تكاد تخرج رمزية "حقيبة السفر" بالنسبة للفلسطيني، عن كونها حقيبة ملابس عادية تستخدم عند الانتقال من مكان لآخر. فهي ربما لم تكن كذلك يومًا بالنسبة له، بدءًا من النكبة التي حمل فيها حقيبته نصف الممتلئة بملابس الأطفال ومصاغ الزوج ومذياع عتيق، وانتقل بعيداً عن البيت ليس أكثر من بضعة كيلومترات، ظنًا منه أنّ العودة ستكون بعد أيام معدودة، وصولًا إلى النكبات الأخرى التي جرّدت "حقيبة السفر" من معناها العادي والمعتاد، ونقلتها إلى بيت صغير ممتلئ بالذكريات ورائحة البلاد، حتى قفزت الحقيبة برمزيتها عن حفرة المنطق، وتجاوزت حاجة البشر العاديين حول العالم، كاسرةً كلام درويش الذي قاله قبل عشرات السنين: "وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافر".
لم يخبرني أحد عن ذلك، بل رأيته بأمّ عيني، رأيت الوطن وهو يتشكّل على هيئة حقيبة يحملها المسافرون ويمضون، حقيبة يحمل بداخلها كلّ أشياء الوطن الخاصة، تلك التي لا يمكن الحصول عليها من أيّ مكان آخر في العالم.
سفر طناجر الكهربا
"بدي طنجرة كهربا" قال صديقي. ولم آخد الأمر على محمل الجدّ، وصنّفت جملته على أنّها أسمج نكتة يمكن أن يسمعها مسافر. لاحقًا، عندما وقفت عند السابعة صباحًا في الصالة الخارجية لمعبر رفح، ورأيت الكثير من طناجر الكهربا موزّعة يمنةً ويسرى، بجانب الحقائب وفي داخلها؛ عرفت أنّ صديقي كان جاداً في طلبه، وأنني كنت مخطئاً تماماً عندما لم آخذ الأمر على محمل الجد. وعلى كثرة طناجر الكهرباء التي كان يستعدّ المسافرون لاصطحابها معهم إلى الجانب المصري في المعبر، شعرت أن الحقائب التي يحملها المسافرون ليست حقائب عادية، بل بيوت صغيرة ينقلونها خارج الوطن.
"بدي طنجرة كهربا" قال صديقي. ولم آخد الأمر على محمل الجدّ، وصنّفت جملته على أنّها أسمج نكتة يمكن أن يسمعها مسافر. لاحقًا، عندما وقفت عند السابعة صباحًا في الصالة الخارجية لمعبر رفح، ورأيت الكثير من طناجر الكهربا موزّعة يمنةً ويسرى، بجانب الحقائب وفي داخلها؛ عرفت أنّ صديقي كان جاداً في طلبه
يستخدم الناس في غزة طنجرة الكهرباء كبديل حديث عن فرن الطينة الذي بات انتشاره محدودًا، فهي الوسيلة المستخدمة في صناعة الخبز الفلسطيني الأصيل، ورغم اختلاف سماكة الرغيف الذي ينتج عنها مقارنةً بالأرغفة التي كانت تصنع عبر فرن الطينة، فإنه يحمل جزءاً كبيراً منه، في المذاق والرائحة والشكل كذلك، فهو على الأقل أقرب إلى الأصلي من تلك الأرغفة التي تنتجها المخابز بمختلف أنواعها داخل قطاع غزّة، لهذا بات لا يخلو بيت غزّي من طنجرة الكهرباء.
