شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
قلتَ لي إنك ستعود لتعدّ

قلتَ لي إنك ستعود لتعدّ "الكفتة" يا وليد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 1 ديسمبر 202203:06 م

تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، في قسم ثقافة، رصيف22.


صديقي وليد

أكتب إليك رسالتي هذه بعد مرور عشر سنوات بالتمام والكمال على افتراقنا من حفرة غير مرئية، وغير تقليدية، ولا تشبه الحفر التي يقع فيها الإنسان عادة حين لا يعود بوسعه أن يتخطاها، ويبدأ يتغزل بها، ويتحوَّل إلى حمار أبدي يهوى الذهاب والإياب من فوقها. أكتب إليك منها متقصداً، فقد وقعت فيها عامداً قبل سبع سنوات، ولم أخرج منها حتى الآن، والذي أدهشني أنني لم أصَب بأي جرح، فكلّ الأذى الذي طالني جراء سقوطي لم يفت في عضدي، ولم ينل من عزيمتي.

أواه ياعزيزي أبا أدونيس، كم أكره هذه الكلمات التي لا تعطيني الحقّ بأن أسخر من وقوعي في هذه الحفرة التي أحدثك عنها، فلم أجد فيها حفرةً أصغر منها لأتَبوَّل، وأكمل بقية حياتي فيها دون احتباسات دورية في المثانة تعطل عليَّ طريقة تفكيري. فأنا أريد كلمات، "ليست كالكلمات" كما في الأغاني. ربما كلمات هاملت التي تحمل دوياً وعنفاً في حروفها، ويمكن أن تتحوَّل إلى مخالب في لحظات العماء التي تصيب الإنسان. مخالب تمزق كلّ شيء يقع في طريقها، وتصفر في الهواء كما لم يحدث من قبل.

لا أخفيك أنني أغبطك، فأنت كنت تقرأ أكثر مني. حتى كتبي التي أهديتك إياها في مناسبات مختلفة، وبلغت عشرة كتب حينها، قرأتها أكثر مني، وأعدتَها لي حين تشاجرنا في مقهى "الشخصيات المهمة" في مخيم اليرموك، وراعني أنها حفلت بملاحظاتك الكثيفة فيها بقلم الرصاص.

لم أستطع فكَّ حروف معظمها، وبدت لي، فيما لو جمعتها، أنها ربما أكثر مما كتبت في بعض هذه الكراسات الصغيرة المبهمة التي دأبت على إصدارها بين الحين والآخر. وهذا أُكِّد لي، وأنا أعاينها غاضباً، أنك فأر كتب، بل كنت أخالك في قمم يأسِك أنك أكثر من قرأ كتباً، ووضع ملاحظات وتدوينات عليها من أهل المخيم، وكأنك كنت تريد في أعماقك أن تجادل أصحابها، حتى من مات منهم، ومن رحل إلى أصقاع بعيدة، أو إلى حفر شبيهة بالحفرة التي مازلت أخبُّ في طينها، وفي وحلها، وقد استمرأت ذلك مثل خنزير.

صديقي وليد، أكتب إليك رسالتي هذه من بعد مرور عشر سنوات على افتراقنا من حفرة غير مرئية، وغير تقليدية، ولا تشبه الحفر التي يقع فيها الإنسان عادة حين لا يعود بوسعه أن يتخطاها، ويبدأ يتغزل بها، ويتحوَّل إلى حمار أبدي يهوى الذهاب والإياب من فوقها

كانت كتبي في المحصلة، وليس من حقك أن "تخربش" عليها. هكذا كان يبدو لي الأمر، وأنا أقع ضحية تشويش عقلي بسبب خلافنا حول قضايا غير مهمة بمنظار اليوم وبعد مرور عقد ونصف تقريباً.

أول شيء فعلتُه يا عزيزي وليد أنني اشتريت ممحاة صينية، وبدأت في نفس المقهى بالتسلي بتنظيفها من تدويناتك. أردت أن أمسح أثرك عنها. كنت حانقاً، وأريد أن أنفّس عن غضبي، وكنت أرتجف أكثر مما ينبغي لمؤلف كتب أن يرتجف دون سبب واضح. وحين هدأت، صرت أعود إلى طنين الأذن الذي سيلازمني لفترة طويلة من بعد شجارنا، فما إن تطن أذني حتى أراك تقود دراجتك، انطلاقاً من الشارع المتفرع عن حارة الرابية التي تقيم فيها -الحارة المقابلة لمقهى "الشخصيات المهمة"- وتمضي في اتجاهات مختلفة بحثاً عن لقمة عيشك بتدعيم محل بقالتك الصغير ببعض البضائع.

