شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الرياضة في سوريا منذ 2011... فرق

الرياضة في سوريا منذ 2011... فرق "مهجّرة" ومشجعون "نازحون"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 21 مايو 202203:23 م

خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، كانت تمرّ قافلة حافلات الـ"سكانيا" التي ترفع رايات زرقاء وهي تشق طريقها من مدخل الحسكة الجنوبي نحو وسطها، حيث ملعب كرة القدم الذي اختاره نادي "الفتوة"، القادم من "دير الزور" إلى الحسكة كونها "أرضاً بديلةً"، ليلعب مبارياته بسبب أعمال صيانة في ملاعب دير الزور أو ما شابهها، فأي مشروع في سوريا يحتاج إلى مدة زمنية يمكن خلالها تنفيذ مدن في دول أخرى، وهذه كانت أولى حالات "النزوح الرياضي"، التي أذكرها وربما لم يكن ثمة سواها قبل العام 2011، الذي كان نقطة تغيّر لكل شيء في هذه البلاد.

خارج الخريطة

بالرغم من أني أحبُّ كرة القدم كحال معظم الناس، ويهمني كصحافي ربما أن أعرف أخبار الأندية التي تمثّل المنطقة الشرقية، إلا أنني لم أحضر مباريات في الملعب لهذه الأندية إلا في مرّات نادرة، وقد غلب على آخر اثنتين منها الرغبة في لقاء أشخاص لم ألتقِ بهم منذ بداية الحرب، ولهذا اتجهت قبل عامين إلى ملعب في دمشق لأحضر مباراةً لنادي "الجزيرة"، الذي يُجبر على لعب كامل مبارياته خارج مدينته لأسباب أمنية، فأغلب المدينة تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية"، ونتيجةً لعدم وجود توافقات على المسألة الرياضية، وانعدام الأمان على الطرقات الواصلة إلى الحسكة بالنسبة إلى الأندية التي تمثل مدناً أخرى، فـ"الجزيرة"، كغيره من أندية محافظة الحسكة، مضطرٌ إلى لعب كامل مبارياته على "أرض بديلة"، هي دمشق أو حلب، وذلك بالرغم من تصنيفه من الأندية الفقيرة في البلاد.

مع أن الفقر يُعدّ سمةً عامةً لمحافظة الحسكة، فإن عدداً يتراوح بين 500 و1،000 شخص يرافقون النادي في مبارياته المهمة، ضاربين بعرض الحائط مخاطر الطريق التي يُحكى عنها

ومع أن الفقر يُعدّ سمةً عامةً لمحافظة الحسكة، فإن عدداً يتراوح بين 500 و1،000 شخص يرافقون النادي في مبارياته المهمة، ضاربين بعرض الحائط مخاطر الطريق التي يُحكى عنها، ومتناسين طول المسافة والزمن الذي تحتاج إليه الحافلات كي تصل من أقصى شمال شرق البلاد إلى عاصمتها، وهذا ما يدفع إلى السؤال عن أسباب استمرار "الجزيرة"، وسواه من الأندية بما فيها النسوية، في النزوح نحو ملاعب بديلة.

يقول أحد المسؤولين في اللجنة التنفيذية للاتحاد الرياضي العام في محافظة الحسكة، لرصيف22، إن "المسألة بالنسبة إلى نادي الفتوة مختلفة ومتشابهة في آن معاً، فمدينة "دير الزور"، تحت سيطرة الحكومة في دمشق، وعلى الرغم من أن عملية فك الحصار عنها وتأمينها انتهت منذ العام 2017، إلا أن إعادة إعمار المدينة بطيئة، ومن بين المشاريع المتعثرة إعادة ترميم "الملعب البلدي"، الذي أُعلن أكثر من مرة عن بدء ترميمه في مهلة زمنية لا تزيد عن تسعين يوماً للتنفيذ، وفي كل مرة تنتهي الأيام التسعون والملعب على حاله، لكن الأمر لن يغيّر شيئاً إن تمّ، فالنادي سيظل مجبراً على النزوح لكون الطرق الواصلة إلى دير الزور غير آمنة نتيجة تعرّضها لهجمات من قبل خلايا تابعة لتنظيم داعش التي تنتشر في البادية السورية".

الجماهير والطريق

خلال مرحلة الإياب في الموسم الحالي من دوري كرة القدم الممتاز في سوريا، توجهت إلى حضور مباراة لنادي "الفتوة"، في ملعب في وسط العاصمة. كان ثمة ما يزيد عن 1،500 شخص يشجعون نادي الفتوة بحماسة مطلقة، والاقتراب من بعضهم قبل بدء المباراة كان بحثاً عن إجابة عن سؤال فضولي: "كيف حال الطريق؟"، لأكتشف أن ثمانيةً من عشرة سألتهم يقيمون في دمشق حالياً، ولا يبدو أن لديهم رغبةً في العودة إلى دير الزور السيئة الخدمات حالياً، والتي تعاني ما تعانيه من نقص الأساسيات ووجود ركام المباني المهدمة، ما يزيد من حزن المشهد.

يقول أبو مصعب، وهو ممن كانوا في الملعب يُشجع ناديه، لرصيف22، إن "دير الزور تحررت من داعش لكنها لم تعد المدينة التي وُلدت فيها، فجسرها المعلق ما زال مهدماً، وغالبية الأحياء عبارة عن ركام، ولا يجب أن يعود الفتوة للّعب فيها الآن، فالمدينة لا تليق باستقبال الضيوف حالياً، وهي أشبه بالمنزل الذي ما زال يحتاج إلى الكثير من الترميم والأثاث ليكون صالحاً للسكن".

هناك شارع أو أكثر يُعرف باسم "حارة الديرية"، في أحياء عدة من العاصمة السورية، كما أن نزوح عدد كبير من سكان المحافظة نحو دمشق، جعل من اختيار ملاعب العاصمة كـ"أرض بديلة"، خياراً منطقياً لإدارة "نادي الفتوة"، بالرغم من أن مدينة حمص أقرب

نادي "عفرين"، الذي يمثل المدينة ذات الغالبية الكردية -أو التي كانت كذلك- وتحتلّها القوات التركية شمال محافظة حلب، يشارك أندية الشرقية حالة النزوح، لكنه نزوح بسيط، فبعد أن سيطرت القوات التركية على المدينة في آذار/ مارس من العام 2018، اتجه النادي نحو اللعب داخل مدينة حلب، حيث يتواجد تكتل كردي في حيي "الشيخ مقصود-الأشرفية"، والحقيقة أن تشجيع الأندية في سوريا، كما في كل دول العالم ربما، يقوم على مناطقية أو عرقية تعكس نوعاً من الإحساس بالانتماء، لذا فإن الكرد، أينما حلّ نادي "عفرين"، سيشجعونه لكونه أول نادٍ يمكن القول إنه يمثلهم ويصل إلى الدرجة الممتازة بعد الانتكاسات التي مُني بها نادي الجهاد، من مدينة القامشلي، والذي كان يُعرف بلقب "بعبع الشمال".

أين اختفت؟

في العام 2007، وخلال جلسة مع أصدقاء المعسكرات التي كانت تقيمها منظمة "شبيبة الثورة"، اكتشفت أن لمدينة "درعا" نادياً يمثلها اسمه "الشعلة"، ولمدينة الرقة نادٍ اسمه "الشباب"، وهذه الأندية لفقر حالها أو لقلة المواهب أو لكونها "أنديةً غير مدعومة"، لم تصل إلى "الدرجة الأولى"، ويُرجع بعض السكان المحليين في مدينة الرقة انخفاض القاعدة الجماهيرية لنادي الشباب إلى كون طبيعة السكان في المنطقة وانشغالهم بالأعمال الزراعية هو السبب الرئيس، لكن غياب النادي عن المنافسة والحضور الرياضي يعود إلى كونه من النوادي التي تقف خارج خريطة الدعم من الاتحاد الرياضي الذي يمثل الإدارة الرياضية المركزية في سوريا.

يقول "أبو معاذ" الذي يُشجّع الفتوة: "أسافر لأحضر المباراة ثم أزور بعضاً من أقاربي الذين ما زالوا نازحين في دمشق، وبعدها أعود، لتأخذ كل مباراة مني ما يقارب 36 ساعةً بين الطرقات والملاعب والزيارات الاجتماعية التي ترافقها"

ولم يعد النادي إلى الخريطة لكون الجزء الأكبر من مدينة الرقة ما يزال خارج سيطرة الحكومة السورية، وبالرغم من أن المؤسسات الحكومية الخاصة بمحافظة الرقة اتخذت من مدينة حماه مقراً بديلاً مؤقتاً لها قبل أن تعود تدريجياً إلى مناطق الريف الجنوبي حالياً، إلا أن "فرع الاتحاد الرياضي"، بقي مشكلاً على الورق من دون أي نشاط حقيقي.

نادي أميّة اختفى من المنافسات الكروية منذ العام 2011، بعد انسحابه من الدوري في خبر تضاربت الأنباء حينها حول تفسيره، فمع عدّ المعارضة آنذاك أن النادي انسحب تضامناً مع الثورة"، فإن التصريحات الرسمية التي صدرت عن إدارة النادي آنذاك قالت إن الاعتذار جاء بسبب صعوبة تجميع اللاعبين الذين يقطنون في مناطق الريف، وذلك بسبب انقطاع الطرق، وعموماً فقد تغيّر وجه إدلب بشكل جذري بعد دخول تنظيم "جبهة النصرة" إليها.

أحلام العودة

هناك شارع أو أكثر يُعرف باسم "حارة الديرية"، في أحياء عدة من العاصمة السورية، كما أن نزوح عدد كبير من سكان المحافظة نحو دمشق، جعل من اختيار ملاعب العاصمة كـ"أرض بديلة"، خياراً منطقياً لإدارة "نادي الفتوة"، بالرغم من أن مدينة حمص أقرب، ويحرص عدد كبير من "الديريين"، على حضور مباريات "الأزرق"، وتشجيعه، حتى أن رجلاً مثل أبي قاسم، يذهب بعيداً في التشجيع ليقول: "أشجع الفتوة، وأي نادٍ من دير الزور أو الحسكة سيلعب مباراةً في دمشق سأكون حاضراً لتشجيعه، فالمسألة أبعد من كرة قدم، وهي الوقوف إلى جانب أبناء المنطقة الشرقية".

من الحسكة تغادر أندية مثل "الجزيرة وعامودا والخابور"، لتلعب خارج ملاعبها. في المباريات الحاسمة يكون ثمة جمهور يؤمَّن له النقل من الحسكة إلى حيث المباراة

يضحك الرجل الستيني حين يسمع جملة "أليست هذه صورة للتعصب المناطقي"، ويقول لرصيف22: "يعرف أبناء المنطقة الشرقية بتسمية الشوايا من قبل سكان بقية المحافظات، وهي تسمية متعددة الأسباب، مذكور بعضها في كتب التاريخ، والبعض الآخر نتيجة للعادات، وهناك من سكان المنطقة الشرقية مكونات أخرى، مثل الكرد والآشوريين والكلدان وغيرهم، ونعم، أنا شخصياً أشجع كل الشوايا وكل الكرد وكل من يقول أنا من المنطقة الشرقية".

من جهته، يقول أبو مصطفى، الكردي الدمشقي الذي يتحدر من حي "ركن الدين"، لرصيف22: "أشجع الوحدة الدمشقي، ولم أفكر يوماً في أنه يجب أن أشجع الأندية التي تأتي من القامشلي أو عفرين أو عامودا لكونها أنديةً محسوبةً على أنها أندية كردية، ولم أجد يوماً مبرراً للتفكير في إلزامية تشجيع هذه الأندية، لكني لا أنكر أني أتعاطف معها في المباريات التي لا تكون أمام الوحدة، وربما السبب هو الرغبة في خسارة منافسي الوحدة الأقوياء أكثر مما هو رغبة في دعم فريق نتيجة انتماء لاعبيه العرقي".

غسان اليوسف، سائق سيارة أجرة يتحدر من محافظة إدلب التي لم يعد لها نادٍ كي يُشجعه، لكن حبه لكرة القدم دفعه إلى تشجيع نادي الاتحاد الحلبي، الذي بات يُعرف باسم "أهلي حلب"، بعد الموافقة على قرار عودته إلى اسمه القريب، ويبرر ذلك في حديثه إلى رصيف22، قائلاً: "أشجع الاتحاد لأنه الأقرب إلى محافظتي. الأدالبة والحلبية أبناء عمومة لأنهم جيران، وإن عاد نادي أميّة للظهور سأشجعه بقوة، فهو نادي مدينتي التي لن أراها قريباً، وربما الهتاف لأمية سيعيد إلي أيام الطفولة على أرصفة إدلب ولعب الكرة في حواريها".

ننزح خلفهم

بالرغم من خطورة الطريق التي يتم الحديث عنها، وتُعدّ مبرراً لمنع نادي الفتوة من اللعب على أرضه، هناك من يسافر كل أسبوع تقريباً من مدينة "دير الزور"، ليحضر مباريات ناديه في العاصمة أو سواها من المحافظات، ويقول "أبو معاذ" الذي يقترب من إتمام السنة الخمسين من عمره: "قبل الحرب كنت أسافر مع جمهور الفتوة بحافلات تنقلنا بشكل جماعي، وحين بدأت الحرب وأُجبرنا على النزوح من حي إلى آخر ومن ثم مغادرة المدينة قبل إطباق الحصار عليها، سكنت في دمشق. كنت أصبّرُ نفسي بأن كثيرين نزحوا، والنادي يلعب في العاصمة، وبعد عودتنا وبالرغم من ارتفاع أجور النقل وصعوبة تأمين حجز في ظل قلة الرحلات التي تغادر دير الزور بسبب قلة الوقود، أتمكن من حجز مقعد لي، وأسافر لأحضر المباراة ثم أزور بعضاً من أقاربي الذين ما زالوا نازحين في دمشق، وبعدها أعود، لتأخذ كل مباراة مني ما يقارب 36 ساعةً بين الطرقات والملاعب والزيارات الاجتماعية التي ترافقها".

يوضح المشجع القديم للنادي الملقب بـ"الآزوري"، أن نحو 100 إلى 150 شخصاً من مشجعي نادي الفتوة يواظبون حالياً على السفر خلفه أينما حلّ، ويتقاسمون ما يُخصص لهم من مقاعد الملعب مع مشجعين يتحدرون من دير الزور ويقيمون حالياً في مدن سورية أخرى مثل دمشق وحمص واللاذقية، فالحضور في الملعب واجبٌ لكونه "فرض عين"، على كل من يحب دير الزور.

نادي أميّة اختفى من المنافسات الكروية منذ العام 2011، بعد انسحابه من الدوري في خبر تضاربت الأنباء حينها حول تفسيره

من الحسكة تغادر أندية مثل "الجزيرة وعامودا والخابور"، لتلعب خارج ملاعبها. في المباريات الحاسمة يكون ثمة جمهور يؤمَّن له النقل من الحسكة إلى حيث المباراة، وخلال موسم 2020، كان الجزيرة على موعد مع مباراة فاصلة مع نادي الحرية في مدينة دمشق بعد مشكلات قانونية بينهما، وما كان من إدارة النادي إلا أن أمّنت حافلات لتنقل من يرغب ومن بينهم الفرقة النحاسية التابعة للفوج الكشفي الرابع لتشارك في رفع المعنويات. كان الأمر أشبه بمغامرة أكثر منه رغبة في تشجيع النادي بالنسبة إلى من ركبوا الحافلات خاصةً أن من بينهم من كان يزور دمشق للمرة الأولى، فالحرب جعلت الخروج من المحافظة أشبه بالحلم أحياناً.

الجمهور المرافق لهذه الأندية عادةً ما يكون قليلاً، ويبرر أبو محمد ذلك بأن المرور على الحواجز التابعة لـ"قسد"، قد يكون مغامرةً للبعض من السكان، وعلى الرغم من ذلك أجد نحو 100 شخص يصرّون على حضور المباريات بشكل مستمر، في حين أن غالبية الحاضرين إلى جانب النادي يكونون من سكان المدن التي تلعب فيها المباريات وخاصةً طلاب الجامعة، واختيار حلب خلال الموسم الحالي للّعب على ورقة الصعود إلى دوري الدرجة الممتازة، كان نتيجة الضغوط المالية التي يعاني منها النادي، والتي كادت أن تكون سبباً في احتمال اعتذراه عن إتمام الدوري في الموسم الماضي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image