شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
قدّمن الشايَ سافراتٍ فغضبَ أمير مكة

قدّمن الشايَ سافراتٍ فغضبَ أمير مكة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 20 نوفمبر 202202:30 م

في سنة 1815، أعلنت الأرستقراطية البريطانية الليدي هستر ستانهوب نيتها زيارة سورية، فطلب منها الوالي العثماني سليمان باشا أن ترتدي الملاية السوداء "احتراماً لحرمة المدينة وعاداتها،" محذراً من دخولها دمشق "بلباس الرجال (البنطال) ومن دون حجاب". قال إن هذا سيسبب لها متاعبَ عدةً "قد تؤدي إلى إهانتها في الأماكن العامة". ولكن السيدة البريطانية رفضت أن تغيير شيئاً من هندامها، ودخلت دمشق في وضح النهار على طريقتها الخاصة، لتعيش طيلة ثلاثة أشهر في حيّ باب توما المسيحي، سافرةَ الرأس والوجه، دون أن يعترض لها أحد من السوريين، ربما لأنها أجنبية، أو بسبب الحراسة المشددة التي فرضها لأجلها الوالي.

لم تكن المرأة العربية يومها تتمتع بأي حقوق سياسية، ولا رأي لها في القضايا الوطنية الكبرى، ليس لها أي دورٍ اجتماعي إلّا بما يتعلق بتربية الأولاد والسهر على خدمة الأزواج. فرضت الملاية السوداء على كافة نساء السلطنة، التي كانت تُغطي وجوهَهن وأجسامَهن من الرأس حتى القدمين، ولم يكن المجتمع العثماني أو العربي يعرف السفور أبداً، حتى بين المسيحيات واليهوديات.

في سنة 1815، أعلنت الأرستقراطية البريطانية الليدي هستر ستانهوب نيتها زيارة سورية، فطلب منها الوالي العثماني سليمان باشا أن ترتدي الملاية السوداء "احتراماً لحرمة المدينة وعاداتها،" محذراً من دخولها دمشق "بلباس الرجال (البنطال) ومن دون حجاب"

في الطرقات العامة، كان الرجال يتقدمون عن النساء ببضع خطوات، ولا تخرج المرأة من دارها إلّا برفقة زوجها أو أبيها، وعند ركوبهن "الحنطور" كان العربجي يُدلي بالستارة الداكنة فوق رؤوسهن، كي لا يراهن أحدٌ، حتى لو كنّ موشحات بالملاية السوداء. وقد وصف المحامي السوري نجاة قصاب حسن هذه الحالة بالقول: "كانت سنوات فيها حُكمٌ مطلق من الرجال بالمرأة المدحورة إلى خدرها تحت حجابها السميك وموقعها في الدار، لا تخرج منها إلّا إلى القبر".

البداية كانت مع الاتحاديين

جاء التغير الحقيقي على يد "جمعية الاتحاد والترقي" التي وصلت إلى الحكم في إسطنبول بعد انقلابها على السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908. أصدر الاتحاديون مجموعةً من القوانين لتقليم أظافر رجال الدين في المجتمع العثماني؛ مثل نقل المحاكم الشرعية إلى "نظارة العدلية" (وزارة العدل)، مع "قانون حقوق العائلة" الذي منع الزواج بين زوجين بينهما تفاوت كبير بالسن، وربَطَ تعددَ الزوجات بشرط القدرة على الإنفاق.

ساهمت هذه القرارات بتقوية عود المرأة في إسطنبول، وجعلتْها أكثر جرأةً وتحرراً في الكثير من البلدان العربية. وفي منتصف الحرب العالمية الأولى، أقامت مجموعة من سيدات دمشق حفل استقبال على شرف جمال باشا، قائد الجيش الرابع في سوريا، وأحد قادة جمعية الاتحاد والترقي، ظهرن فيه سافرات الوجه والرأس. في مذكراته، يقول المحامي فائز الغصين، أحد قادة القومية العربية آنذاك: "إن نساء من عائلات إسلامية كن يقدِّمن الشايَ سافراتٍ لجمال باشا، مما أحدث لغطاً عظيماً في البلدة، لأن المسلمين لم يألفوا ذلك، ولم يروا نساءهم يختلطن بالرجال على هذه الصورة".