لم يكن بوسعي تدارك الألم الذي كان يسببه لي هذا الطنين، فما إن ذهبت للمشاركة بفيلمي الروائي القصير "السيدة المجهولة" إلى مهرجان روتردام للفيلم العربي، ووقعت ضحية يوم الختام والاحتفال بتوزيع الجوائز، حتى فاجأتني نقطةٌ سوداء سبحت مع البول في غرفة الفندق.

كان "البيديه" نظيفاً ولامعاً، وليس بوسعه "الاحتفاء" بمثل هذه القذارة. ولا أخفيك أنني شعرت ببعض الجزع، وأنا أبحث عن مبرر لوجودها. من أين جاءت؟ وإلى أين ستذهب وتتركني، وأنا أصرخ مع أوس بن حجر مثل ذئب خلّعت أسنانه في معسكر للاعتقال:"أيتها النفس أجملي جزعا/إن الذي تخشين قد وقعا"؟

هل كنت أخشى حقاً مما سيقع لاحقاً، ويدخلني مع عذابات أورفيوس في العالم السفلي، وأنا أعيد اكتشاف موسيقى جاك أوفنباخ الذي عاش حياته مريضاً بين هويتين؟ عدت من هولندا إلى دمشق في اليوم التالي محملاً بجائزة الصقر الذهبي، وكانت أول جائزة تُمنح لي في حياتي، ولكن النقطة السوداء يا عزيزي نكدت عليَّ فرحي بها.

عدت من هولندا إلى دمشق في اليوم التالي محملاً بجائزة الصقر الذهبي، وكانت أول جائزة تُمنح لي في حياتي، ولكن النقطة السوداء يا عزيزي نكدت عليَّ فرحي بها

بقيت أربعة أيام مشدود الأعصاب حتى صعقت، وأنا أتبوَّل في تواليت مقهى "الشخصيات المهمة"، وأرى ذلك الخيط الأسود الطويل الذي لا يريد أن يتوَّقف، وخلته أنه سيصل بين محطتين فضائيتين من الوهن. ارتخيت، وغامت الدنيا في عيني، وأول شيء فعلته ياعزيزي هو أنني بحثت عنك لأعيد إليك الكتب ذاتها.

صحيح أنني نظفتها من "تبوّلك عليها بشكل ملاحظات"، ولن يكون بوسعك التنقيط عليها ثانية بذات الطريقة، إلا أنني تمسكت بأملٍ واهٍ لا يقود خطاي إلى جزع أوس بن حجر. أردت أن أستعيد كل ما دونته يا عزيزي على كتبي. لكن هذا مستحيل. لا أعرف السبب لذلك القلق الشقي الموازي لجزع الشاعر الجاهلي "الذي يظن لك الظن، كأن قد رأى، وقد سمعا"، وقد ابتعدت عن ذلك التاريخ نحو 12 عاماً.

كل مافعلته هو أنني بحثت عنك في تلك اللحظة لأعيد إليك الكتب، وكأنني أريد أن أستعيد اللحظات التي سبقت إيماني بأن شيئاً خطيراً قد ألمَّ بي، وإلا لما رأيت ما رأيت. حتى النائم ليس بوسعه أن يرى ما رأيت. كان خيطاً أسود طويلاً، ولا أحد يمكنه أن يوقفه سوى تدويناتك التي جرَّحت كتبي يا عزيزي. لم يفعل ذلك أحد سواك من قبل. حتى أنني تساءلت في أكثر من مناسبة ما إذا كان ممكناً لأفعالِك أن تقتلك في يوم ما.

قال لي طبيب الطبقي المحوري مازن المنجد إن ورماً سرطانياً يتوَّضع على الكلية اليسرى، وهو يزاحم غدة الكظر التي ستضغط بدورها على البنكرياس، "في غزو مثير وغير صريح للأوعية الدموية"، ولكن من خبرته كطبيب، فالورم يراوح في مكانه، ويستعد للخروج، ما إن يمسك بطرف الخيط، أو قل طرف الوعاء الدموي، وحينها سوف يتحرر من كل شيء، وينفجر، وقد تصل شظاياه إلى ما هو أبعد من الجدار البريتواني في البطن. أي أنه سوف ينتقل إلى عضلة من عضلات الجسم، وحينها سوف أحتاج إلى العلاج الشعاعي أو الكيماوي، وهي علاجات لن تكون مفيدة على أية حال، فهي سوف تطيل عذاباتي فقط.

قال لي أيضاً إنه يجب أن أبحث عن جرَّاح كلية ماهر للاستئصال بأسرع وقت ممكن، وألا أجادله بالإبقاء على أي جزء منها. ينبغي استئصالها بالكامل. وشدد على ضرورة أن يكون ماهراً، ولم يقترح أيّ أسماء، فقد ترك الأمر لي، ولشقيقي نضال الذي صار يرافقني مثل ظلي منذ أن اتصلت به لأخبره بأمر الخيط الأسود الرفيع.

