الساعة تشير إلى العاشرة في أحد مقاهي مدينة الجزائر، صباح يوم صيفي حار يقلّ فيه عادةً النشاط. إلا أن المكان كان صاخباً، ولا صوت فيه يعلو فوق النبرات الحادة لأشخاص يناقشون موضوع تأهل الجزائر إلى المونديال.
يشير أحدهم إلى هاتفه، ويحاول إسكات البقية للاستماع إلى فيديو على يوتيوب، يزعم صاحبه بأنه يملك الأدلة الكافية التي ستدين حكم المباراة الفاصلة ضد الكاميرون، وستنصاع بعدها الفيفا أو المحكمة الرياضية بضغوط من جهات نافذة. رفض أحد الجالسين الاقتناع بالأمر، مطالباً بأدلة حقيقية، لكن صاحب الهاتف قاطعه: انهزمنا في الثواني الأخيرة للمباراة وسنتأهل في اللحظات الأخيرة قبل المونديال، وتذكّر كلامي جيداً!".
وقتها، لم يكن المقهى وحده من يضجّ بمثل هذه الأحاديث. فبمجرد الولوج إلى مواقع التواصل الاجتماعي، سيقابلك سيل جارف من المنشورات والتعليقات والأخبار التي تتحدث عن إمكانية تواجد الخضر في المونديال.
طائفة المؤمنون بالمونديال.
لقد عاش الجزائريون ما يشبه مسلسل غموض وتشويق، تتخلله الكوميديا والتحقيقات البوليسية منذ نهاية شهر آذار/ مارس الماضي. عرف المنحى الدرامي لهذا المسلسل تعرجات عدة في صعوده إلى القمة في الكثير من الفترات، وحين يظن الجميع أن الأمر انتهى ببيان من الفيفا تارةً، وتصريح مسؤولها الأول تارةً أخرى، تخرج معلومات وأخبار من العدم تعيد إحياء فرضيات التأهل.
لقد أظهر المصدّقون لهذه الفرضيات إيماناً أعمى لا تهزه ذرة شك، وهم حسب كمية التفاعل كثر، تتراوح مراتبهم الاجتماعية وشهادتهم العلمية بين من لم ينَل حظاً من التعليم، والدكتور في الجامعة. البعض يشبّههم بطائفة كروية تؤمن بالتأهل إلى المونديال وكأنه من الغيب وتسلّم به من دون دليل.
وجود هذه الطائفة في الأساس، يخلّف وراءه علامات استفهام: ما الذي يدفع الجماهير العربية ومنها الجزائرية إلى الانجرار وراء أنماط التفكير العاطفية، بما تتسم به من سطحية وسذاجة أحياناً، وتصورات وردية هي أقرب إلى الكذب على الذات حسب مراقبين، والتخلي عن التفكير العقلاني النقدي الذي يشترط الدليل؟
يرى البعض أن هذه الحالات المتكررة تقع في معظمها ضمن التوابع النفسية لحالات ما بعد الصدمة، ولعل أبلغ مثال تاريخي عنها خروج الملايين من المصريين إلى الشوارع بعد خطاب عاطفي أعلن فيه الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، تنحيه عن السلطة إثر هزيمة جيشه أمام إسرائيل عام 1967، ليحثوه على البقاء في منصبه.
تراجيدية من 40 ثانيةً
بدأت القصة في سهرة الـ28 من آذار/ مارس 2022. حينها اتجهت أنظار الجزائريين إلى شاشات التلفاز. لا شأن يعلو يومها فوق شأن المباراة، وامتلأت مدرجات ملعب مصطفى تشاكر عن آخرها منذ ساعات الصباح الأولى.
المتفائلون كانوا كثراً، ثمة سلسلة من 35 مباراةً من دون هزيمة، والفوز الذي عاد به أشبال المدرب بلماضي، في مباراة الإياب، جعل المأمورية تبدو شبه محسومة للجزائر، كما أن منتخب الكاميرون كان مأزوماً بنكسة الخروج من كأس إفريقية نُظّمت على أرضه ومدرب جديد انهزم في أول تحدٍّ له أمام الخضر.
لم يكن حينها أشد المتشائمين ينتظر سيناريو كالذي نسجته أطوار المقابلة؛ تلقّت شباك الجزائر هدفاً مبكراً، اجتهد إثره اللاعبون لتعديل الكفة وضيّعوا فرصاً حبست الأنفاس، وكانت للحكم حكاية أخرى، أضافت جرعات قويةً من الغضب إلى القلق الذي كان يساور الجماهير.
شارف وقت المباراة على الانتهاء، والدوحة صارت تبدو بعيدةً، لكن معجزةً تحققت؛ سجّل الخضر قبل 40 ثانيةً من نهاية الوقت، واقتربت الجزائر من قطر حتى أن البعض رأى نفسه في المطار. تهاطلت الدموع من الفرح وعانق الجميع بعضهم منتظرين أن يصفّر الحكم معلناً نهاية المباراة.
ثوانٍ معدودات تفصل جحافل الجماهير عن الاحتفال في الشوارع، لكن تلك الثواني كانت كافيةً للخصم ليسجل الهدف القاتل. وكانت الصدمة وتهاطلت الدموع مجدداً، لكنها دموع الأسى هذه المرة، وشخصت أنظار الجماهير إلى بعضهم البعض، منتظرين ألا تأتي صافرة الحكم، لكنها أتت. لم ينتظر الحكم غاساما، صفّر مباشرةً معلناً نهاية الحلم، وارتسم مشهد النهاية التراجيدية أمام أعين الجزائريين، وهم يشاهدون مدربهم المحبوب يسجد باكياً".
لاقت الأخبار الزائفة والفيديوهات المفبركة التي تشير إلى تلقّي الحكم رشاوى من المغرب تفاعلاً كبيراً كذلك
مراحل الصدمة الخمس
يقول الأخصائيون النفسانيون، إن الإنسان يمر بـ5 مراحل بعد تعرّضه للصدمة في ما يُعرف بـ"نموذج كيوبلر روس"، ويبدو أن الكثير من المؤمنين بالجزائر في المونديال، خاضوا الكثير من تلك المراحل ومنهم من لم يستطع تجاوز بعضها.
1-الإنكار... "الماتش يتعاود"
ما هي إلا لحظات بعد نهاية المباراة وإعلان إقصاء الخضر، حتى انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي بسيل عارم من التغريدات المنددة بالقرارات التحكيمية، وتم تداول عشرات الفيديوهات التي تشير إلى ضربات جزاء غير محتسبة للفريق الوطني. لقد سادت حالة إنكار عامة. أما الآراء التي تقبلت الهزيمة وتكلمت عن أسباب موضوعية لها، فقد بدت ضئيلةً حينها.
أصبح الحكم بالكاري غاساما، العدو الأول للجماهير الجزائرية بلا منازع، وتحولت المنشورات إلى دعوة الاتحاد الجزائري للطعن في النتيجة.
قيل إن الحكم تعمّد عدم الاستماع إلى آراء الحكّام المساعدين في غرفة التحكم بالفيديو، وتم تداول تغريدة لحكم ألماني انتقد فيها التحكيم.
لاقت الأخبار الزائفة والفيديوهات المفبركة التي تشير إلى تلقّي الحكم الغامبي غاساما، رشاوى من الاتحاد الكاميروني بوساطة من المغرب، تفاعلاً كبيراً كذلك.
استسلم الاتحاد الجزائري للضغوط الكبيرة، وقال إنه أعدّ ملفاً ثقيلاً بعث به إلى لجنة الحكام في الفيفا، وفيه من الأدلة ما يكفي لإقناعهم بإتخاذ الإجراءات الضرورية.
تحولت بعدها فيديوهات المؤثرين ومنشورات الصحافة وبلاتوهات التلفزيون، إلى تفسير قوانين الفيفا بنداً بنداً، بحثاً عن ثغرات تعيد الأمل تحت وسم "الماتش يتعاود".
تلقّى الجمهور الجزائري كمّاً هائلاً من المعلومات غير الدقيقة والكاذبة من جهات إعلامية ومؤثرين في مواقع التواصل على حد سواء
يؤكد الصحافي الجزائري المتخصص في الاستقصاء والرد على الأخبار الزائفة، مولود صياد، أن عدداً كبيراً من المعلومات كان مصدرها ناشطين وفاعلين عبر مواقع التواصل أغلبهم غير متخصصين في الرياضة، في حين فضلت بعض وسائل الإعلام العربية والفرنسية ركوب الموجة بحثاً عن زيادة التفاعل مع صفحاتها عبر مواقع التواصل.
في الواقع، تلقّى الجمهور الجزائري كمّاً هائلاً من المعلومات غير الدقيقة والكاذبة من جهات إعلامية ومؤثرين في مواقع التواصل على حد سواء، يضيف مولود صياد.
دفع هذا الوضع في المقابل العديد من الصحافيين لتسخير مهاراتهم الإعلامية، لكشف الأخبار الكاذبة والرد عليها تنويراً للرأي العام ووضعه في الصورة الحقيقية.
في الحقيقة، يقع جزء كبير من اللوم، حسب صياد، على عاتق مكتب الاتصال التابع للاتحاد الجزائري لكرة القدم. يقول صياد، إن الاتحاد كان يخرج ببيانات وتصريحات مبهمة، تخلّف وراءها العديد من الأسئلة عوض الإجابة عنها، وكأن القصد من وراء ذلك الإبقاء على حالة الغموض ساريةً.
