ما تسميه الحكومة الإيرانية بالشغب والفوضى ومؤامرات الأعداء، يطلق عليه المتظاهرون، الاحتجاجَ، والحراك السلمي، والرفضَ القاطع لسياسات طهران ضد الحريات والقمع والقتل.
"إن مثيري الفوضى يخلقون المشكلات للناس، ويرتكبون جرائم أيضاً. ولكن من هم في مسرح الشغب، ومن هم وراء الكواليس، أضعف بكثير من أن يتمكنوا من إلحاق الضرر بنظام الجمهورية الإسلامية". هذا هو تعبير المرشد آية الله علي خامنئي في أحدث تصريحات له عن ما يجري في معظم مدن إيران منذ نحو شهرين.
ووسط صمت السلطات الإيرانية عن إجمالي أعداد القتلى والجرحى والمعتقلين، كشفت منظمة حقوق الإنسان الإيرانية ومقرّها النرويج، أن ما لا يقل عن 378 شخصاً لقوا حتفهم، كما تم اعتقال نحو 16 ألف شخصاً، وفقاً لهذه المنظمة.
اندلعت الاحتجاجات في إيران، في 16 أيلول/سبتمبر بعد وفاة مهسا أميني، وهي مواطنة كردية تبلغ من العمر 22 عاماً، احتجزتها شرطة الحجاب في طهران بزعم انتهاك قواعد الحجاب الصارمة.
"تحدثتم عن الظلم بحق أطفال فلسطين واليوم سجلتم اسمَكم في التاريخ كنظام قاتل للأطفال. قتلتم 52 طفلاً في فترة وجيزة، ألا يكفي؟"
وفي بداية شهرها الثالث، تزامنت الاحتجاجات التي ترفع شعار "المرأة، الحياة، الحرية"، مع الذكرى السنوية الثالثة لاحتجاجات البنزين عام 2019، وتخليداً لها دعت المعارضة الإيرانية والمحتجون وعوائل ضحايا انتفاضة البنزين، إلى إضراب عام شامل خلال ثلاثة أيام، بدءاً من 15 إلى 17 تشرين الثاني/نوفمبر، وقد انضمّ إلى هذا الإضراب الكثيرُ من المتاجر والمحلات والأسواق والمقاهي والمطاعم والشركات المعرفية والعمال، وحتى من يعمل بشكل فردي في المنزل.
وتعتبر احتجاجات 2019 والتي جاءت بعدما رفعت حكومة الرئيس السابق حسن روحاني سعرَ الوقود إلى ثلاثة أضعاف، من أبرز محطات المعارضة الشعبية، لا سيما أن الطبقة الفقيرة في معظم المدن الإيرانية انتفضت خلالها، وقد واجهتها السلطات بأشدّ أساليب القمع، وقُتل نحو 1500، حسب مصادر المعارضة، مما أثار حفيظة المجتمع الدولي.
وبعد مرور 3 أعوام على تلك الحادثة، خرجت هذه المرة جموعُ المتظاهرين في معظم المحافظات الإيرانية الـ31، مطالبةً برحيل النظام، إذ رُفعت شعارات ضد الجمهورية الإسلامية ومرشدها آية الله علي خامنئي. وكان النصيب الأكبر من هذه الاحتجاجات الليلية، للمدن الصغيرة والهامشية، والتي خطفت الأضواء في الإعلام المعارض خارج البلاد وشبكات التواصل الاجتماعي، خاصةً بعد أن مارس النظامُ القوةَ في إخمادها.
وبينما أعلنت السلطات الأمنية عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف عناصرها في كلٍّ من مدن طهران ومشهد وإصفهان وسَنَنْدَج وبوكان، تحدث المحتجون عن مضاعفة القمع وزيادة إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وارتفاع إجمالي عدد القتلى، خاصة في المدن الكردية غرب البلاد.
مقتل طفلٍ يشعل غضب الشارع
من بين الذين سقطوا في الاحتجاجات في الأيام الأخيرة في إيران، هو طفل يبلغ من العمر 9 سنوات، أشعلت قصة مقتله في حادثٍ غامض في مدينة إيذه بمحافظة خوزستان جنوب غربي إيران، شبكاتِ التواصل الاجتماعي المحجوبة في إيران منذ بداية الاحتجاجات، كما أشعلت بدورها الإعلامَ الإيراني.
تحدثت مصادر مقربة من عائلة الطفل لقناة بي بي سي الفارسية، أن الطفل "كِيان بِير فَلَك"، كان برفقة أخيه وأبيه وأمّه في السيارة، ذاهبين نحو المنزل في مدينة إيذه التي كانت تضجّ بالمتظاهرين، حين أُطلقت النار عليهم من أربع جهاتٍ راح ضحيتها كِيان ووالده.
وتداول روّاد شبكات التواصل الاجتماعي بحسرةٍ مقطعَ فيديو لهذا الطالب المدرسي وهو يختبر روبوتاً كان قد صنعه بنفسه بغيةَ المشاركة في مهرجان "جابر بن حيان" الطلابي والمخصَّص للأعمال المبتكرة والإبداعية لتلامذة المدارس في البلاد.
وأثار مقتل كِيان غضبَ وحزنَ الشارع الإيراني الذي عبّر عنه من خلال تفاعله مع صورِه وفيديوهاته المنزلية على حساباتهم. هنا بعض من التعليقات الشهيرة على مقتل كيان:
- الممثلة السينمائية هِنكامة قاضياني: "تحدثتم عن الظلم بحق أطفال فلسطين، واليوم قد سجلتم اسمَكم في التاريخ كنظامٍ قاتل للأطفال. قتلتم 52 طفلاً في فترة وجيزة. ألا يكفي؟".
- المخرج أصغر فرهادي: "دماء هؤلاء الأطفال الأبرياء سوف تلاحقكم".
- الصحافي ياشار سلطاني: "+هل أقتل الأب أم الطفل؟، -اضربِ الابنَ، ثم سيموت الأب".
- نجمة السينما وسفيرة اليونيسيف في إيران مَهتاب كِرامتي: "أنا مهتاب كرامتي، وقد كنت دائماً في موقعٍ أستطيع عبره أن أفعل شيئاً للأطفال، أعلن استقالتي من اليونيسف".
وقد تعرضت هذه المنظمة التابعة للأمم المتحدة إلى انتقادات حادة من المتظاهرين بسبب صمتها تجاه قتل الأطفال، وفي نهاية المطاف نشرت اليونيسف بياناً أعربت فيه عن قلقها تجاه قتل الأطفال.
في غضون ذلك أعلنت السلطات في مدينة إيذه أن حادث إطلاق النار في هذه المدينة والذي راح ضحيته 7 مواطنين و12 جريحاً، نفذه أربعة عناصر إرهابية كانوا على متن دراجتين ناريتين، وتم إلقاء القبض عليهم، ولا علاقة له بالقوا
ت الأمنية. بيد أن الأهالي والمعارضة لم يقتنعوا برواية الحكومة، ويتهمون العناصرَ الأمنية بالزيّ المدني بقتلِ كيان ووالدِه.
وفي مراسم جنازة طفلها والذي حضرها جموعٌ غفيرة من الأهالي، فندت والدةُ القتيل زينب مولايي راد، روايةَ الحكومة، وأكدت أن من أطلق النار على السيارة هم قوات الأمن، لا الإرهابيون.
ظاهرة "لِباس شَخصي ها"
أثارت الظاهرة التي تسمى بـ"لِباس شخصي ها"، وتعني قوات الحرس الثوري الذين يرتدون زياً مدنياً، فيندسون داخل صفوف المتظاهرين، ويقومون بأعمال شغب باسم المحتجين، أو مضايقات، أو مساندة الشرطة في إلقاء القبض على المتظاهرين أو إطلاق النار عليهم، حفيظةَ الجميع، وكانت من أبرز ظواهر الاحتجاجات الإيرانية الحالية.
وتم تداول عشرات الفيديوهات في أماكن مختلفة على منصات التواصل الاجتماعي، تظهر رجالَ الأمن بالزي المدني يحملون الأسلحة، ويضربون المواطنين، ويقومون بكسر السيارات والدراجات في الشوارع، كما يضرمون النار في الشوارع.
ونشرت الصحافية الشهيرة في طهران صَبا آذَر بيك، مقطعَ فيديو لهذه الفئة من عناصر الأمن، راكبين دراجاتهم النارية في إحدى مناطق العاصمة طهران، ويطلقون الرصاص على الأرصفة، وقالت منذ شهرين ونحن نحذر ونطالب بأن الأسلحة لا يجب أن تكون بيد هؤلاء عناصر الأمن بالزي المدني المتشددين، مضيفة: إذاً، لا أحد يصدق رواية الحكومة بأن حادث مدينة إيذه كان إرهابياً طالما أن السلاح بيد هؤلاء.
وبعد حادث الهجوم على مزار "شاه جِراغ" في مدينة شيراز والذي وقع في 26 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، نشر أحد المواقع الإعلامية الحكومية، تقريراً صحافياً من شهود عيان كان أحدهم يشرح أنه قد شاهد منفّذَ العملية وهو يحمل السلاح ويترجل نحو المزار، لكنه ظنّ أنه من عناصر الأمن الذين يرتدون الزي المدني، ولم يكن يعرف أنه جاء لقتل المصلّين.
هذه المقابلة عادت إلى التداول من جديد، فتكررت تنذيرات المراقبين والناشطين بأن الأمر أخذ يستهدف أمن المواطنين، فيصعب على المارة أن يفرقوا بين الإرهابيين وعناصر الأمن بالزي المدني، طالما الكلّ يستغل الزي المدني.
وحتى الآن لم يأت ردّ مقنع من جانب السلطة القضائية أو الداخلية حول هذه الفئة الحكومية، فبين أنباء تنفي وجودهم وأخرى تقلص دورهم، تستغل السلطات هذه الظاهرة، فإن قُتل أحدهم قالوا إنه شهيد ذهب دفاعاً عن أمن الوطن، وإن قَتل أحدٌ من المتظاهرين، نفت انتماءه للقوات الأمنية، حسبما يصف رواد المنصات.
قضائياً، أصدرت محكمة طهران حتى الآن، حكم الإعدام بحق 3 من المشاركين في الاحتجاجات أو كما تصفهم بـ"مثيري الشغب"، وذلك إلى جانب إصدار حكم السجن لآخرين في طهران والمدن الإيرانية الأخرى، واحتجاز المئات في السجون دون محاكمة حتى الآن، بينهم صحافيون وطلاب وشخصيات فنية وسياسية.
صمت نخَب النظام
في تصريحاته الأخيرة، انتقد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بشدة، صمتَ النُّخب السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والفنية المحسوبة على النظام، وهي التي لم تبدِ موقفَها، ولم تحضر في الساحة لتهدئة الشارع، وصرح: "عندما نسأل النُّخبَ، يقولون إننا نخشى هجومَ رواد منصات التواصل الاجتماعي".
جاء الرد سريعاً على تصريحات الرئيس الإيراني من الأكاديمي السياسي الشهير صادق زيبا كِلام بقوله: "بودّي أن أستفسر حضرة الرئيس: عن أي تصرّفٍ للنظام عليهم أن يدافعوا النخبُ؟ هل ترك أداء النظام موقعاً أو شيئاً للدفاع أو التبرير حتى؟".
لم يبذل النظام الإيراني جهداً في سبيل تهدئة الشارع عبر الحوار والتفاهم والتنازل والاعتذار كما يطالب به الشعب، بل استخدم لغة القمع والبندقية، وما زال مصرّاً على ذلك، ظناً منه أن الخوف سيسود المتظاهرين
أما الباحث الاجتماعي والسياسي عباس عبدي، فردّ على الرئيس: "ردُّ النّخبِ كان صادقاً؛ بالأمس كانوا يخافون من النظام فيبدون رأيهم، واليوم يخافون من السوشيال ميديا فيصمتون".
كما هو مشهود حتى الآن، لم يبذل النظام الإيراني جهداً في سبيل تهدئة الشارع عبر الحوار والتفاهم والتنازل والاعتذار كما يطالب به الشعب، بل استخدم لغة القمع والبندقية، وما زال مصرّاً على ذلك، ظناً منه أن الخوف سيسود المتظاهرين. لكنه تفاجأ بشجاعتهم، وخاصة الفتيات والشباب من مواليد ما بعد عام 2000.
"في زقاق بالعاصمة طهران استمرت اشتباكاتنا مع المتظاهرين نحو ساعة كاملة. إنهم مقاومون أمامنا، خلافاً لاحتجاجات الأعوام الماضية التي كنا فيها إذا بدأنا نطاردهم، يهربون منا"؛ تصريح أدلى به أحد عناصر الحرس الثوري الإيراني، بويان حسيني بور ، في اجتماع خاص.
وحول مساندة الشعب للمحتجين في المظاهرات الجارية قال حسيني بور: "دخلنا زقاقاً مغلقاً كان فيه 30 مبنى سكنياً، جميع السكان في هذه المباني رمونا بالحجارة والأصيص والمكواة والكرسي".
اعتبر رواد شبكات التواصل الاجتماعي في إيران، هذه التصريحاتِ، بأنها شهادةٌ على الفارق بين الاحتجاجات الجارية في البلاد وما سبقتها في الأعوام الماضية، فقد انكسر حاجز الخوف لدى الشعب الإيراني، ويبدو أنها ستستمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com