ستكون مفهومةً إذا كانت خَلقت إبداعاً حقيقياً.

يرفض مالك - معادل مايكل سكوت في النسخة الأمريكية-، وهو يتحدث مع مديرته (والتي ستصبح صديقته وحبيبته في النسخة الأمريكية)، تقليصَ عدد الموظفين "لأنهم فاتحين بيوت ويصرفون على حريمهم"، ثم يتذكر أنه يقول ذلك الكلام في حضرة مديرته وكذلك في حضرة موظفة، فيعدل عبارته مضيفاً:" وكذلك موظفات فاتحين بيوت وبيصرفوا على حريمهم".

في تلك الفترة في أمريكا، كانت هناك مساحات للكوميديا تأتي من الارتباك أمام الرفض المجتمعي -الجديد نسبياً- للتمييز ضد الفئات المهمشة، ومعاناة من تربوا على الأفكار التمييزية مع التكيف مع تلك القيم الجديدة التي باتت تحكم مساحات العمل، فهل ترى التشابه مع المجتمع السعودي بعد التغيرات الأخيرة؟

مايكل سكوت – المدير في النسخة الأمريكية- يمثل الرجل غير الرجعي وغير التقدمي، بل رجلاً صنيعة آراء رجعية يدرك أنها غير صالحة، وأن عليه أن يؤمن بالآراء التقدمية، لكنه يرتبك أمام ذلك التغيير المصنوع كمغفل. في تلك الفترة في أمريكا عند بداية عرض المسلسل، كانت هناك مساحات للكوميديا تأتي من الارتباك أمام الرفض المجتمعي -الجديد نسبياً- للتمييز ضد المثليين جنسياً، ومعاناة من تربوا على الأفكار التمييزية "الهوموفوبية" مع التكيف مع تلك القيم الجديدة التي باتت تحكم سياسات مساحات العمل.

بالمثل، كان يمكن بالنسبة لمالك الذي يعيش مجتمعه لحظة تغيير، أن يجري تقديمه على نحو يؤمن أن من الصواب الإيمانَ بحرية المرأة واحترامها، لكنه لم يعرف بعدُ كيف يفعل ذلك بشكلٍ صحيح، وما زال مرتبكاً  كمغفل، بين ما يصبو إلى أن يكونه وما تربى عليه.

كوميديا المغفل المرتبطة بالتحديث، لها تراث أعمق في الكوميديا المصرية، من خلال شخصية إسماعيل ياسين وسلسلة أفلامه المرتبطة بدخوله الجيشَ والبحرية والطيران وباقي السلسلة، حيث تأتي الكوميديا من التناقض بين مواطن ساذج يرى الآلة المتطورة للمرة الأولى. بالطبع تجاوز السعوديون سذاجةَ الريفي، فهم على مستوى كبير من التعليم والتحديث، ولكن ما زال هناك مساحة للدراما الكوميديا السعودية قد تتخلق من ذلك التناقض بين مجتمع ربّتْه دولتُه منذ تأسيسها على الانغلاق وكونه مجتمعاً للرجال فقط، وبين قرارها بالانفتاح على الحريات.

كذلك شخصية نضال الرجعي، وهو المعادل لشخصية دوايت، فهناك فرصة لأن يمثل في المجتمع السعودي حالياً الرافضين للتغيير.

وكذلك الشخصية التي تعادل شخصية جيم، بإمكانها أن تكون ممثلةً للجيل المعاصر المنفتح على القيم الجديدة والقادر على تمثلها. أما نظيرة موظفة الاستقبال، فتمثل المرأةَ التي تتلمس طريقَها داخل مجتمعٍ رُسِم بشكل مسبق على مقاس الرجال.

ولكن بالطبع تلك هي أحلامي، فقلمت النسخة السعودية أظافرَ الإبداع، واختارت أن تظل مجرد نسخة، ولم تقدم سحراً خاصاً بها يعادل سحرَ ما رأيناه في الأصل البريطاني أو النسخة الأمريكية، بحجة الهوية. لكن ألا تعني الهوية أيضاً إدراك خصوصية الإبداع وأصالته؟

تعريب أم تقليد؟

لكن اللافت أيضاً أن الممثلين اللذين يخرجون عن خط التقليد لا يقدمون أداءً مميزاً، ويفسدون إيقاع العمل؛ كالممثل فهد البتيري الذي يقدم شخصيةَ جيم، الموظف الوحيد العاقل وسط حفنةٍ من الحمقى، والذي يضخم بذكائه ونظرته الساخرة من أثر الملل والغباء الذي تمثله الوظيفةُ، بينما يميل أداءُ فهد إلى أن يعكس تعاسةً لا سخرية.

وكذلك لم تنجح ريم منصور في أن تعكس شخصية بام الخجولة، ولا سخريتها المكتومة التي تشي أن انفجاراً وتحولاً في شخصيتها سيحدث مع الوقت، بل لم تنجح في أن تصوغ لها أيَّ ملامح واضحة، على عكس كلِّ من التصقوا بأداء الممثلين الأمريكيين.

هذا لأن المنظومة كلها محكومة بالتقليد، ولا تبدو الهوية فكرة جيدة لصناعة "كوميديا مقلمة الأظافر". بل تفضح مشاكل التقليد، وتوضح الحدود الخفية التي لا يمكن تجاوزها لكوميديا ما زالت تتلمس خطواتها بحذر. مازال الرقيب حاضراً في أذهان المؤلفين، في رأس المال الذي ينتج العمل، ربما أكثر منه في المجتمع.

رأس المال لم ينفتح بعد على معاصرة حقيقية.

وإذا كان المنطق لا يجعلنا نتوقع من السعودية تقديم شخصية مثل جنسياً، تظل الشخصيات الأربعة، مايكل سكوت الأحمق ودوايت الرجعي وجيم المعاصر وبام التي تتلمس الثقةَ كامرأة، من الممكن أن يشتبكوا في نسختهم السعودية لتناولِ القيم والتحولات الجديدة التي يشهدها هذا المجتمعُ بالغُ الخصوصية، إلا أن صناع العمل أضاعوا الفرصة، والنتيجة:

يبدو المسلسل أشبهَ بمشاهدة أطفال خفيفي الظل، يقلدون الكبارَ في حركاتهم، وهو السبب الوحيد الذي جعلني استشعر شيئاً من الألفة أثناء مشاهدتي النسخة السعودية، ولا أكرهها عندما أضعها في مقارنة مع الأعمال الأصلية. لكن كلفة ذلك أيضاً، هو أنه لا مجال لأخذ الحديث عن تصوير علاقات العمل داخل السعودية مأخذ الجدّ والتحليل، لأن لا معنىً أصيلاً ترتكز حوله رؤيةُ صناع العمل، سوى دهشةِ وفرحةِ تقليدِ الكبار. ربما تتغير الأمور في المواسم المقبلة، كما تغيرت مع مايكل سكوت. وربما يكون العمل نفسه سبباً في أن تنضج الدراما السعودية. ولكن من جديد، تلك هي أحلامي.

على الرغم من كل ما سبق، أضع في الاعتبار أن فريق الكتابة سعودي بالكامل، وأيضاً أغلب ممثلي وممثلات العمل، وكل خطوة يتخذها الفنُّ السعودي إلى الأمام في ظلِّ تحرره من الرقابة يجب أن تقابَل بالتحية.

ووفق ما عرض من حلقات، ففي ظلّ مجتمع يمرّ بتحول جذري كالذي تمرّ به السعودية، ستكون فكرة التعايش التي انتهى إليها المسلسل الأمريكي هي الأنسب؛ لم تتغير الشخصيات، لكنها بحثت عن نقطةِ وسط مشتركةٍ بين جميع الأطراف، يمكن لهم أن يتحملوا معها التواجد في المكتب نفسه، رغم الاختلاف الجذري لشخصياتهم ومعتقداتهم وهوياتهم.

ولكن أيضاً، وفي ظل توافر المال والفرصة، من حقنا أن نطمع في المزيد، في شيءٍ أكثر جدية، وأن يتجاوز الأمرُ حدودَ النزوة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image