رأس العبد يظهر في الشتاء فقط
يطلق الكثير من الفلسطينيين اسم "شتوي" عليه، ويظهر في جنوب قطاع غزّة باسم "كُوشَة"، بينما يعرفه معظم الفلسطينيين باسم "رأس العبد". إنها الحلوى الأكثر شهرة في الشارع الفلسطيني خلال فصل الشتاء، ويشتهيه المغتربون بطريقة تثير الاستغراب على الدّوام، ظلّ رأس العبد يشكّل فجوةً في رأسي، فلطالما تساءلت: لماذا يشتاق أصدقائي المغتربون لهذه الحلوى التي أكاد لا أشتريها مرتين أو ثلاثاً خلال فصل الشتاء؟ ألا يستلذون بالحلوى التي تصنعها الدول الأوروبية؟ ألم تكفهم كلّ قطع الشوكلاتة الموجودة في العالم؟
رأيت الوطن وهو يتشكّل على هيئة حقيبة يحملها المسافرون ويمضون، حقيبة يحمل بداخلها كلّ أشياء الوطن الخاصة، تلك التي لا يمكن الحصول عليها من أيّ مكان آخر في العالم.
ازدات أسئلتي حول رأس العبد المكوّن من الشوكلاتة والكريما والبسكويت، عندما رأيت الكراتين المرصوصة بعضها فوق بعض في ساحة الصالة الخارجية لمعبر رفح، فالمسافرون لم يكتفوا بكرتونة واحدة أو اثنتين، بل إنّ أقلّهم كان يضع في حقيبته أو إلى جوارها ما لا يقلّ عن خمس كراتين، بينما لم تتسع حقائبي إلا لكرتونة واحدة حملتها لصديقي وابنتيه بعدما سألته بوضوح: "مشتاق للكوشة!".
لاحقاً، عندما استقبلني في المطار ورأيت لهفته لتذوّق أوّل حبّة كوشة بعد غربة لمدّة ثلاث سنوات، كدت أغرق في الضّحك وأنا أتأمّل لمعة عينيه الغريبة لهذه الحلوى. كان سعيدًا كرابح لورقة يانصيب بعد ثلاث سنوات من شرائه للأوراق الخاسرة، ولكنني كنت قادرًا بعد ذلك على فهم دوافعه ولهفته، لقد أعاده رأس العبد إلى فكرة الوطن، إلى البيت تحديدًا وإلى صالة المنزل وهو متسكّع كملك لن يخسر عرشه يومًا.
هدية المسافر
في كتابه "رأيت رام الله" يتحدث مريد البرغوثي عن زيت الزيتون قائلًا: "زيت الزيتون بالنسبة للفلسطيني هو هدية المسافر، اطمئنان العروس، مكافأة الخريف، ثروة العائلة عبر القرون، زهو الفلاحات في مساء السنة، و غرور الجرار". وبالنظر إلى زيت الزيتون في حياة الفلسطيني عمومًا، سنجد أنه يحمل رمزية كبيرة جدًا، رمزية ترتبط بالأرض التي رحل عنها قبل أكثر من سبعين سنة، وأخرى ترتبط بالوجود، فبقاء شجر الزيتون واستمراره في عصر ثماره لصناعة الزيت الأصيل، هو دلالة واضحة لا تقبل الشّك على وجوده الحقيقي والفعال على أرضه.
لاحقاً، عندما استقبلني في المطار ورأيت لهفته لتذوّق أوّل حبّة كوشة بعد غربة لمدّة ثلاث سنوات، كدت أغرق في الضّحك وأنا أتأمّل لمعة عينيه الغريبة لهذه الحلوى. كان سعيدًا كرابح لورقة يانصيب بعد ثلاث سنوات من شرائه للأوراق الخاسرة
في المرة الأولى التي قرأت فيها مصطلح "هدية المسافر" الذي ربطه مريد بزيت الزيتون، لم يعتريني الاستغراب كثيرًا، وقلت إنّه فقط يحاول تجميل الأمر أو جعله ذات دلالة كبيرة وعمق لما للزيتون من حضور في حياة الكل الفلسطيني، ولكن عندما أصرّت أمي على وضع زجاجة زيت في حقيبتي، وعندما رأيت لهفة أصدقائي الفلسطينيين في البحث عن زيت زيتون فلسطيني في الغربة، عرفت أنّ قصد مريد لم يكن تجميل وتضخيم رمزية الزيتون في حياة الفلسطيني، ولكنّه وصف الحقيقة فقط. لاحقًا، عندما افتقدت طعم زيت زيتون البلاد، استسلمت كما استسلم مريد، وذهبت إلى البقالة و"مارست الذل الأول البسيط والخطير، عندما مددت يدي إلى جيبي واشتريت من البقال أول كيلو من زيت الزيتون".
