النفوذ المصري في السودان لم يتوقف يوماً. تتقاطع المسارات وتتغير الحكومات والأنظمه، وتظل الأصابع المصرية في السودان حاضرةً وإن اختلفت الآراء حول مداها وتأثيرها.
آخر تلك التقاطعات المصرية السودانية، كانت عودة رجل الدين والسياسي المخضرم، محمد عثمان الميرغني، إلى السودان، على متن طائرة خاصة مصرية وبتوجيهات مباشرة من الرئيس المصري، بعد 9 سنوات قضاها الرجل في القاهرة.
وتكشف هذه البادرة، عن الصلة الوثيقة بين السلطات المصرية، والميرغني الذي يجمع بين الزعامة السياسية والدينية، إذ يشغل منصب رئيس الحزب الاتحادي الديموقراطي (الأصل)، بجانب أنه راعي الطريقة الختمية، إحدى أبرز الطرق الصوفية في البلاد.
السؤال هنا عن سر العلاقة الوطيدة بين الميرغني والقاهرة، والهدف من عودته في هذا التوقيت من مستقره ومستودعه في الأراضي المصرية.
الرئيس المصري وجه بتوفير طائرة خاصة للزعيم السوداني محمد عثمان الميرغني رئيس حزب الاتحادي الديمقراطي الأصل لنقله إلى #السودان#القاهرة_الإخبارية#رغدة_أبوليلة pic.twitter.com/TiFcJ7we1i
— AlQahera News (@Alqaheranewstv) November 21, 2022
علاقة ممتدة
صلات الحزب الاتحادي الديموقراطي بمصر، ليست وليدة اليوم، فقبيل استقلال السودان في فاتحة العام 1956، تصدرت الساحة أطروحتان، الأولى رفعها حزب الأمة، وتقول بأن يتم جلاء المستعمر الإنكليزي وأن يكون "السودان للسودانيين"، والثانية تبنتها الأحزاب الاتحادية ومفادها أن يتم الاستقلال ولكن مع "وحدة السودان ومصر".
وبالرغم من نجاح الفريق الأول في مبتغاه، فإن تلك الأطروحة أعطت امتيازاً مستمراً لعلاقات الاتحاديين ومصر، وبرز ذلك مطلع تسعينيات القرن الماضي، باحتضانها للتجمع الوطني الديموقراطي الذي قاده الميرغني، لمعارضة نظام المعزول عمر البشير، سواء بالطرق السلمية أو حتى عبر العمل المسلح.
المحطة الثانية البارزة في هذه العلاقة كانت باحتضان القاهرة لمؤتمر تأسيسي للحزب الاتحادي الديمقراطي باسم "مؤتمر المرجعيات 2004"، وهو بمثابة مؤتمر عام للحزب الذي لم يعقد مؤتمره العام منذ أكثر من ثلاثة عقود، بدعوى الانشغال بالكفاح ضد النظام السابق الذي كان يضيّق على القادة والأنشطة السياسية كافة.
وبعد إبرام اتفاقية السلام بين نظام البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان، وقع طرفا الاتفاق على اتفاقية مع التجمع الوطني الديمقراطي (اتفاقية القاهرة)، بشأن مصير قوات المعارضة الموجودة في شرق السودان، بجانب حصص مشاركة أحزاب التجمع في الفترة الانتقالية التي امتدت من 2005 إلى 2011.
تتقاطع المسارات وتتغير الحكومات والأنظمة، وتظل الأصابع المصرية في السودان حاضرةً وإن اختلفت الآراء حول مداها وتأثيرها
إقامة الميرغني الدائمة في القاهرة
خلال قرابة 33 عاماً، تمتد من الفترة بين 1990 و2023، قضى الميرغني 5 سنوات فقط خارج القاهرة، حيث آب إلى الخرطوم في الفترة من 2008 حتى 2013، قبل أن يخرج منها مغاضباً، ويعود إلى مستقره في العاصمة المصرية، احتجاجاً على القمع الذي مارسته قوات نظام البشير ضد المحتجين السلميين في أيلول/ سبتمبر 2013.
ومع الإطاحة بالبشير، لم يفكر الميرغني في العودة إلى البلاد، لما قيل إنه أسباب صحية، لكن التفسير الأكثر تماسكاً يذهب إلى أن الحزب قدّر الانحناء للعاصفة، إذ كان شريكاً في السلطة المعزولة، وكانت لرجالاته حصة وافرة في الوزارة، فيما كانت الأجواء التي أعقبت سقوط النظام في 11 نيسان/ أبريل 2019، أجواءً ثوريةً، أحد مطالبها البارزة عزل المؤتمر الوطني (حزب البشير)، وكافة شركائه من المشاركة في العملية الانتقالية.
دعم المكوّن العسكري
لا يمكن قراءة عودة الميرغني بمنأى عن موقفه الداعم للمكوّن العسكري في السودان.
بعد فترة من السكون أعقبت الإطاحة بالبشير، وتخللتها تعهدات من الحزب بالعمل على دعم التحول الديموقراطي، والنأي عن السلطة، والتجهيز للانتخابات، عاد الميرغني إلى المشهد بقوة، وذلك في أعقاب لقاءات جمعته في القاهرة مع قائد الجيش، الجنرال عبد الفتاح البرهان، نهاية آذار/ مارس الماضي، وقيل إنها بترتيب من أجهزة الأمن المصرية.
يرى المحلل السياسي، بكري عثمان، إن موقف الميرغني من المكوّن العسكري، لا يمكن أن تتم قراءته بمعزل عن القاهرة.
وقال عثمان لرصيف22، إن السيسي ومنذ الإطاحة بالبشير، أعلن موقفه الداعم للجيش السوداني، ورفضه لصعود المليشيات، في إشارة وقتذاك إلى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان (حميدتي).
وأضاف: عقب استيلاء البرهان على السلطة، توطدت علاقة السيسي-البرهان، بسبب موقف السودان المناهض لسد النهضة الإثيوبي كونه يهدد الأمن المائي لدولتي المصبّ، السودان ومصر، في مقابل التأييد الذي يلقاه الجيش السوداني في استعادة منطقة الفشقة الحدودية من يد الجيش الفيدرالي والمليشيات الإثيوبية.
وشدد عثمان على أن القاهرة دفعت الميرغني للتقارب مع المكوّن العسكري، بتمهيدها لعقد لقاءات عديدة بينه وبين عسكريي السودان.
ولفت إلى أن تحركات القاهرة هذه، بين الميرغني والبرهان، إنما تستهدف ضمان استمرار المصالح المصرية في السودان، من خلال دعم مواقف البرهان في التفاوض الجاري حالياً، بسند جماهيري كبير ممثل في الاتحاديين (أحد أكبر الكتل الجماهيرية في البلاد).
هل ترغب مصر في قطع الطريق أمام عملية التسوية السياسية الجارية لإنهاء الانقلاب العسكري في السودان؟
ضد الحرية والتغيير
اتهم القيادي في قوى الحرية والتغيير (الائتلاف الحاكم للحكومة المعزولة بقيادة المدنيين)، محمد شمس الدين، الميرغني بخدمة الأجندات المصرية.
وقال لرصيف22، إن مصر ترغب في قطع الطريق أمام عملية التسوية السياسية الجارية لإنهاء الانقلاب.
وتابع: يحدث ذلك مخافة أمرين، الأول يتمثل في الخشية من تأسيس نظام ديموقراطي في السودان، ما قد يدفع المصريين التواقين إلى الديموقراطية للسعي إلى نقل النموذج إلى بلادهم، وفي هذا السياق يقرأ انضمام الحزب إلى تحالف "قوى الحرية والتغيير الكتلة الديموقراطية" الذي يضم قوى أيّدت الانقلاب العسكري، حسب تعبيره.
وأردف: الثاني متمثل في تدعيم الموقف العسكري، مخافة اشتراط قوى الديموقراطية ضرورة خروج العسكر المدعومين من مصر، بشكل نهائي من الساحة السياسية، وما يستتبع ذلك من مراجعات لسياساتهم الخارجية بما يخدم المصالح السودانية، بما في ذلك مراجعات العلاقة مع إثيوبيا، وإنهاء أسباب التوتر بين البلدين وتعظيم المصالح المشتركة.
وانطلقت في السودان عملية سياسية بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري، برعاية دول غربية وخليجية، لإنهاء الأزمة السياسية الناجمة عن استيلاء الجيش على السلطة في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
من جانبه رفض القيادي في قطاع الشباب في الحزب الاتحادي الديموقراطي، معتصم الفكي، الاتهامات التي تساق إلى الميرغني بخدمة الأجندات المصرية، واصفاً إياها بأنها لغة تستحق أن يلاحَق أصحابها في القضاء.
وقال لرصيف22، إن الميرغني غالب ظرفه الصحي، وعاد إلى البلاد بحثاً عن الوفاق الوطني بمنأى عن الأجندات الخارجية، عادّاً موقفه الداعم لتحالف الكتلة الديموقراطية، معبّراً عن تبنّيه حلّاً سياسياً سودانياً خالصاً.
وتقود اللجنة الرباعية الدولية المكونة من الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، السعودية، والإمارات، والآلية الثلاثية المكونة من بعثة الأمم المتحدة في السودان، الاتحاد الإفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية-إيقاد، جهوداً لحمل الفرقاء السودانيين على إنهاء الأزمة السياسية الممتدة في البلاد.
المعروف عن الميرغني، أنه رجل متقلب، وتتغير مواقفه السياسية باستمرار، ولكن الأكثر شيوعاً عند السودانيين، أن صلاته الوثيقة بالأنظمة المصرية لم تتبدل مطلقاً. فهل تؤشر بوصلة عودته الأخيرة على الجارة الشمالية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...