لقد فهمت يا عزيزي أن حالتي أخطر مما كنت أتصور، وأن عليَّ أن أستعد للأسوأ، ومع ذلك كنت أريد أن أسترجع كل تدويناتك، حتى من بعد استئصال كليتي اليسرى في مشفى الشام الجراحي بمشرط الطبيب الألمعي نزار أبو حسان. فأنت من بعد كل ذلك سوف تظهر كشخصية مؤثرة في روايتي "شامة على رقبة الطائر".

أنت ذلك العسكري التعس الذي حفر مقبرة عائلة مسيحية في البقاع الغربي في يوم عادي من أيام خدمته الإلزامية في صفوف جيش التحرير الفلسطيني كرقيب مجند، وعاد محمَّلاً بجماجم الموتى إلى الثكنة

أنت ذلك العسكري التعس الذي حفر مقبرة عائلة مسيحية في البقاع الغربي في يوم عادي من أيام خدمته الإلزامية في صفوف جيش التحرير الفلسطيني كرقيب مجند، وعاد محمَّلاً بجماجم الموتى إلى الثكنة. قلت لي إنك كنت مخموراً حين قمت بذلك. أنا أصدقك الآن أكثر من أي وقت مضى. تخيّل أنك لو لم تكن كذلك، فمن المؤكد أن آمر الثكنة في حينها العقيد "ط–ر" كان سينفذ بك عقوبة الإعدام رمياً بالرصاص، ويلقي بجسدك في حفرة مشرَّعة على المجهول، لو لم تعدها ثانية إلى الأجداث التي نبشتها، وأخرجتها منها.

أتعرف لماذا يجب أن أصدقك؟

يجب أن أصدقك من دون أن أسألك يا عزيزي، لأنك قرعت عليَّ الباب بعد عامين من تجدد صداقتنا. حدث ذلك قبل يومين من خروجنا نهائياً من مخيم اليرموك إلى ثقوب كبيرة في هذا العالم المضاء بكهربة وحشية، وطلبت كحولاً. أنا لم أقدم لك شيئاً. خفت كثيراً من هذيانك في تلك اللحظات. كنت تشتم كل شيء من حولك، وكانت القذائف ما تزال تئز من فوقنا بين الحين والآخر.

كان وجهك مكفهراً، ويستعيد كل تدويناتك التي مسحتها عن كتبي. رأيتُها في ثوانٍ، واستعدتها مثل فيلم سينمائي مستلٍّ من بكرةٍ فالتةٍ في الزمن. كيف تجرأت حينها وودعتني، وقلت لي إنك ستذهب إلى حي التضامن، وتشتري عرقاً بلدياً، وسوف تعود لتعد "الكفتة" التي تحبها أكثر من أي شيء في هذا العالم؟!

لقد ذهبت بقدميك إلى حفرة في حي التضامن الملاصق لمخيم اليرموك. لا أحد يعرف في أي حفرة مفتوحة وقعت، فالحفر من حواليك كثيرة، وقد افتتحت في وقت مبكر من عقد الألم، منذ أن بدأنا نسمع معاً بحاجز نسرين الرهيب الذي لم ينجُ منه إنسان، ولم نملك معلومات بعد عن صليات الرصاص التي نخَّلت جسدك -ربما- حتى تتيح له أن يختلط بأجساد من اختطفوا على الحواجز المتنقلة، وقُتلوا قبلك.

المؤكد أن عظامك ضاعت، وتوَّزعت بين عظام الآخرين، وأن "مدمنين كحوليين" آخرين قد يجيئون يوماً فرادى أو زرافات من باطن الغيب، ويبحثون عنها، ويعيدون ترميمها، وتلميعها، وترتيبها بما يليق بها، فهم الوحيدون الذين يمتلكون شجاعةً وصدقية في فهم هذه الأمور أكثر من الناس العاديين، وربما، لأنك الوحيد من بين سكان مخيم اليرموك، الوحيد أقول، من قتلتْه ثقافته، وحساسيته، وقدرته كفأر بشري لم يرد بهذيانه وفقره أن يخضع لمشرط أو تجارب من أي نوع، وكان قادراً على هضم ما يشاء من الكتب، وليس قراءتها وحسب.

إلى اللقاء يا عزيزي في حفرة أخرى، لا تشبه الحفر التي وقعنا فيها. ربما يكون اللقاء في عالم آخر، لا تنيره أي كهربة بشرية وحشية!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image