الزبدية الفخّار غير البلاستيك
على الرغم من خطر الانقراض الذي يهدد صناعة الفخار في فلسطين عمومًا، فإن ارتباط منتجات هذه الصناعة بالتراث الفلسطيني جعلها تستمر إلى اليوم على الرغم من غزو الأواني الصينية والمعدنية، ويتمثّل هذا في الفخار الذي يستخدم من أجل إعداد الطعام، فيما يعرف بقطاع غزّة "القِدرة"، حيث يتم طبخ هذه الأكلة المكونة من الرز واللحم من خلال الفخارة المعروفة برمزيتها التراثية، واستخدامتها المتعددة سواءً للزينة أو للزراعة داخل البيوت أحيانًا.
كما أنّ هناك أدوات أخرى من الفخار ما تزال تشهد وجودًا ملحوظًا وجيدًا في الواقع، ولعلّ المثال الأكبر هو ما يعرف بـ "الزبدية" التي تستخدم من أجل دق الفلفل والثوم وعمل السلطة وغيرها من الأكلات الخاصّة بالمطبخ الفلسطيني. حتى أنّه يكاد لا يخلو بيت في قطاع غزّة من هذه الزبدية التي لا يتجاوز سعرها العشر شواقل (3 دولارات)، ولكنها تحظى بحضور استثنائي، فلم تستطع الزبادي البلاستيك أن تقاربها، فاستخدامها في الطعام يمنحه نكهة مختلفة ولذيذة على الدّوام.
لم أكن منتبهًا للزبدية، فقد تعاملت معها على الدّوام كأيّ أداة من أدوات المطبخ المتوفرة بكثرة وبشكل دائم، ولكنني عندما طلب منّي صديقي إحضار زبدية ومدقّة له، انتبهت. ثمّ مع مرور الأيام والأشهر في الغربة، اكتشفت السّر في تعلق الفلسطينيين بزبادي الفخار وإعراضهم عن زبادي البلاستيك المنتشرة في مختلف الدول، وهذا لما تمنحه الزبدية الفلسطينية من طعم مختلف للطعام... إنها تعيد لكل فلسطيني في الخارج فكرة البيت وفكرة الأكل.
أشياء لا يمكن أن تختفي
ارتباط أغراض البيت في فلسطين بفكرة البيت والوطن المطمئنة، يجعل الفلسطيني راغبًا بشكل دائم في الحصول عليها، ولا يتوقف الأمر على زيت الزيتون ورأس العبد وطناجر الكهرباء وزبدية الفخار، إذ يشمل الكثير من الأشياء التي تفقد نكهتها إلا إذا حضر الوطن فيها، كالكنافة النابلسية، والفلافل، والفلفل الأخضر، والدقّة والزعتر.
لهذا، يمكن ملاحظة انتفاخ حقائب المسافرين الفلسطينيين على الدوام، ولكنّ هذا الانتفاخ لا يعني أنّ الحقائب ممتلئة بالملابس، لا، بل ممتلئة بالوطن، الوطن الذي تحوّل من أرض وحاكورة وبيت، إلى أدوات بسيطة لا يمكن التخلّي عنها، أشياء غير قابلة للنسيان والتجاوز، ولا يمكن أن تختفي لأنها غير مرتبطة بتوقيت ولا تدخل في حسابات التّطور ولا يمكن إيجاد بديل مناسب لها، فالفكرة ليست في الأشياء ولكن في المكان الذي يمنحها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...