في أواخر عام 1973 تولّى الصحافي ممدوح رضا رئاسة تحرير الجمهورية، وبعد أيامٍ قليلة من توليه منصبه استدعى زميله الصحافي صلاح عيسى وأخبره أن الاتحاد الاشتراكي غير راضٍ عما يكتبه من هوامش تاريخية، واقترح رضا على صلاح عيسى أن يحوّل الهوامش إلى باب يتناول انتصارات أكتوبر!
خلال اللقاء، كشف له رئيس التحرير الجديد أن هامشاً قديماً كتبه عن تاريخ صحافي إبان الفترة الملكية يُدعى كريم ثابت انتقد فيه عيسى وضاعة إمكانياته وحرصه على خدمة الملوك حتى يحظى لديهم بأي نصيب. حُمّل ذلك الهامش أكثر مما يحتمل وظنَّ الكثيرون أن عيسى يقصدهم، وربما كان منهم رئيس التحرير ذاته، ولهذا غُضب على الهامش وعلى صاحبه وتقرّر إسكاته للأبد.
وفي وقتٍ متقارب تقريباً، انتشرت في الجمهورية منشورات طبعتها جهةٌ ما وصفت الجمهورية بأنها تحوّلت إلى قاعدة جديدة للحزب الشيوعي استدل أحدها على مدى سيطرة الشيوعيين على الجمهورية بما تنشره الجريدة من مقالات لهم، وعلى رأسها "هوامش المقريزي" الذي "نشر خلال الأسابيع الأخيرة مجموعة مقالات تهاجم الحُرمات وعدداً كبيراً من الوزراء وكبار المسؤولين والكتّاب الوطنيين في مصر" على حدّ وصف صاحب المنشور.
يحكي عيسى أن الحملة وصلت إلى درجة من الانحطاط أصبحت فيها المنشورات تستعدي السُلطة علناً مطالبةً بشنق الصحافيين والمثقفين واليساريين، وخصصت جانباً كبيراً منها لـ"هوامش المقريزي" مكتشفة بذكائها المبتذل والرخيص أنها تتضمن إسقاطات على هذا وذاك من المسؤولين، وأنها تنتقدهم بتلك الإسقاطات مستخدمة التاريخ كرداء تتقنع خلفه وتتوارى وراء ظهره.
كان عيسى يحاول دائماً ادعاء البراءة، مؤكداً مرة تلو الأخرى على أن ما يقدّمه هي مجرد قصص تاريخية محضة محكية ببراعة، لا يقصد من وراءها تلميحاً ولا تصريحاً، لكن لم يصدّقه أحد
بطبيعة الحال، كان لا بد وأن تنعكس تلك الحملة على "الهوامش"، وفي عهد ممدوح رضا ضاقت مساحة الهوامش إلى أضيق حدّ، فكان عيسى يكتب 30 هامشاً أسبوعياً لا يُنشر منها إلا خمسة أو ستة فيما تذهب البقية إلى الأدراج المغلقة حتى سُجن عيسى فألغيت الهوامش تماماً.
قصدك على مين؟
تلخّص مقدمة المقال الطويلة حالة الكرّ والفر التي عاشتها "الهوامش" في صُحبة صلاح عيسى طيلة مراحل كتابتها تقريباً، فكلما خرجت إحداها إلى النور انهمك الكثيرون من أصدقاء عيسى –وأعدائه أيضاً- بتحليل جنبات الأقصوصة وما وراء السطور لمحاولة تخمين من المقصود بهذه القصة، ولماذا انتقاها عيسى تحديداً.
من جانبه كان عيسى يحاول دائماً ادعاء البراءة، مؤكداً مرة تلو الأخرى على أن ما يقدّمه هي مجرد قصص تاريخية محضة محكية ببراعة، لا يقصد من وراءها تلميحاً ولا تصريحاً، ولكن لم يصدّقه أحد.
فيحنما يتحدّث صحافي عن تدخل الخلفاء الفاطميين في عمل شيوخ الأزهر، والوزير البباوي الذي ضُرب به المثل في الغباء حتى قيل بحقّه "كُن حماراً مثل البباوي، فالسعد في طابع البهائم"، أو عن عبدٍ أسمر حكم مصر هو كافور الإخشيدي، أو عن سيدة مثل زينب الوكيل منحت نفسها نفوذاً حاكماً أضرَّ بسُمعة زوجها، فلا ريب ألا تُوضع تلك الكتابات في موضعها التاريخي، وأن تحمّل إسقاطات على الحاضر حتى لو كانت بعيدة عن مقاصد عيسى.
وبالتأكيد فإن طبيعة عيسى المُشاغِبة ومعارضته الدائمة -يسارية الطابع- للسُلطات جعلته دوماً موضعَ شكٍّ وتحسّس من قِبَل مراقبي الصُحف العالِمين بأن كتاباته لا يُمكن أن تدّعي البراءة حتى لو أقسم لهم عيسى على المصحف أنها كذلك!
فإن تحدّث عن أزمة عطش أصابت المصريين في عصر االمماليك، فلا بد وأنه يرمي إلى سوء إدارة الدولة لمنافع النيل، وإن سرد إحدى قصص جنون الحاكم بأمر الله فلا ريب وأنه يعرّض بمقام الدولة ورئاسته، وهكذا وُضع عيسى وهوامشه في دائرة الشك، ولم يخرج منها مطلقاً.
لماذا همّش "الهوامش"؟
يحكي عيسى أن شرارة تلك الحكايات نبعت في رأسه من خلال متابعته النهمة للصحف المصرية والعربية؛ بدأت الأهرام في تخصيص باب يتضمن بعض المختارات التاريخية، ومن بعدها انتشرت الحُمى في كثيرٍ من الصُحف، لكنها جميعاً افتقدت البوصلة بحسب عيسى الذي كان رائداً في تقديم تلك الفكرة مُحمّلة بإسقاطاتها الحالية، فكان حديثاً تاريخيّاً يتعلّق بالحاضر والمستقبل.
لم تقدّم تلك الأبواب ما حلم به عيسى بأن تكون بديلاً للكُتب التاريخية الضخمة عند القراء، فلطالما اعتبر أن المراجع التاريخية لا يهتمُّ بقراءتها إلا المتخصصون أو القراء المحنّكون، لذا فكّر في كتابة ما أسماه "ومضات تاريخية" تجذب القراء العاديين إلى التاريخ؛ أولئك القراء العاديون الذين كان يصفهم دائماً بأنهم الجائزة الكبرى لأي كاتب لأنهم القاعدة الحقيقية لسوق القراءة، لذا آمَن عيسى أن التواصل مع تلك النوعية من القراء هي الهمُّ الأكبر لأي كاتب.
في عهد ممدوح رضا ضاقت مساحة الهوامش إلى أضيق حد فكان عيسى يكتب 30 هامشاً أسبوعياً لا يُنشر منها إلا خمسة أو ستة، فيما تذهب البقية إلى الأدراج المغلقة حتى سُجن عيسى، فأُلغيت الهوامش تماماً
تجنّب عيسى أن تكون هوامشه مجرد "طرائف وألغاز وحكم ومواعظ"، وإنما سعى لأن تكون مغامرات تاريخية حقيقية تحمل هدفاً واضحاً وهو أن تستقيم خُطى القراء "على درب العطاء للوطن وللشعب وللأمة وللكون" على حد تعبيره.
أراد عيسى أن توفّر هوامشه الوعي للشعب؛ الوعي بذاته والثقة بتاريخه، وتساعده على الفخر بماضيه العظيم حتى يستخلص منه قانون التطور الذي لا مهرب منه، وهو أن "الشعوب لا تنهزم ولا تفنى، وأن الشعب يأتي من الأزل ويبقى إلى الأبد".
ظهرت تلك الحكايات بأسماء متعددة؛ بدأت بـ"أنابيش مصرية" في مجلة الإذاعة والتلفزيون، ولم تصمد أكثر من 3 أعداد، قبل أن يُعاود كتابتها بعنوان "الهوامش" حاملةً توقيعاً مستعاراً وهو "المقريزي"، ونُشرت بشكلٍ شبه منتظم طيلة 3 سنوات من عام 1972 حتى 1975.
نحو إعادة كتابة التاريخ
كي يكون قادراً على كتابة تلك الهوامش جيداً كان أمام عيسى تحديان لابد من تجاوزهما حتى يكون قادراً على تقديم التاريخ بشكلٍ مختلف، هما: المعرفة والفهم.
يحكي: "أدركتُ أن هذه الومضات لا تستطيع أن تؤدي دورها دون تراكم كمي مستمر فتُطالع قارئها كلّ يوم بما يشدّه إليها بتركيز وتكثيف دائمين، وتستدرج خطاه إلى عالم التاريخ المصري الرحيب".
هذا عن الشرط الأول. أما الشرط الثاني فلقد تطلّب من عيسى أن يجتهد كثيراً لفهم ظواهر التاريخ المصري عبر استقراء الحادثة الواحدة من كافة الروايات المتاحة قبل أن يقدّم عرضه الأخير. وهنا يعتبر أنه لم يكن محايداً تماماً في ذلك، وإنما كان يرجّح الروايات التي تقف مع الشعب في صراعه مع السُلطة، وهو ما جعل أغلب الهوامش تفوح منها رائحة مُعارضة يسارية لم تُخطئها أنوف أجهزة الأمن أبداً فتكرّر إغلاقها مرة تلو الأخرى.
الظهور الأول وتوقف تكرر كثيراً
حينما كان رجاء النقاش، صديق عيسى الدائم، رئيساً لتحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون نُشرت الحكاية الأولى بعنوان "أنابيش مصرية"، وبرغم النجاح الكبير لها فور ظهورها إلا أنها لم تُنشر إلا أسبوعين أو ثلاثة، وأُطيح بعدها بالنقاش من المجلة.
لم تظهر أقاصيص عيسى إلى العلن مرةً أخرى إلا على يد صديق آخر هو مصطفى بهجت بدوي الذي تقلّد رئاسة تحرير الجمهورية، وفي بدايات عام 1972 أعاد عيسى طرح الفكرة مُجدداً كاتباً: "ما رأيك في تخصيص زاوية يومية تنشر لقطة مركّزة من التاريخ المصري على شكل أقصوصة متناهية القصر؟".
وافق بدوي، وخرجت الهوامش مُجدداً دون أن تحمل اسم صاحبها، وإنما لقباً مستعاراً هو "المقريزي". وكانت مفاجأة للقراء المصريين الذين اعتادوا على الأنماط الخبرية للصحافة الرسمية التي تدور في فلك السُلطة، وحققت نجاحاً كبيراً استمرّت بموجبه قرابة 3 سنوات شهدت توقفات بسيطة.
خلاف المعتاد من عدم إقبال المصريين على قراءة كُتب المقالات بدعوى أنها مجرد إعادة نشر لمحتوى سبق نشره فإن "هوامش المقريزي" حققت نجاحاً ساحقاً، ولا تزال حتى الآن من أكثر الكتب مبيعاً، وتحرص دور النشر على طباعتها وتقديمها لقرّائها
يحكي عيسى: "خلال تلك السنوات الثلاثة أثارت الهوامش من الضجة والضجيج بما يتجاوز في رأيي قيمتها وأهميتها، وسبّبت لصديقي مصطفى بهجت بدوي مشاكل وإزعاجات، بل واعتبرها البعض أحد أسباب قليلة فقد بسببها منصبه في ربيع 1975م".
كانت مشكلة الهوامش الأزلية -التي توقفت بسببها مراراً- أنها كانت حنونة وقاسية، رقيقة وعنيفة كشعب مصر، تماماً كما حلم عيسى. لهذا أحبَّها وكرهها الجميع، وضمنت لصاحبها مكاناً خالداً في العقول والقلوب والسجون والزنازين.
كتاب "هوامش المقريزي"
بناءً على نصيحة الأصدقاء، قرّر عيسى تجميع هوامشه في كتابٍ جامع ارتأى أنه سيكون خير من المقالات المنشورة في الصُحف، إذ أن هذه المقالات عادةً ما كانت تتعرّض للتشويه بسبب الاختصارات والتعديلات أو الأخطاء المطبعية، لذا استدعى منه طرح الكتاب جهداً كبيراً في مراجعة "الهوامش المهشمة" ليُرمّمها مما شابها من صدوع، وينقّيها من شوائب النشر العام في صحافة مصر.
خطّط لأن تخرج في صورة كُتب مُسلسلة من 3 أجزاء مرتّبة بشكلٍ زمني تبدأ من أعمق تاريخ مصر وتنتهي عند ثورة 1919 كما حدث في الجزء الأول، وتختتم بأحداث ثورة 1952 كما شهد الجزء الثالث منها.
وبخلاف المعتاد من عدم إقبال المصريين على قراءة كُتب المقالات بدعوى أنها مجرد إعادة نشر لمحتوى سبق نشره فإن "هوامش المقريزي" حققت نجاحاً ساحقاً، ولا تزال حتى الآن من أكثر الكتب مبيعاً وتحرص دور النشر على طباعتها وتقديمها لقرّائها.
فسّر ذلك النجاح الصحافيان محمد الشماع وهاجر صلاح في كتابهما "حكايات من دفتر صلاح عيسى" بأن كُتب المقالات عند عيسى ليست تلك التي تُغضب البعض في زماننا هذا على منصات التواصل الاجتماعي، فيهاجمونها على اعتبار أن المؤلف لم يتدخل سوى في تجميع المقالات. كُتب المقالات عند عيسى حيّة أكثر من اللازم وتاريخية وتوثيقية أكثر من بعض كُتب التاريخ نفسه، مُتعتها حاضرة دائماً في الأسلوب والحكي الممتزج بالرسالة والبعيدة عمّا كان يسميه هو بـ"الرطانة السياسية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...