المؤكَّد أن دمشق شهدت تظاهرة نساء سافرات يوم 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1934، خرجت فيها مجموعة من السيدات المسلمات عند مدخل مسجد الأقصاب، حاملات آرمة كتب عليها "سيدات دمشق"، تقدمتهن نديدة الطرابيشي وبدرية محاسن، وكلاهما من عائلات سورية معروفة

وقد أغضب هذا الحفلُ، والسفورُ الذي تخلله، أميرَ مكة الشريف حسين بن علي، الذي ردّ عليه قائلاً إن جمال باشا، المتحكم في الشّام وأهلها، قد أمر سكان ذلك القطر الإسلامي (سوريا) أن يألفوا جمعية نسائية، ثم أوعز إلى هذه الجمعية أن تؤدب له مأدبة في ناديها، وقد تم ذلك بالفعل، وحضرها هو ورجال العسكرية والملكية ومن دعاهم من سائر رجاله وأعوانه. وكان النسوة المسلمات أعضاء هذه الجمعية يباشرن بإكرام ضيوفهن، وعند ختام الحفلة شرعن في إلقاء الخطب والأناشيد بين تلك الجماهير من الرجال، كما نشرت ذلك صحف سورية على اختلاف مشاربها، مظهرةً الإعجابَ والفخرَ إرضاءً لجمال باشا.

كان حجاب المرأة حتى ذلك التاريخ مُلزماً من الناحية الاجتماعية والأخلاقية. ومع مرور وظهور جيل من السيدات المتعلمات في سوريا والعراق وفلسطين ومصر، تبدلت الملاية القديمة بملاية لا تتجاوز أطرافُها الركبتين، وقامت النساء بتخفيف طبقات منديل الوجه حتى أصبح شفافاً، ثم قامت البعض منهن إما بارتداء "الإيشارب" بدلاً من الملاية، الذي كان يُغطي شعر الرأس فقط، أو بخلع الحجاب كلياً، ليظهرن أمام الناس سافراتِ الوجه والرأس. كان "الإيشارب" كما أطلق عليه عامةُ الدمشقيون الاسم، رمزاً للحشمة، وليس إلى التدين أو التزمت، وبقي كذلك حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي.

تأثير هدى شعراوي على فتيات سوريا والعراق

في مصر، يعرف الجميع أن المناضلة هدى شعراوي هي أول من خلعت الحجاب عن رأسها، وطالبت بتحرير المرأة المصرية من قيد الرجل. كان ذلك سنة 1921، بعد عودتها من مؤتمر نسائي في روما، وخلال استقالة الزعيم المصري سعد زغلول باشا، حيث قامت بخلع الحجاب علانيةً أمام الناس، وداسته مع إحدى زميلتها، ما جعل عدداً من الحاضرات يفعلن مثلهما.

ألهمت هدى شعراوي العديدَ من السيدات العربيات، مثل السورية نازك العابد التي جالت شوارع دمشق سافرةَ الوجه سنة 1920، بعد تطوعها في الجيش الوطني لمحاربة الفرنسيين، واللبنانية نظيرة زين الدين التي وضعت كتاباً دفاعياً عن السفور سنة 1928، والطالبة العراقية صبحية الشيخ داوود، التي دخلت قاعةَ المحاضرات في كلية الحقوق في جامعة بغداد سافرة الوجه والرأس سنة 1934.

إضافة للتأثير الكبير لهدى شعراوي، كانت هؤلاء السيدات قد قرأن كتاب "تحرير المرأة" للأديب المصري قاسم أمين، الصادر في القاهرة عام 1899، والذي هاجم فيه حجاب المرأة وعزلتها وقلة تعليمها. كما أنهن تأثرن بكتابات الشعراء العراقيين الكبار من أمثال جميل الزهاوي ومعروف الرصافي، الذين نادوا بتحرير المرأة في بلاد الرافدين، وكانا من أنصار جمعية الاتحاد والترقي في إسطنبول قبيل الحرب العالمية الأولى. وقد ساندتهم يومها عددٌ من نساء الساسة العراقيين في تلك المطالب، مثل زوجة رئيس الحكومة حكمت سليمان، ومديحة بنت رئيس الحكومة ياسين باشا الهاشمي، وفخرية السعيد شقيقة نوري باشا السعيد، وزوجته نعيمة العسكري (شقيقة رئيس الحكومة جعفر باشا العسكري).


