شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
بين السياسة والأدب والحكايات… لماذا كلّ هذا الهوس بكرة القدم؟

بين السياسة والأدب والحكايات… لماذا كلّ هذا الهوس بكرة القدم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الخميس 24 نوفمبر 202212:46 م

في مونديال 1978، كانت الأرجنتين البلد المضيف لبطولة العالم، وكانت كلّ مباراة للمنتخب الوطني في البطولة احتفالاً متجدّداً بمعشوقة الجماهير في طول البلاد وعرضها. لكن لكاتب الأرجنتين الأشهر، خورخي بورخيس، رأياً آخر. تعمّد بورخيس آنذاك تحديد موعد إحدى محاضراته لتتزامن مع مباراة الأرجنتين الأولى في البطولة، الأمر الذي وجد فيه كثير من الأرجنتينيين تعالياً واحتقاراً للثقافة الشعبية التي تجد في كرة القدم سبباً من أسباب الفرح، واحتفالاً يومياً بالأمل والحياة.

كيف لمن كانت كرته المرقّعة متعة حياته الوحيدة، أن يهتم لنظريات بورخيس حول التعصب الكروي والدوغمائية؟

في رأي بورخيس، كرة القدم أفدح جرائم الإنكليز. فاللعبة الأرستقراطية الإنكليزية صارت شغف اللاتينيين في تلك الأحياء النائية، نقلها إليهم البحارة الإنكليز، فوضعوا فيها سحرهم، وأعادوا اكتشافها، كأنهم خالقوها.

من الصعب أن تقنع شعباً كبر وهو يلعب الكرة في زوايا الأحياء الشعبية، بمنطق بورخيس، فكيف لمن كانت كرته المرقّعة متعة حياته الوحيدة، أن يهتم لنظريات بورخيس حول التعصب الكروي والدوغمائية، وكيف يتفهّم الأرجنتينيون أسباب بورخيس وقد خرج جميع أبطالهم من تلك الملاعب، وداعبت كُلّ أساطيرهم تلك القطعة الجلدية المدوّرة. حتى أرنيستو تشي غيفارا، ذلك الثائر الأممي، الذي أنجبته الأرجنتين وأهدته إلى العالم، أحبّ كرة القدم.

في ذلك العام، ربحت الأرجنتين كأسها العالمي الأول، ورفع الأرجنتينيون كؤوس الاحتفال في ساحات بوينس آيرس العامة حتى ساعات الصباح، وربما كان بورخيس الأرجنتيني الوحيد الذي نام في تلك الليلة.

على هامش كل حدث كروي، يُثار النقاش حول جدوى كرة القدم: اثنان وعشرون لاعباً يركضون خلف كرة جلدية لتسعين دقيقةً، ما الذي يجعل تلك الدقائق ممتعةً لكل هؤلاء المهووسين حول العالم؟ 

كرة القدم في عيون منتقديها

على هامش كل حدث كروي، يُثار النقاش حول جدوى كرة القدم: اثنان وعشرون لاعباً يركضون خلف كرة جلدية لتسعين دقيقةً، ما الذي يجعل تلك الدقائق ممتعةً لكل هؤلاء المهووسين حول العالم؟

أي منفعة تحققها كرة القدم لمن ينفقون الساعات في مشاهدة المباريات؟

أليس هذا محض هُراء؟

في أمريكا اللاتينية مثلاً، يأخذ هذا الجدل حيزاً أكبر من كونه مجرد نقاش شعبوي. يتراشق هناك المثقّفون والأدباء والساسة والرياضيون بالآراء. تراشق لا يقتصر على ضفة بعينها، فقد تجد كاتبين يساريين على طرفي نقيض عندما يكون الموضوع كرة القدم. لكل شخصٍ فلسفته الخاصة في الدفاع عن وجهة نظره. فهناك من يجد في كرة القدم وسيلةً لإلهاء الشعوب الفقيرة عن الثّورة ضد ناهبيها، لأنّها تعطيهم ذلك الإحساس الخادع بالمتعة والرضا، وهناك من يسخر من ذلك الكلام الذي يجد في حبة الطماطم سبباً لاستكانة الشّعوب واختلال ميزان العدالة الاجتماعية.

أي منفعة تحققها كرة القدم لمن ينفقون الساعات في مشاهدة المباريات؟ أليس هذا محض هُراء؟

التراشق الأجمل، والأكثر طرافةً، هو الذي حصل بين بورخيس ومواطنه إرنستو ساباتو. الكاتبان اللدودان، اللذان لم ينجحا في أن يتفقا على شيء تقريباً، اختلفا على كرة القدم أيضاً. كان بورخيس يُبالغ في تقييم تأثيرات كرة القدم المجتمعية، وكان ساباتو يسخر من أحكام بورخيس المسبقة: "كيف يحبّها ولم تلمسها قدماه يوماً؟".

لم تكن أسباب بورخيس في انتقاد كرة القدم تتصل باللعبة ذاتها، بل بالتعصّب لدى جمهورها العريض، وبتداعيات ذلك التعصّب الأعمى على المجتمع. فبحسب بورخيس، التعصّب الكروي معادل للتعصّب الديني والوطني والسّياسي. يُضاف إلى ذلك، تسخير اللعبة وأبطالها في حقل التأثير سياسياً واجتماعياً.

بحساسية الكاتب، كان بورخيس، "الملدوع" بنار الديكتاتوريات والعصبيات الوطنية، يجد في كرة القدم استثماراً للديكتاتوريات وتأجيجاً للعصبيات.

ولكن، هل تتحمّل كرة القدم وزر العصبيات البشرية؟!

لطالما كان الدين مثلاً غطاءً لكثير من الحروب التوسعية، فهل كان الدين مسؤولاً عن أطماع وطموحات الجماعات البشرية بالتمدّد والثّراء والقوّة؟!

لا يمكن عدّ بورخيس غير محق في بعض مخاوفه، لا سيما أن كرة القدم قدّمت لاعبين استخدموا تلك الجماهيرية في الترويج لأفكار وسياسات حكومية لا تتصل من قريب أو بعيد بالمستطيل الأخضر. آخر ما لمسناه حول ذلك هو ما أفصح عنه حارس منتخب فرنسا، هوغو لوريس، قبيل أيام قليلة من انطلاق مونديال قطر 2022: "هناك ضغط كبير علينا كلاعبين للتحدّث عن قطر، يجب أن يكون التركيز على الميدان، الباقي للسياسيين، نحن رياضيون".

هناك من يجد في كرة القدم وسيلةً لإلهاء الشعوب الفقيرة عن الثّورة ضد ناهبيها، لأنّها تعطيهم ذلك الإحساس الخادع بالمتعة والرضا، وهناك من يسخر من ذلك الكلام الذي يجد في حبة الطماطم سبباً لاستكانة الشّعوب واختلال ميزان العدالة الاجتماعية

في المقابل، بين لاعبي الكرة من جمع المهارة والثّقافة، وحمل قضايا تنوء عن حملها ملاعب الكرة. فمن الغرف الضيقة لنادي كورينثيانز، قاد البرازيلي سقراط انقلابه الصغير على النظام الديكتاتوري، فأسّس مع رفاقه تجمعاً ديمقراطياً للنادي، متحدياً قمع المجلس العسكري الذي حكم البرازيل آنذاك.

بعد ذلك بأكثر من عقدين من الزمن، كان مارادونا قد انضم إلى التظاهرات المناهضة لجورج بوش على هامش القمة الرابعة للأمريكتين التي استضافتها الأرجنتين في العام 2005. ارتدى نجم الأرجنتين يومها فانيلا سوداء، تتوسّطها صورة لجورج بوش، وتحيط بها الدماء من كل جانب، وقد كُتب أعلاها "مجرم حرب". لم يتوقّف بعدها مارادونا عن انتقاد أمريكا وسياساتها منذ عهد بوش حتى عهد ترامب.

كرة القدم في عيون الأدب

يحلم اللاتينيون بأن يصيروا لاعبي كرة قدم قبل أن تختار لهم الحياة طرقاً أخرى. فمن يفشل في أن يصير لاعب كرة القدم، يكتب أدباً يجعل من الكرة وشخوصها نافذةً على الحياة والقصص في زوايا الملاعب والحارات. تلك الحارات التي علّمت اللاتينيين الرقص مع الكرة في المساحات الضيقة، والتلاعب بالخصوم، والإفلات منهم بخفّة لاعبي السيرك. في ذلك النصف من الكوكب الأرضي، تحجز كرة القدم أدباً خاصاً لنفسها، يسميه اللاتينيون "أدب كرة القدم". هذا طبيعي في قارة تتنفّس كرة القدم، تعيشها، وتختبر تفاصيلها وقصصها. غابرييل غارسيا ماركيز أراد أن يكون لاعب كرة قدم قبل أن يصير الكاتب العظيم الذي هو عليه، وغاليانو كان يحلم، ككل الأوروغوايانيين، بأن يصير لاعب كرة. هو شغف يبدأ منذ الولادة، ويكبر، أو يتحوّل إلى شكل آخر. تلك الشعوب التي تجيد رواية القصص، لم تبخل على العالم بقصص الملاعب، وبحكايات الأطفال الذين انتشلتهم الكرة من أوحال الفقر. ماريو بيندينتي، إدواردو غاليانو، أوسفالدو سوريانو، أنطونيو سكارميتا، وكثرٌ غيرهم، كتبوا عن كرة القدم. لقد هذّبت الكرة صغار تلك البلاد وأنضجتهم. ألهمتهم بصعود أساطيرها، وعلّمتهم أن يحلموا، ويصلوا، ويكتبوا الروايات. لقد جعلت كرة القدم العالم يلاحظهم، يحبّهم، ويصفّق لهم.

لقد هذّبت الكرة صغار تلك البلاد وأنضجتهم. ألهمتهم بصعود أساطيرها، وعلّمتهم أن يحلموا، ويصلوا، ويكتبوا الروايات. لقد جعلت كرة القدم العالم يلاحظهم، يحبّهم، ويصفّق لهم

الجانب المظلم

في حديث إلى محطة "تيك سبورتس" التلفزيونية الأرجنتينية، روى الهدّاف التاريخي لمنتخب الأرجنتين، غابرييل باتيستوتا، مأساته مع الإصابات والآلام المبرّحة التي تركتها كرة القدم في ساقيه: "بعد يومين من اعتزالي كرة القدم لم أكن أستطيع المشي. كنت أقضي حاجتي في السرير على الرغم من أن دورة المياه كانت تبعد فقط ثلاثة أمتار، لأنني لم أكن أقوى على النهوض. لقد طلبت من طبيبي أن يبتر ساقي حتى أتخلص من ذلك الألم".

لقد منحت كرة القدم باتيستوتا الفرصة بأن يلامس النجوم، لكنها أفسدت حياته في لحظة. في غمرة سنوات المجد الكروي، تعايش باتيستوتا مع لعنة الإصابات التي جعلت عمره الكروي قصيراً. وبعد تقاعده الثّلاثيني، كان على نجم الأرجنتين أن يتعايش مع المسامير التي زرعها الأطباء في كاحله لتخفيف آلامه المبرّحة.

في الثاني من تموز/ يوليو من العام 1994، دفع لاعب كرة القدم الكولومبي أندريس إسكوبار، ثمن الهدف الذي سجله خطأً في مرمى منتخب بلاده في مونديال أمريكا، وتسبّب -لسوء حظه- في خروج كولومبيا من المنافسات، فعُثر عليه مقتولاً بستّ رصاصات. كانت تلك الجريمة المروّعة أقسى ما يمكن أن يواجهه لاعب كرة قدم خارج المستطيل الأخضر؛ أن تخسر حياتك في لحظة بسبب هدف أهدرته لفريقك، أو بسبب هدف أدخلته خطأً في مرماك، لأن مشجّعاً متعصّباً أراد ذلك.

قبل ذلك بسنوات طويلة، في صيف العام 1918، انتحر أبدون بورتي، لاعب نادي ناسيونال الأوروغواياني، برصاصة في وسط ملعب ناديه. قتل نفسه بعدما خانته موهبته، وأدارت له الأضواء ظهرها.

كرة القدم، التي يراها البعض سبيلاً إلى ثروة سريعة وغير مستحقة، هي رياضة لا مكان فيها لمن لا يستحق مكانه. لن تقدّم لك إلا مقابلاً لجهدك. فإذا أخطأت، مسحتك.

إذاً، كرة القدم، التي يراها البعض سبيلاً إلى ثروة سريعة وغير مستحقة، هي رياضة لا مكان فيها لمن لا يستحق مكانه. لن تقدّم لك إلا مقابلاً لجهدك. فإذا أخطأت، مسحتك. هكذا فعلت مع من لم تحتمل رؤوسهم هذا القدر من المال والشّهرة، فأدمنوا الكحول والسّهر والمخدرات. وضعتهم أمام الباب، وأقفلت عليهم بالنسيان. هي لعبة يتقاعد لاعبوها في الثّلاثين. ويوضعون على الرفّ باكراً. يعيشون عقداً تحت الضوء، وعقوداً في الظل، مجبرين على العيش وفق قواعد صارمة لا تمنحهم رفاهية التكاسل أو التراخي ليومٍ واحد.

قد تفسد الإصابات حياتهم الكروية، أو تقتلهم رصاصة مشجّعٍ غاضب.

في النهاية، وبالإذن من بورخيس، لكرة القدم ما لها وما عليها، كأي شيء في هذا الكون، لكنها جزء جميل من قصصنا ويومياتنا وتفاصيلنا. هي مساحة للتنفّس والشغف والحياة، وهي كما يقول خافيير مارياس: "استعادة الطفولة كل أسبوع".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image