تندرج هذه المقالة ضمن مشروع "رصيف بالألوان"، وهي مساحة مخصّصة لناشطين وناشطات وأفراد من مجتمع الميم-عين أو داعمين لهم/نّ، للتحدّث بحرية ودون أي قيود عن مختلف التوجّهات الجنسية والجندرية والصحّة الجنسية، للمساهمة في نشر الوعي العلمي والثقافي بقضايا النوع الاجتماعي، بمقاربات مبتكرة وشاملة في آن معاً.
على مرّ الأعوام الماضية، لجأ عدد كبير من أفراد مجتمع الميم-عين إلى لبنان، بحثاً عن وطن يحترم حقوق الإنسان، ويحتضنهم/ نّ، غير أن الطريق ليست معبّدةً بالورود، ففي هجرتهم/ نّ الأولى، هربوا/ ن من الحروب الأهلية، أو من العنف، والترهيب الممارسَين ضدهم/ نّ، من قِبل مجتمعاتهم/ نّ المحافظة، وها هم/ نّ اليوم في هجرتهم/ نّ الثانية، يحاولون/ ن الهروب من "جحيم" الأزمة الاقتصادية والنقدية التي تُعدّ الأسوأ في تاريخ لبنان الحديث.
لا شك أن غالبية الشعب اللبناني تعاني من تبعات هذه الأزمة، لكن آثارها تبقى أقوى، وأكثر ضرراً، على أفراد مجتمع الميم-عين، إذ يعيش هؤلاء ظروفاً معيشية صعبة في الأصل، فما بالكم/ نّ بأحوال اللاجئين/ ات، في ظل الأزمة الراهنة؟
منذ عامين، ولبنان يرزح تحت وطأة جائحة كورونا، والاحتجاجات الشعبية، والانهيار الاقتصادي، وازدادت الأوضاع سوءاً مع انفجار مرفأ بيروت.
هذا الواقع المرير، حمل شبّاناً وشاباتٍ من مجتمع الميم-عين، على التفكير جدّياً في الهجرة خارج لبنان، بغية العيش بكرامة واحترام.
في حوار أجراه رصيف22 مع عدد من اللاجئين/ ات من مجتمع الميم-عين، يتضح أن لبنان الذي كان يُعدّ الأكثر تقبلاً للهويات الجنسية والجندرية المختلفة، مقارنةً مع معظم الدول العربية، بات العيش فيه صعباً، بسبب الأزمة المستجدة.
"أريد العيش بأمان"
"ضربوني، وقصّوا أظافري وشعري، وصوّروني بملابسي الداخلية، كما أنهم خطفوني، وعذّبوني في أثناء مروري بأحد الحواجز الأمنية في اليمن، والسبب أنني كنت أتصرّف على طبيعتي"، هذا ما قالته ياسمينة (اسم مستعار).
وفي التفاصيل، فرّت ياسمينة، وهي امرأة عابرة جنسياً، قبل عامين، من اليمن إلى لبنان، كمحطة أولى، ريثما تنتقل إلى أوروبا، حيث تعيد "تأسيس ذاتها كترانس من جديد"، حسب قولها. تعرضت ياسمينة في بلدها الأم، لأنواع التنمر والتمييز كلها، بسبب ميولها الجنسية، غير أن ذلك لم يثنِها عن المجاهرة بحقها في عيش حياتها بشكل طبيعي: "كنت قويةً، على الرغم من إنو مجتمعنا اليمني من أسوأ المجتمعات العربية بتعامله مع أفراد مجتمع الميم، والعابرات/ ين، لي أغلبهم اتعرّض ولا زال، للعنف والتعذيب والقتل. بعرف كتار تمّ قتلهم/ نّ، بسبب هويتهم/ نّ الجنسية. كلنا منبوذين/ ات، وما بتمّ تقبّلنا، مجتمعنا سيء جداً بالتعامل مع المثليين/ ات، والترانس".
في حوار مع عدد من اللاجئين/ ات من مجتمع الميم-عين، يتضح أن لبنان الذي كان يُعدّ الأكثر تقبلاً للهويات الجنسية والجندرية المختلفة، مقارنةً مع معظم الدول العربية، بات العيش فيه صعباً، بسبب الأزمة المستجدة
تستذكر ياسمينة، وهي في العشرين من عمرها، الخلافات المستمرة مع عائلتها: "تمّت معاقبتي، وحُرمت من أبسط حقوقي، وتعرّضت للإهانة، وتمّ نعتي بألفاظ بذيئة كوني خارجة عن الطبيعة، حسب قول المحيطين بي".
ونتيجة الظلم الذي لحق بها، غادرت ياسمينة اليمن، بحثاً عن وطنٍ بديل. وعن السبب الذي دفعها للّجوء إلى لبنان تحديداً، قالت: "كانت تجربتي الأولى السفر إلى لبنان، لأن صديقتي، وهي أيضاً عابرة جنسياً، موجودة في لبنان الذي شكّل مساحةً آمنة لنا. وعلى الرغم من أن هذا البلد هو الأكثر تقبلاً لنا كأفراد في مجتمع الميم-عين، إلا أنه تواجهني صعوبات كثيرة، خاصةً وأنني لم أجد أي شخص يوافق على توظيفي، كما أنني أخاف من التنقل خارج حدود العاصمة بيروت".