جميع هؤلاء السيدات كنّ سافراتٍ وناشطات في المجتمع العراقي، وقد تسلّحن بالتشريعات التي صدرت في إسطنبول قُبيل الحرب العظمى. وفي كانون الثاني/يناير 1936، جاء تشريع صادم، هذه المرة من طهران، علي يد الشاه رضا خان (والد الشاه محمد رضا بَهلَوي)، عرف بقانون "كشف الحجاب"، وقد سمح للمرأة الإيرانية بالخروج سافرةً، وضمن سلامتها وأمنها من المتشددين، بل فرض الشاه هذا القانون على النساء الإيرانيات.

أول تظاهرة سفور في سوريا

أختلف المؤرخون حول أول مظاهرة سفور في سوريا؛ فالبعض قال إنها كانت سنة 1922، بعد أشهر قليلة من تظاهرة هدى شعراوي في مصر، وهؤلاء يعتقدون أن من نظمها في سوق الحميدية كانت السيدة سارة مؤيد العظم، اعتراضاً على اعتقال زوجها الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وهو علماني الهوى وأحد المنادين بالسفور في سوريا. وقال آخرون إنها جاءت على يد المدرسة ثريا الحافظ أمام السراي الحكومي في ساحة المرجة سنة 1943.

ما هو مؤكَّد أن دمشق شهدت، ما بين 1922و1943، تظاهرة نساء سافرات يوم 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1934، خرجت فيها مجموعة من السيدات المسلمات عند مدخل مسجد الأقصاب، حاملات آرمة كتب عليها "سيدات دمشق"، تتقدمهن نديدة الطرابيشي وبدرية محاسن، وكلاهما من عائلات سورية معروفة. حاول عناصر الدرك تفريقهن بالقوة، ما أدى إلى مشاجرة مع النسوة وسيل من الشتائم، بالعربي والتركي.

تم اعتقال 11 سيدة من المتظاهرات بعد أن أنزلن المناديل على وجوههن، وبعد أن صاحت إحداهن في وجه الشرطي: "أنت بلا شرف، وأنت لا تعرف إلا أن تبرم شواربك"

تم اعتقال 11 سيدة من المتظاهرات، بعد أن أنزلن المناديل على وجوههن، وبعد أن صاحت إحداهن في وجه الشرطي: "أنت بلا شرف، وأنت لا تعرف إلا أن تبرم شواربك". نُقلت مخفورة إلى السجن ومثلت مع رفيقاتها أمام القضاء الفرنسي. طلب منها القاضي أن ترفع المنديل عن وجهها فرفضت، فهدد بإزالته بالقوة للتعرف عليها. هاجت القاعة واعترض الرجال الحاضرون، مع المحامين وأهالي السيدات.

تقدم نائب دمشق فخري البارودي (الداعم للسفور) بكتاب اعتراض إلى المندوب السامي الفرنسي، وأرسل نسخةً منه إلى الحكومة الفرنسية في باريس، احتجاجاً على تصرف القاضي. قال فيه إن السفور الطوعي شيء، وإجبار المرأة المسلمة على خلع الحجاب، وتحديداً من قبل رجل أجنبي، شيء مختلف تماماً، يُعتبر إهانةً لكل السوريين.

ركز البارودي على قول القاضي إن رجال سوريا بلا شرف، لأنهم سمحوا لنسائهم بالخروج من البيت سافراتٍ. وذكّر البارودي بالبطلة الفرنسية جان دارك، وقال: "لقد اتهمتونا بالجبن، لأننا أجزنا للنساء السوريات بالتظاهر، ولكنك تعرف أن المشاركة النسائية السياسية تُعتَبر من أمجاد أي أمة. في فرنسا ترى النساء ينضمن إلى مظاهرات الرجال، بل يقُدنها. لم يجرؤ أحد على اتهام رجال فرنسا بالجبن".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard