إن أردنا تقليب صفحات تاريخ الرياضات السورية، بحثاً عن ألقاب أو إنجازات، وخاصةً في كرة القدم وكرة السلّة، فعلينا استغلال وقتنا في شيء مفيد أكثر؛ مثل متابعة كأس العالم في كرة القدم التي تجري حالياً في قطر، بدلاً من الغرق في أمور هامشية.
في عام 2017، بلغ منتخب سوريا لكرة القدم ملحق تصفيات كأس العالم 2018، قبل أن يخرج أمام أستراليا، وهذا كان أفضل ما وصل إليه "نسور قاسيون"، في هذه البطولة. بعد فسحة صغيرة من الفرح، تأكدت الجماهير السورية بأن ما حصل "طفرة" ذهبت ولن تعود في المدى المنظور.
في المقابل، نجت الرياضات الفردية بشكل ما من الغرق السوري المستمر حتى اليوم، وأبحرت بعيداً عن مسار الفشل قليلاً، ورسمت بسمةً على وجوه السوريين المتعبة.
فمن خلال مراجعة سجل الانتصارات الفردية التي حققتها سوريا رياضياً، كانت هناك انتصارات وميداليات عدة تستحق الإضاءة عليها. كيف لا وإلى اليوم ذاكرة السوريين حاضرة مع ذهبيتهم الأولمبية الوحيدة بتوقيع غادة شعاع؟ فلماذا كان التفوق الرياضي السوري فردياً؟
شعاع تروي
جعلت الحرب في سوريا سكانها ينسون الكثير من الأشياء العالقة في ذاكرتهم خلال السنوات الماضية، لكنهم لم ينسوا لحظة اعتلاء لاعبة ألعاب القوى، غادة شعاع، منصات التتويج وحصدها الميدالية الذهبية الأولمبية الوحيدة في تاريخ بلادهم.
في عام 2017، بلغ منتخب سوريا لكرة القدم ملحق تصفيات كأس العالم 2018، قبل أن يخرج أمام أستراليا، وهذا كان أفضل ما وصل إليه
شعاع دخلت عالم الرياضة عبر كرة السلة، ومارست ألعاب القوى في الوقت ذاته، قبل أن تتفرغ للأخيرة بشكل كامل. وفي أولى مشاركاتها المحلية نجحت في حصد بطولة الجمهورية عام 1991، قبل أن تنال فضية دورة ألعاب البحر المتوسط عام 1993.
وتعدّ شعاع الفوز ببطولة العالم في السويد العام 1995، بداية وصولها إلى العالمية، إلى أن جاء الإنجاز الأبرز حتى اليوم في تاريخ سوريا الرياضي، من خلال حصدها ذهبية دورة أتلانتا في الولايات المتحدة 1996، بعد تفوقها في المسابقة السباعية.
لكن، بعد سنوات قليلة ابتعدت شعاع عن الرياضة نهائياً إثر إصابات لحقت بها، لكنها عادت إليها اليوم من خلال تعيينها مستشارةً رياضيةً للّجنة الأولمبية السورية، وتقول شعاع لرصيف22: "منذ ولادة الرياضة في سوريا، كنا وما زلنا نشاهد التفوق في الألعاب الفردية، وفي الوقت نفسه رياضيو هذه الألعاب مظلومون وهذا ليس كلامي فقط، وإنما كلام كثيرين".
ما ترويه شعاع ليس حديث أناس بعيدين عن هذا الجو، بل كلام شخص لامس هذا الواقع، "أنا عشت ذلك شخصياً كبطلة"، متمنيةً عدم ظلم الألعاب الفردية خلال المرحلة القادمة، وإعطاء رياضييها حقهم كونهم يتفوقون في مجالهم.
"بلد اللاعب الواحد"
بقفزه لارتفاع 2.31م ونيله ذهبية آسيا 2019، فرض لاعب ألعاب القوى مجد الدين غزال، اسمه لدى الجماهير السورية، التي باتت تتابع أخباره كل حين أملاً بميدالية أو رقم قياسي جديد. اللاعب الذي يُلقَّب بـ"غزال سوريا"، جرّب رياضات عدة، قبل أن يستقر على ألعاب القوى وينضم إلى نادي الجيش السوري، حيث كانت بداياته وتدرج في مختلف فئاته العمرية.
عام 2006، وصل إلى المنتخب السوري لألعاب القوى بمشاركته في دورة الألعاب العربية المدرسية في الجزائر، إذ حقق فضية البطولة.
ولم يتأخر نجم غزال في اللمعان، بل بدأ بحصد الميداليات، وفرض نفسه ضمن قائمة أصحاب الألقاب الفردية، ومن أبرز إنجازاته برونزية بطولة العالم في لندن العام 2017، التي يعدّها "أغلى ميدالية" حصل عليها. سبقتها ميداليات عدة منها فضية دورة الألعاب الآسيوية في فيتنام عام 2009، وفضية البطولة العربية للرجال في دمشق وذهبية الأولمبياد العسكري العالمي.
منذ ولادة الرياضة في سوريا، كنا وما زلنا نشاهد التفوق في الألعاب الفردية، وفي الوقت نفسه رياضيو هذه الألعاب مظلومون وهذا ليس كلامي فقط، وإنما كلام كثيرين
وفي 2019، حقق غزال ذهبية الوثب العالي في بطولة آسيا لألعاب القوى، بقفزه لارتفاع 2.31م، ما شكّل أفضل رقم عالمي وآسيوي للعام المذكور، كما نجح في التأهل إلى أولمبياد طوكيو 2020.
يروي غزال لرصيف22، أن انتصاراته ساعدت في اختياره ضمن أفضل 12 لاعباً على مستوى العالم للانضمام إلى لجنة الرياضيين في الاتحاد الدولي لألعاب القوى. يقول: "الهدف والطموح هما من يحركان لاعب الرياضات الفردية ليحقق الإنجاز، خاصةً أن هذه الرياضات لا تحظى باهتمام كبير في سوريا".
يتحدث الفائز بذهبية الوثب العالي في ملتقى برشلونة 2016، عن أن الأموال في بلده تُصرف على الرياضات الجماعية وخاصةً كرة القدم والسلة من دون تحقيق أي شيء، ويضيف: "سوريا غير قادرة على المنافسة في كأس العالم، أياً كانت الرياضة، والشيء الذي لا يريد أحد الاقتناع به، أنه مهما حققنا من إنجازات في كرة القدم وكرة السلة فإن مستوانا معروف ومحدود".
بانفعال يتحدث غزال: "نحن بلد اللاعب الواحد "’ما بيطلع غيره’. غادة شعاع واحدة ولن تأتي مرةً أخرى وكفى التحدث عن أن هذه اللاعبة أو غيرها خليفة غادة شعاع، أو هذا اللاعب خليفة مجد غزال، فهذا لن يحدث في هذا البلد"، في معرض حديثه عن قلّة الاهتمام بالرياضات الفردية اليوم وحتى سابقاً.
وهل يمكن للرياضة الفردية السورية الاستمرار في تحقيق الميداليات؟ يقول: "نعم، ولكن لا يوجد شيء اسمه صناعة بطل، فنحن بلد خامات فقط. ننتظر الخامة حتى تأتي لنستثمرها لا أن نستثمر فيها، من دون وجود إمكانية أن يعوض لاعب لاعباً آخر عندما يعتزل".
الحاصل على برونزية الوثب العالي في الدوري الماسي لألعاب القوى في فرنسا، يبيّن أن الألعاب الفردية لا تعتمد على كادر أو مدربين كثر، فكلما كبر حجم العمل يصعب التوفيق بين الأشخاص. ويختم بالقول: "بلادنا ولّادة في الرياضات الفردية فقط، أما غير ذلك من الرياضات، فنحن غير قادرين على فعل شيء".
"المحسوبيات تغلب"
ثقافة المجتمع الرياضي هي الألعاب الفردية، والدليل على ذلك أن كل التتويجات السورية فردية
رياضيو الألعاب الفردية من ذوي/ ات الإعاقة كان لهم نصيب أيضاً في الفوز ببعض الميداليات والإنجازات التي سُجّلت في تاريخ الرياضة السورية، ومنهم لاعبة رفع الأثقال فاطمة الحسن التي شاركت في الألعاب البارالمبية في طوكيو 2021.
الحسن التي تعاني من إعاقة في الأطراف السفلية، بدأت بممارسة الرياضة عام 2000، من خلال انتسابها إلى نادي الأمل الرياضي للمعوّقين، وبعد سنة شاركت في بطولة الجمهورية وحصدت المركز الثاني.
ومن المستوى المحلي، انطلقت الحسن تدريجياً إلى البطولات الآسيوية، فنالت المركز الثاني في بطولة آسيا 2009، وبعد عام حلت في الترتيب ذاته في الدورة الآسيوية في الصين، ولم تتأخر في فرض نفسها في عالم رفع الأثقال بخطفها ثلاث ذهبيات في غرب آسيا، وخلال الأعوام 2015، 2016، 2017، 2018 حصدت المركز الثاني في بطولة كأس العالم "فزاع" الدولية في الإمارات، إلى أن وصلت في رفع الأثقال إلى دورة الألعاب البارالمبية في طوكيو، بعد تحقيقها المركز الثامن في كأس العالم في كازاخستان، والميدالية الفضية في بطولة آسيا 2018، وفضية الدورة الآسيوية في إندونيسيا.
وتعزو الحسن في حديثها إلى رصيف22، نجاحاتها إلى جهودها الشخصية في الدرجة الأولى كون الألعاب الفردية لا تنال نصيباً جيداً من الدعم سواء من اتحاد الرياضات الخاصة السوري أو الاتحاد الرياضي العام (أعلى سلطة رياضية في سوريا)، وتقول: "تنجح الرياضات الفردية بجهود شخصية من اللاعب والمدرب. واللاعب قادر على أن يصرف على نفسه إذا كان هناك تقصير من الاتحاد أو المنظمة المعنية، على عكس الرياضات الجماعية".
وتضيف: "الرياضات الجماعية فيها دعم كبير وبالرغم من ذلك لا تنجح، بسبب المحسوبيات التي تغلب في كل شيء. وعند الخسارة كل شخص يُلقي اللوم على الآخر، و’هيك ضايعة الطاسة’ ولا أحد يعرف سبب الخسارة"، و"اللاعب يريد تحقيق إنجازات، فهي ربحه الوحيد لرفع اسمه وفرض نفسه"، وفق الحسن، التي تصف الألعاب الفردية بأنها "مظلومة ولا تحظى بتشجيع كبير سواء من الجمهور أو المسؤولين".
"أكلت البيضة والتقشيرة"
يُدافع رئيس اتحاد ألعاب القوى فياض بكور، عن الألعاب الفردية، لأنها "الرياضة الوحيدة القادرة على تحقيق إنجازات"، ويقول لرصيف22: "ثقافة المجتمع الرياضي هي الألعاب الفردية، والدليل على ذلك أن كل التتويجات السورية فردية ابتداءً من غادة شعاع إلى برونزية الرباع معن أسعد في أولمبياد طوكيو".
لا يوجد شيء اسمه صناعة بطل، فنحن بلد خامات فقط. ننتظر الخامة حتى تأتي لنستثمرها لا أن نستثمر فيها، من دون وجود إمكانية أن يعوض لاعب لاعباً آخر عندما يعتزل
ويضيف: "لدينا خامات في حاجة إلى دعم وعناية حتى ولو بجزء يسير مثل كرة القدم، وعندها سنشاهد منتخبات كاملةً من الألعاب الفردية تتوَّج عالمياً"، مؤكداً في الوقت نفسه على أن "الإنجاز الفردي يعود إلى التزام اللاعب وشغفه، بالإضافة إلى دعم عائلته، وأبطال العالم صنعوا من لا شيء إنجازات".
ولم يتوقف الأمر هنا بحسب بكور، بل إن "حق الألعاب الفردية مهضوم قليلاً حتى من الناحية الإعلامية، مقابل الرياضات الجماعية التي أكلت البيضة والتقشيرة (كل شيء) من دون إنجازات. انظر أين سوريا في الألعاب الجماعية".
كذلك، يتفق الصحافي الرياضي السوري فايز وهبة، مع بكور، "خاصةً أن الشغف لدى رياضيي الألعاب الفردية لتحقيق الإنجاز هو من يدفعهم للعمل على تحقيق ميدالية بالرغم من قلة الدعم"، ويقول لرصيف22: "في حال الاهتمام باللاعب سيعطي ويحقق الإنجازات، لكن الواقع أن رياضيي الألعاب الفردية حقهم منقوص".
في الوقت الذي تُكتب فيه هذه المادة، سجل المنتخب السوري لكرة القدم الخسارة الرابعة على التوالي في مبارياته، بينما نالت لاعبة كرة الطاولة هند ظاظا، ميداليتين في بطولة دولية، فإلى متى اختصار الألعاب في سوريا بالفردية فقط؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين