في مشهد سريالي، ظهرت فتاة مصرية في مقطع فيديو محمولةً على كتفي والدها (كما اتضح تالياً) وهي تُلوِّح بمنديل أبيض احتفالاً، ومن حولها الأهالي والأطفال يرددون: "الشريفة العفيفة وصلت يا بلد… بنت البنوت وصلت يا بلد".
تبيّن أن الفتاة هي "م. غ." ابنة الـ16 ربيعاً، التي زوجت يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، قبل أن يُطلقها عريسها صبيحة اليوم التالي متهماً إياها بأنها "مش عذراء".
الاتهام، الذي تسبب في إنهاء حياة فتيات ونساء مصريات في مواقف مماثلة سابقاً، دفع والد الطفلة العروس إلى إخضاعها في أحد المستشفيات الحكومية إلى ما يُعرف "كشف العذرية" - تلك الممارسة غير العلمية التي تعتبرها جماعات حقوق الإنسان أحد أشكال انتهاك الكرامة وممارسات العنف الجنسي، وتتعارض في الوقت نفسه مع أخلاقيات مهنة الطب.
ما حدث تالياً ليس القسم الأغرب من القصة. جلس والد الطفلة العروس في "قعدة عرفية" مع أهل الطليق بقرية المسلمية التابعة لدائرة صان الحجر القبلية بمحافظة الشرقية، مسرح الواقعة، من أجل "التصالح" بعد ثبوت "براءة" ابنته و"سلامة شرفها".
ويرد في التقرير الطبي المتداول لـ"كشف العذرية": "بعد توقيع الكشف الطبي على المذكورة، وبناء على طلب ولي أمرها تبين أنها عذراء وأن غشاء البكارة سليم". يتحفظ رصيف22 على نشر الصورة لظهور بيانات الطفلة الضحية فيها.
عادةً، كان لواقعة مثل هذه أن يُسدل الستار عليها بـ"المصالحة العرفية" وعودة الطفلة العروس إلى "عصمة الزوج" مرة أخرى. لكن الضجّة التي أثارها تداول المقطع الذي تظهر فيه "زفّة البراءة" للطفلة العروس تسببت في توقيف السلطات الأمنية لوالد الطفلة وطليقها بعدما أكدا صحة الواقعة و"أقرا بالصلح في ما بينهما، فتم اتخاذ الإجراءات القانونية"، وذلك وفق ما نقلته وسائل إعلام محلية عن مصادر في وزارة الداخلية المصرية دون توضيح ما هي "الإجراءات الأمنية" التي جرى اتخاذها.
"قصة مرعبة وحزينة جداً وتوضح المجتمع وصل لحد فين"... تواطؤ شعبي ومؤسسي يُنهي قضية طفلة الشرقية العروس بعد "زّفة الشريفة العفيفة" ويحمي الأب والزوج من عواقب جرائم تزويج قاصر والاتجار بالبشر وهتك العرض والتشهير بحق الضحية
رواية جديدة تناقض الوقائع والاعترافات
وكان حساب "Speak up"، المعني بالقضايا الاجتماعية في تويتر، أول من أعلن خبر توقيف والد الطفلة العروس إذ غرّد: "بعد ما نزلنا البوست عن طفلة الشرقية بأقل من ساعة تواصل معنا مكتب حماية الطفل بمكتب النائب العام ووعد باتخاذ الإجراءات القانونية، واليوم تم القبض على والد الطفلة، وجاري ضبط الزوج". وأردف: "شكراً للنيابة العامة، وبنتمنى للطفلة حياة أهدى تقدر تتعافى فيها من كل الأذى اللي حصلها".
لم تستمر الأنباء الإيجابية طويلاً إذ أوضحت النيابة العامة المصرية في بيان، مساء الاثنين 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، أن تحقيقاتها "لم تنسب أي جريمة في حق الزوج أو ذوي الزوجين".
وفق البيان، كانت هناك رواية جديدة تناقض كل الوقائع المثبتة بالصوت والصورة واعتراف أبي الطفلة العروس وحتى الزوج/ الطليق في محاضر شرطية، والغرض منها إفلات الأب والزوج من جريمة تزويج قاصر وهتك العرض.
أقر البيان أن الفتاة ووالدها وعمها، وكذلك الزوج، أقروا جميعاً في محضر الشرطة بأن الفتاة تزوجت قبل نحو أسبوع وطردها الزوج صبيحة اليوم التالي "بدعوى عدم عذريتها".
واقعة "عروس الشرقية الطفلة" دليل على أنه "لسه النساء في بلدنا بيتعرضوا لجرائم إنسانية بتقول إننا مجتمع بلا ضمير وبلا أخلاق وبلا عقل… بلد بائس لأبعد درجة" #مصر
عقب الضجة التي أثارها المقطع، وتحويل القضية إلى النيابة العامة التي أعادت استجواب أطراف الواقعة، ظهرت رواية جديدة "اختلفت كليةً عمَّا تقرر بمحضر الشرطة"، على لسان الطفلة العروس ووالدها اللذين قالا إنه "عقب عقد قرانها عرفيّاً بموافقتها وموافقة والدها وتحرير الأخير عقداً بذلك، انتقلت مع زوجها لمسكنهما، ونشبت هناك خلافاتٌ زوجيَّةٌ عاديَّةٌ بينهما أدَّتْ لانفصالهما وتمزيقِ عقد القران، ثم تدخل الأهالي للتراضي عرفيّاً في ما بينهما وإنهاء الزيجة".
وتابع البيان: "وقد أكدت الفتاة ووالدها في التحقيقات أنَّ زوجَ الأخيرةِ لم يدخل بها ولم يلمسها، وأنها لم تتعرض من ذلك لأي خطر، ونفيا ما قرَّره الزوج بمحضر الشرطة من تبينه موضعيّاً عدم عذريتها، ولم يتهما أحداً بأي اتهام". كما "أكَّد الزوج أن يدَهُ لم تَطُل الفتاة، ولم يكشف حتى عن جسدها، منكرًا ما قرَّره في محضر الشرطة".
الأمر الذي يُثير مزيداً من الشكوك في بيان النيابة العامة هو الإشارة إلى أن "الفتاة ووالدها برّرا توقيع الكشف الطبي عليها بدعوى شعورها بآلام في عضوها التناسلي لا علاقة لها بالزواج، كما برّرا أن احتفال الأهالي بها كان قد حدث دون أسباب واضحة يعلمانها، وأن الأمر لا يتعدى لدى الأهالي سوى سوء تفاهم لاعتقادهم بعدم عذريتها".
ترتب على هذه الرواية غير المتماسكة أن قررت النيابة "الواقعة على هذا النحو، ووفق الثابت في التحقيقات حتى تاريخه، لا تُشكلُ في حُكم القانون جريمةً مُعاقباً عليها يمكن إسنادُها لزوج الفتاة أو والدي الزوجيْنِ؛ إذ لم يثبت بها مواقعةُ الزوجِ الفتاةَ، أو حتى هتكه عِرضَها باستطالته جسدها باعتبارها طفلةً، كما لم تثبتْ في حقِّ والدِها جريمةُ الاتّجارِ بالبشَرِ واستغلال الأطفال جنسيّاً، وأنَّ ما قرَّره الزوجُ استدلالاً بمحضرِ الشرطَةِ من تأكّدِه موضعيّاً بيديْهِ من عدم عذريةِ الفتاة لم يلقَ دليلاً أو حتى قرينةً تؤكّده في التحقيقات، إذ نفى الزوج تلك الأقوال، ونفتها كذلك الفتاة ووالدها".
"قصة حزينة ومرعبة جداً"
وكان الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي قد أعربوا عن غضبهم إزاء واقعة تُعد في رأيهم "إحدى عاهات التخلف الغائرة بعمق في بنيان الثقافة الشعبية المصرية".
من هؤلاء الباحث الحقوقي نور خليل الذي اعتبر أن تلك "قصة مرعبة وحزينة جداً وتوضح المجتمع وصل لحد فين"، معرباً عن دهشته من التواطؤ المجتمعي من الجميع ضد الفتاة بمن فيهم والدها.
وقال: "طفلة صغيرة المجتمع فهمها أنه عادي تتزوج في السن ده. أبوها قرر عنها أنها تكون مع شخص آخر قرر يتزوج طفلة قاصرة، ومجتمع كامل حضر وشاهد وبارك ورقص في الفرح وشيخ كتب ورقة. وعشان البنت صغيرة أو ممكن يكون غشاء المهبل مطاط أو يمكن يكون الشخص اللي بالعقلية دي ميعرفش يعني إيه جنس أصلاً، مشافش دم فقرر يطلقها ويمشي وسط المجتمع يقول إنها مش "شريفة" والمجتمع قرر يسمع القصة وتبقى حديث الساعة".
المشكلة الرئيسية في #مصر هي "عدم وجود آلية واضحة وصريحة للحد من #زواج_القاصرات عبر رصد هذه الحالات والقيام بالتدخلات وتحرير البلاغات". كما أن المجلس القومي للأمومة والطفولة قلما يتدخل لوقف مثل هذه الحوادث المتكررة
وزاد: "فالأب اللي بيتعامل على أن بنته ملكية وأن شرفه عندها قرر ياخدها لطبيب غير مهني وافق أنه يشارك في الجريمة المؤذية جسدياً ونفسياً دي ويوقعوا كشف طبي مجرم وكمان ملوش أي صلاحية ولا يؤكد حدوث إيلاج من عدمه، أياً كانت الطريقة المتبعة فيه. وبعد الجريمة قرروا ياخدوا الطفلة ويزفوها في الشارع عشان يثبتوا للمجتمع اللي شاهد على الجرايم دي أن فيه جريمة جديدة حصلت".
وكتب أحمد حسني أن ما تعرضت له الطفلة "موقف مؤذي نفسياً لأبعد درجة. لسه النساء في بلدنا بيتعرضوا لجرائم إنسانية بتقول إننا مجتمع بلا ضمير وبلا أخلاق وبلا عقل… إحنا غرقانين في الوحل. مجتمع مجرم وعاداته وسخة ومعفنة. بلد بائس لأبعد درجة".
زواج الطفلات إلى متى؟
من جهتها، تقول المحامية انتصار السعيد، رئيسة "مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون"، لرصيف22، إن طفلة الشرقية تعرضت لانتهاكات عديدة على مدار قصتها تبدأ من حرمانها من التعليم لأجل الزواج قبل بلوغها السن القانونية، وتعريضها لكل هذا الضغط النفسي والوصم الاجتماعي، وإخضاعها لكشف العذرية غير المهني الذي قد يتسبب في تعريض حياة الفتيات للخطر لأنه علمياً غير معترف به كدليل موثوق به على حدوث ممارسة جنسية من عدمه، وانتهاءً بالتشهير بالفتاة دون وعي منها في ما عُرف بـ"زفة الشريفة العفيفة".
أما المحامية والناشطة النسوية نسمة الخطيب، مؤسسة مبادرة سند لتقديم الدعم القانوني للناجيات، فتوضح لرصيف22 أن "هناك عدة جرائم يعاقب عليها القانون تنطوي عليها هذه الواقعة، أهمها: تزويج قاصر ويُسأل عنها الأب والزوج. وجريمة هتك العرض من قبل الأطباء الذين أجروا ‘فحص العذرية‘ والتحريض عليه وهو ما قام به الأب".
"طفلة صغيرة المجتمع فهمها أنه عادي تتزوج في السن ده. أبوها قرر عنها أنها تكون مع شخص آخر قرر يتزوج طفلة قاصرة، ومجتمع كامل حضر وشاهد وبارك ورقص في الفرح وشيخ كتب ورقة".
ويُعاقب على جريمة "هتك العرض دون تهديد"، وفق المادة 269 من قانون العقوبات المصري، والتي تنص على أن "كل من هتك عرض صبي/ صبية لم يبلغ سن كل منهما 18 سنة ميلادية كاملة بغير قوة أو تهديد يُعاقب بالسجن، وإذا كان سنه لم يجاوز 12 سنة ميلادية كاملة (...) تكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن سبع سنوات".
لكن الخطيب تستدرك بأن "أي قضية تخص الرأي العام تكون النيابة العامة هي الجهة المنوط بها التحرك تجاهها". بالنظر إلى بيان النيابة العامة بشأن الواقعة يبدو أن هناك إرادة أمنية لإنهاء الملف.
وتُصر الخطيب على أن المشكلة الرئيسية في مصر هي "عدم وجود آلية واضحة وصريحة للحد من زواج القاصرات عبر رصد هذه الحالات والقيام بالتدخلات وتحرير البلاغات"، لافتةً إلى أن المجلس القومي للأمومة والطفولة قلما يتدخل لوقف مثل هذه الحوادث المتكررة.
أما السعيد، فتطالب بتطبيق "مدونة سلوك مهني لمقدمي الخدمات الصحية بشأن التعامل مع النساء وخاصةً الناجيات من العنف" التي قامت بإعدادها مؤسستها الحقوقية، مبرزةً أن أحد بنودها "لا يجوز إجراء الكشف الطبي إلا بموافقة الحالة بشخصها أو بحكم قضائي"، مطالبةً بـ"تعميمها" على جميع المستشفيات المصرية.
وناشدت الجهات المختصة "اتخاذ اللازم تجاه الواقعة، وإصدار القانون الموحد لتجريم العنف ضد النساء، وتغليظ عقوبة زواج الطفلة قبل سن 18 عاماً".
وزواج القاصرات هو إحدى العادات الموروثة التي تنتهك أجساد الطفلات وأيضاً حقوقهن إذ أن الزوجة "الطفلة" تُحرم من الحق في الميراث حال وفاة الزوج، ومن النفقة والمؤخر حال الطلاق، كما لا يحق لها رفع دعوى قضائية للخلع. أما في حال إنجاب أطفال، فيحرمون تبعاً لذلك من الحق في استخراج شهادة ميلاد أو أوراق ثبوتية، ومن الحصول على التطعيمات الإجبارية، ومختلف الحقوق المتعلقة بالتعليم والرعاية الصحية.
ولا يوجد في القانون المصري مادة صريحة لتحديد عقوبة تزويج القاصرات، لكنها عادةً ما تصنف تحت بند التزوير بأوراق رسمية، والاحتيال والنصب على القاصرات والاتجار بالبشر وهتك العرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...