وكشفت ياسمينة أنها كانت على معرفةٍ مسبقة بسوء الوضع الإقتصادي في لبنان، غير أنها لم تتوقع أن يتدهور الحال بهذه السرعة، خلال الأشهر الأخيرة.
حالات خوفٍ كثيرة عاشتها في لبنان، الأسوأ من بينها، كانت حين تمّ توقيفها على إحدى نقاط التفتيش، لوقتٍ قصير، قبل أن يتم تسريحها: "خفت كتير انحبس، وهيدا الشي أثّر فيني نفسياً، وصرت خاف إضهر بالليل".
في الوقت الراهن، تحصل ياسمينة على بعض المساعدات من مفوضية الأمم، وبعض الجمعيات، لكنها شددت على أن هذه المساعدات ضئيلة في ظل الوضع المعيشي الصعب، وارتفاع أسعار السلع والخدمات جميعها.
وعلى الرغم من هذه الأوضاع المرهقة، لم تسمح لليأس بأن يسيطر عليها، مشيرةً إلى أنها مرحلة صعبة بالفعل، ولكنها تبقى أفضل من تلك التي عاشتها منذ طفولتها، و"الأيام القادمة ستكون أجمل في أوروبا".
وكشفت ياسمينة عن رغبتها في إجراء عملية تصحيح الجنس في وقت قريب: "أريد أن أجري عملية تصحيح، واستمر في حياتي، وأتمكن من العيش بأمان".
التمييز والعنف
"شعرت مراراً بأنني منبوذة، بسبب هويتي الجنسية، لكنني قررت مغادرة سوريا إلى لبنان، بسبب الحرب الدائرة هناك"، هذا ما قالته حياة (اسم مستعار)، التي كشفت أنها تعرضت لمختلف أنواع التمييز، والعنف، والترهيب، في بلدها.
ونتيجة هذا الظلم الذي لحق بها كله، اختارت الانتقال إلى لبنان، كونه الأقرب إلى سوريا، وفيه مساحة آمنة لمجتمع الميم-عين، مقارنةً ببلدان عربية أخرى: "تُعدّ الأشرفية، ومار مخايل، والجمّيزة، في بيروت، أماكن آمنة نوعاً ما، وفي لبنان يقلّ مستوى الرهاب من المثلية، لكن الأمر يختلف بين منطقة وأخرى".
لدى حياة وظيفة، ودخل شهري، لكنها تطمح للسفر إلى دولة أوروبية لتعيش باستقرار نفسي ومادي.
وفي حين أن حياة تعترف بأنها "محظوظة" نوعاً ما، كونها تملك عملاً، لكنها تعي جيداً أن هذا الاستقرار المادي لا ينطبق على العديد من أفراد مجتمع الميم-عين، كون الأغلبية تعاني ظروفاً معيشيةً وحياتيةً قاسية، في ظل غياب أيّ مصدر دخل، أو وظيفة، تسمح بمواجهة تحديات المرحلة الراهنة.
وفي هذا الصدد، أشارت الناشطة والمدافعة عن حقوق الإنسان، نايا رجب (وهي امرأة عابرة جنسياً من سوريا)، إلى أن العديد من أفراد مجتمع الميم-عين، "بالكاد يقدرون على دفع ثمن الطعام، وغالبيتهم فقدوا المأوى، وليست لديهم قدرة للحصول على الطبابة، والرعاية الصحية، والنفسية، والخدمات الرئيسية"، مع العلم بأن العابرين/ ات هم/ نّ الأكثر ضرراً إذ إن الوثائق الرسمية التي يحملونها مخالفة للهوية الجنسية، ما يسبب لهم/ نّ المشكلات، خاصةً عند عبورهم/ نّ الحواجز الأمنية، وعند الانتقال إلى بعض المناطق.
وتحدثت رجب، لرصيف22، عن تدهور الوضع في لبنان، مقارنةً بالسابق: "كل شيء تبدّل بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019؛ نوعية الخدمات، وفكرة المكان الآمن، كونه كان يوجد مناصرة على صعيد المجتمع ككل. الصورة تبدّلت اليوم، فلبنان لم يعد كما كان، وهو غير مهيّأ لاستقبال اللاجئين/ ات من أفراد مجتمع الميم-عين".
وأشارت نايا رجب إلى أن مفوضية الأمم لشؤون اللاجئين، اتّبعت إستراتيجية خدمات متساوية للجنسيات كافة، ولكن قيمة المساعدات تبقى متدنّية مقارنةً بالغلاء المعيشي.
مساعدات شحيحة
كشف الناشط في مجال حقوق المثليين/ ات، ومدير جمعية "حلم"، طارق زيدان، لرصيف22، أن هناك أعداداً كبيرة من أفراد مجتمع الميم-عين مسجّلون في مفوضية الأمم لشؤون اللاجئين، ويقدّر بالآلاف، مشيراً إلى أن جمعية حلم، وهي شريك المفوضية، تتلقى نحو 400 طلب في السنة.
وحسب زيدان، فإن الأكثرية الساحقة من اللاجئين/ ات، هم/ نّ من الجنسية السورية، كنتيجةٍ مباشرة للحرب الأهلية هناك، والبقية تأتي من البلدان الأخرى، مثل دول الخليج، ومصر، والأردن، والعراق، نتيجة البيئة المجتمعية، وهويتهم/ نّ الجندرية، وميولهم/ نّ الجنسية.
وأوضح طارق أن الصعوبات تختلف من شخص إلى آخر، ولكن الأصعب هو حال الأشخاص الذين يفتقرون إلى القوة المادية، وهم بغالبيتهم من الجنسية السورية، ويتعرضون للتمييز على المستويَين الرسمي، وغير الرسمي، نتيجة العلاقة السياسية المضطربة بين لبنان وسوريا: "للأسف، هذه العلاقة السياسية السلبية تُترجَم على أجساد هؤلاء اللاجئين/ ات، بطريقة عنيفة، على الرغم من أنه في معظم الأحيان لا يكون لدى هؤلاء أي علاقة بالسياسة، لا بل إن معظمهم قد تعرّضوا بدورهم للظلم على يد نظامهم السياسي".
وحسب زيدان، تضاف إلى الشق السياسي، أزمة السكن، والتعرّض للابتزاز بمختلف أنواعه، وعدم الحصول على رعاية صحية، وخصوصاً الأدوية، بالإضافة إلى غياب الدعم النفسي، منوهاً بأن المساعدات المتوفرة من جهات مختلفة، كالمفوضية، هي في الأصل قليلة جداً حتى قبل الانهيار، فكيف بعده؟
من جهتها، أكدت المديرة التنفيذية في جمعية العناية الصحية (SIDC)، ناديا بدران، لرصيف22، أن المواطن/ ة اللبناني/ ة، كما الشخص الأجنبي، لديه/ ا الاحتياجات نفسها، خصوصاً في ظلّ التهميش ضمن العائلة، وغياب إمكانية تنمية المهارات اللازمة، مما يحول دون الحصول على عمل، أو وظيفة، لكسب العيش.
وأشارت بدران، إلى أن فكرة اللجوء إلى بلد غريب يعاني أصلاً من ظروف معيشية صعبة، يجعل الشخص المعني عرضةً للاستغلال في معظم الأحيان.
وأوضحت ناديا أنه لا توجد أرقام دقيقة حول أعداد اللاجئين/ ات من مجتمع الميم-عين، لكنها كشفت أنه بشكل ملحوظ، ارتفع عدد اللاجئين/ ات السوريين/ ات الذين يطلبون المساندة والدعم من المؤسسة: "في السنوات الخمس الأخيرة، بات يستفيد من خدماتنا 50 في المئة تقريباً من اللاجئين/ ات السوريين/ ات، 80 في المئة منهم/ نّ غير متعلمين/ ات، وظروف عيشهم/ نّ صعبة جداً"، مشيرةً إلى أن هؤلاء الأفراد عانوا جداً منذ خروجهم من مجتمعهم، وتمّ استغلال بعضهم، حتى تمكّنوا من الوصول إلى لبنان، وها هم اليوم يطلبون مساعدات لدفع بدل الإيجار، وتأمين الحاجات الأساسية.
الوطأة تبقى أقوى على كاهل اللاجئين/ ات من مجتمع الميم-عين، الذين باتوا يواجهون تحدياتٍ كثيرة، وينتظرون بفارغ الصبر حزم أمتعتهم، ومغادرة لبنان إلى بلد آخر يؤمن لهم راحة البال والأمان
واللافت، أن الإقبال على طلب المساعدات خلال الأزمة الاقتصادية، قد ازداد بشكل ملحوظ، على غرار الخدمات الصحية والنفسية، وتوفير الدعم لإجراء فحوص فيروس نقص المناعة المكتسب، والأمراض المنقولة جنسياً، والزيارات الطبية بغية الحصول على العلاج المناسب.
ولفتت ناديا بدران، إلى أن غالبية اللاجئين/ ات ينتظرون/ ن اليوم إنجاز ملفاتهم/ نّ في المفوضية، من أجل إعادة التوطين، أي الانتقال من الدولة التي يلجأ إليها اللاجئ/ ة (وفي هذه الحالة لبنان)، إلى دولة أخرى قامت بدراسة الملف، ووافقت على قبول صاحبه/ صاحبته.
لا شكّ أن السنوات الأخيرة التي مرّت على لبنان، هي الأصعب في تاريخه، بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية والنقدية، ووقوع انفجار مرفأ بيروت، وانتشار وباء كورونا، ولكن الوطأة تبقى أقوى على كاهل اللاجئين/ ات من مجتمع الميم-عين، الذين باتوا يواجهون تحدياتٍ كثيرة، وينتظرون بفارغ الصبر حزم أمتعتهم، ومغادرة لبنان إلى بلد آخر يؤمن لهم راحة البال والأمان.
هذا المشروع بالتعاون مع المؤسسة العربية للحريات والمساواة AFE وبدعم من سفارة مملكة هولندا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...