يرتبط اضطرابات القلق (Anxiety Disorders) واضطراب كرب ما بعد الصدمة (Post-traumatic stress disorder) برباط وثيق معاً، حيث يظهر كلّ منهما في خطوط متوازية مع بعضهما بعضاً أياً كان ترتيب ظهورهما. وأهم عنصر يربط بينهما معاً هو محاولة المريض المستمرة لـ"فرض السيطرة"، فكيف استخدم ستيفن سبيلبرغ السينما لفرض السيطرة؟
التكرار كمعالج للقلق ومخفف من حدة الصدمة
دائماً ما يلجأ مرضى القلق واضطراب كرب ما بعد الصدمة لإعادة تذكر ما يقلقهم أو الحدث الصدمي الذي مروا به في هيئة استرجاعات (Flashbacks)، يكون غرضها إما التحكم في الحدث الصدمي نفسه عن طريق تغير نهايته أو تفريغ جزء من الطاقة السلبية المشحونة نتيجة للحدث؛ الأمر الذي اعتمد عليه سام لتفريغ قلقه. ففي فيلم "ذا فابلمانز" (The Fabelmans) الذي كان فيلم افتتاح الدورة الرابعة والأربعين من مهرجان القاهرة السينمائي من إخراج ستيفن سبيلبرغ، وبطولة غابريال لابيل، ميشيل ويليامز، وبول دانو، يظهر عنصر السيطرة بأكثر من شكل.
تدور أحداث الفيلم حول الطفل/الشاب (سامي فابلمان) المتيم بالسينما والتصوير منذ طفولته، بالأخص بعد أول فيلم سينمائي يراه في حياته. تتطور حياة عائلة فابلمان اليهودية بأكملها على مدار السنين وتبقى السينما، وخاصة التصوير، عاملاً مهماً في جريان أحداثها.
تبدأ قصة سام مع عشقه للسينما منذ أن تعرف أول مرة على قدرتها المبهره في علاج قلقه؛ فسامي طفل يعاني من القلق بما يحمله من أعراض مثل الفوبيا والأحلام المرعبة. وفي المشهد الأول الذي يلتصق في ذاكرة سامي من السينما تتفاقم مشاعر القلق بداخله بسبب مشاهد الحركة المبالغ بها التي رآها على الشاشة وسعى أن يكررها مرات ومرات. في تلك اللحظة بالتحديد، يتراءى لوالدة سام (ميتز فابلمان) أن تستخدم تقنية التصوير، مهما كانت بدائية، لتساعد طفلها على تكرار صوريّ لتلك اللحظات التي يحاول أن يتحكم بها من خلال التكرار الفعلي الذي قد يكلفه لعبة جديدة.
في فيلم ذا فابلمانز، يظهر عنصر السيطرة بأكثر من شكل؛ فتدور أحداث الفيلم حول الطفل/الشاب (سامي فابلمان) المتيم بالسينما منذ طفولته. تبدأ قصة سامي مع عشقه للسينما منذ تعرف أول مرة على قدرتها المبهره في علاج قلقه
وبسبب الراحة التي تحققت بسبب تكرار المشهد، بالإضافة لطاقة القلق المفرغة بالتصوير والعرض المستمر للحدث الصدمي، تنشأ علاقة الحميمة بين سامي الطفل المصاب بالقلق المزمن والسينما، التصوير والاحتفاظ بعدة صور ثابته بشكل متحرك بمعنى أدق، نفس العلاقة التي تسببت في صدمة لاحقه في المراهقة كانت ستؤدي بقطع علاقة سام والسينما.
السينما كمعالج للقلق ومخفف من حدة الصدمة
من المفارقات في فيلم ذا فابلمانز أن التصوير والسينما اللذين كانا عنصريْ تهدئة القلق عند سام، أصبحا سببَ الصدمة التي تلقاها في مراهقته، وقد تكون من أصعب الصدمات التي يتعرض لها شاب في بداية طريق معرفته بنفسه.
يكتشف سام بالصدفة بسبب فيلم سجله في إجازة عائلية أن والدته على علاقة بصديق أبيه الحميم بيني لوي (سيث روغن) الذي يعتبر جزءاً أساسياً من عائلتهم. يصور سبيلبرغ مشهد اكتشاف سام للحقيقة بلغةِ السينما، عن طريق مشاهد تعاد وتقص ويتمّ تكبيرها في مشهد مؤثر على خلفية موسيقى حزينة تعزفها الأم.
وبعد أن كانت السينما هي الطريقة التي يكرر بها سام الأحداث للتحكم بها ولتغيُّر نهايتِه، أصبحت النقيض تماماً، ومهما فعل لن يستطيع تغيير نهاية هذا الفيلم، وهنا يقرر سام أنه لا يمس كاميرا مطلقاً كنوع من نقل مشاعر الغضب لشيء غير والدته.
ومن المفارقات الأخرى أن العم بيني في نهاية رحلته مع الأسرة، وبعد اكتشاف سام للحقيقة يهديه كاميرا متطورة باهظة الثمن، تلك التي يعزف عنها لفترة طويلة. ومع دخوله مدرسة جديدة، ولكونه مراهقاً يهودياً في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، فمن الطبيعي -من وجهة نظر المخرج- أن يعاني من المتنمرين العنصريين المعادين للسامية، ليكون سام هو المراهق المنبوذ في المدرسه. ومن هنا تتدخل السينما مرة أخرى لحلّ مشكلة سام، حيث يتعرف إلى فتاة مشهورة كصديقة حميمة وشعبية بسبب قدرته على التصوير المتطورة التي يستخدمها في تصوير يوم الغياب.
يعود سام مرة أخرى للكاميرا لعدة أسباب؛ أولها وأهمها حلّ العقدة بينه وبين والدته، والتوصل في النهاية لطريقة ما يمكن من خلالها مسامحتها. تعاطف مبالغ فيه تجاه الأم التي لم تستطع الاستغناء عن حبيبها بزوجها اللطيف وأطفالها. مع ذلك يصورها سبيلبرغ، وبالأخص من وجهة نظر سام كـإنسانة تخطئ وتصيب، متخلياً عن القوالب المثالية التي يضع فيها الأطفال آباءهم معصومين من الخطأ. وبالإضافة لأسباب أخرى مثل اشتياقه للتصوير ورغبته في إثارة إعجاب زملائه، تكون الأم هي العامل الرئيسي في دائرة حب-كُره السينما والتصوير لدى سامي.
من رحم المحن يولد الفن؟!
بغض النظر عن حقيقة الجملة السابقة المطلقة، وأنه كلما زادت المعاناة زاد الإبداع بالتأكيد، إلا أن سبيلبرغ في رحلته يرسم المبدأ السابق بشكل مختلف؛ فـمحنة سام كانت داخلية لا خارجية، ولم تكن هذه المحنة هي علاقته بوالدته المضطربة والمشاكل الأسرية التي ظهرت بسبب اكتئاب الأم، إنما بدأت مشاكل سام قبل ذلك، عندما تعارضت أول مرة رغباته السينمائية مع واجباته الأسرية.
من المفارقات في فيلم ذا فابلمانز أن التصوير والسينما اللذين كانا عنصريْ تهدئة القلق عند سام، أصبحا سببَ الصدمة التي تلقاها في مراهقته
ففي الوقت الذي كان كلّ ما يريده سام هو العمل على فيلم جديد، يجبره والده على إنجاز فيلم والدته القصير، الذي من خلاله يكتشف سرّاً سيقلب علاقته بالسينما رأساً على عقب. الطريقة التي يصمم بها الأب على تلبية متطلبات معينة في مقابل رغبة سام على الإبداع، متحكماً فيه بسبب الجهاز المتطور الجديد الذي ابتاعه له للتو، تظهر برمزيةٍ العلاقة بين الإنتاج والإبداع المعروفة والمتوترة دائماً، حيث تتضارب رغبات كلٍّ منهما، وفي النهاية في الأغلب ينتصر الإنتاج بسبب تحكمه في مصدر القوة الأكبر (الأموال) في عالمٍ رأسمالي كالذي نحيا به.
على هامش ذلك، وبغضّ النظر عن صراع الماديات والإبداع بين الأب والابن، في زيارة خال الأم للمنزل، تلك الزيارة التي حذرت منها الأمّ نفسها عن طريق والدتها المتوفاة في الحلم على أنها الزيارة التي ستهدم بيتها، يحاور الخال العجوز، محبُّ السينما وفاقد حياته في سبيلها، سامَ عن المعاناة التي سيعيش بها معذباً طوال عمره مادام يحب السينما.
ينبئه الخالُ أولاً أنه سيضيع حياته في سبيل السينما، حتى لو اضطر أن يعمل في سيرك حتى يحافظ على هذا الشغف، وثانياً أن المصير المحتوم لأي محبّ للفن هو التمزق بين هذا الشغف الساحر والعائلة ومتطلباتها، ليكون ذلك هو الدرس الأول الذي يتعلمه سام وبالتأكيد سيستمر معه طوال العمر. ومع اجتماع كلّ تلك العناصر على سام يقرر تنحية مشروعه جانباً والعمل على مقطع والدته الذي كان من المفترض أن يغير الجوّ العام للأسرة، ولكنه يؤدي إلى ما هو أسوأ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...