2- الغضب... "كاميرا التلفزيون واليد القصيرة للفار"
أدى النقاش المستفيض حول التحكيم بالفيديو، وطريقة عمل الـ"var"، الذي يحتاج إلى عدد كاميرات محدد ومعدات، في النهاية، إلى توجيه أصابع الاتهام إلى التلفزيون العمومي الجزائري، فهو المسؤول عن إخراج المباراة وإرسال المادة المصورة إلى غرفة الحكام.
وبعد أن تم تداول خرائط لتوزيع الكاميرات وشهادات مخرجين عرب، اضطر التلفزيون الجزائري إلى تخصيص حصة كاملة للرد على المزاعم والاتهامات التي طالته.
الغضب كذلك مسّ المسؤولين على رأس الاتحاد الجزائري لكرة القدم، وطالتهم اتهامات بسوء إدارة الملف والتخاذل إزاء مكيدة وكولسة دُبّرت من طرف جهات معادية أرادت إقصاء المنتخب.
نُسجت نظريات المؤامرة التي تصبّ في هذا الاتجاه، حتى أنها دفعت رئيس الاتحاد شرف الدين عمارة، إلى الاستقالة.
3- التفاوض مع الأمل... "الغاز مقابل المونديال"
لم تثنِ ردود لجنة العقوبات التي لم تلتفت إلى تظلّم الاتحاد الجزائري، ولا تصريحات رئيس لجنة الحكام في الفيفا الداعمة للحكم غاساما، ولا حتى تصريح رئيس الفيفا نفسه الذي عدّ هزيمة الجزائر جزءاً من اللعبة، من عزيمة المؤمنين بالجزائر في المونديال.
لمع وسط هذه الأجواء، اسم الناشط عارف مشاكرة، الذي تتابع بثه المباشر عشرات الآلاف من الباحثين عن بصيص أمل. يطمئن هذا الأخير متابعيه كل ليلة بأن الملف في أيادٍ أمينة وتأهل الجزائر إلى المونديال لا يعدو أن يكون مسألة وقت فقط.
ويزعم مشاكرة بأن الملف تقوده جهات نافذة تعمل في الخفاء، بل أسرّ إلى متابعيه على المباشر أن ملف المونديال مطروح في مفاوضات الجزائر مع شركائها الدوليين لتجديد عقود التموين بالغاز في عز الأزمة الأوكرانية وتداعياتها الوخيمة في مجال الطاقة.
نجح مشاكرة في حشد المئات من الجزائريين للتظاهر أمام مقر الفيفا في سويسرا، وبثت صور التظاهر قنوات عالمية ضمن مساعيه إلى تدويل القضية ولفت الانتباه إليها.
ما الذي دفع الجماهير الجزائرية إلى الانجرار وراء أنماط التفكير العاطفية، بما تتسم به من سطحية وسذاجة أحياناً!
4-الخيبة... إلقاء اللوم على بائعي الوهم
ردّت لجنة التحكيم لدى الفيفا على التظلم الذي رفعته الجزائر، وقالت في بيان مقتضب ما يُفهم منه أن المقابلة لم تحدث فيها أخطاء تحكيمية أثّرت على نتيجتها. تلقّى الكثير ممن استمروا في تأييد فرضية تأهل المنتخب صدمةً ثانيةً، تفطن إثرها قطاع واسع من الجماهير إلى مدى فداحة الأكاذيب ووقع اللوم على المؤثرين والإعلاميين الذين روّجوا لها، وانتشر وسم "بائعي الوهم"، وأصبح هؤلاء محل سخرية بعد أن كانت تحظى آراؤهم بقبول واسع.
بالعودة إلى المسح الذي قام به مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (csrgulf)، اعتماداً على تحليل البيانات، فقد تصدر الجزائريون قائمة أكثر المتفاعلين العرب مع منشورات منصات التواصل الاجتماعي في عام 2020.
ويرى مراقبون أن هذا المؤشر والتواجد المكثف للجزائريين الباحثين بيأس عن أخبار سعيدة حول المنتخب، أوقعا كثيرين منهم في مصيدة مواقع وقنوات مؤثرين هدفهم الأساسي كان رفع نسب المشاهدات والتفاعل مع قنواتهم.
5- التقبّل... المؤمنون بفرضية التأهل أصبحوا عرضةً للسخرية
مع اقتراب المونديال، أصبحت المادة التي يقدّمها المؤثرون أكثر عرضةً للسخرية، وقلّ أتباعها بشكل كبير، وبدا أن الجمهور تقبّل عموماً فكرة الإقصاء، مع ذلك استمرت محاولات المواقع والمؤثرين، ومن بينهم موقع رياضي مشهور طرح مؤخراً فرضية إقصاء الكاميرون وتعويضها بالجزائر بسبب خلاف قضائي مع شركة ملابس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع