قبل فترة قريبة، توفي جودت سعيد (1930-2022)، العلامة والمفكر الشركسي السوري المعاصر الذي عُرف بأنه امتداد لخيط الإسلام المتنور، كما لُقّب بغاندي العرب، كونه من أنصار اللا عنف، المبدأ الذي دعا إليه في مؤلفاته، وهي جرأة مهمة في زمن التطرف الديني المتسع في العالم، والذاهب به إلى التنظيمات المسلحة، داعش وغيرها، وما لها من تأثير وقوة عالميَين.
ومن الطبيعي أن يتم نقده ومحاربته وهو الخارج عن سرب التعتيم الفكري، ومن أقواله الأكثر شهرةً: "ينبغي على الشريعة أن تتطور نحو الأنسب. ينبغي على الأنفع أن ينسخ الأقل نفعاً"، بمعنى الاستبعاد والتطوير، أما الإشكالية الكبرى فكانت مقولته: "المقدّس هو ما ينفع الناس".
تذكرت هذا القول بينما كنت أشاهد فيلماً فرنسياً بعنوان "العهد الجديد كلياً"، الذي كتبه وأخرجه جاكو فان دورمايل، وهو فيلم حائز على أربع جوائز عالمية.
لم يكن غريباً على السينما العالمية تناول المقدسات، فقد انعكس ترك محاكم التفتيش في أوروبا محصورةً في حقبتها التاريخية، ليس على المستوى الحقوقي وتطوره وحسب، بل تخطى ذلك معتمداً على الحرية والتطور العلمي والمعرفي والحضاري مثيراً في العقل إمكانيات الخيال والفن والتساؤلات الفلسفية. كما لم تعد تشغل بال الإنسان في الغرب تلك المخاوف على مقدساته، والخوف الذي كان يكبح عجلة الحياة كما الخيال، وهذا ما يمكن رصده على مستويات شتى، أبرزها الفن. ففي السينما تم تمثيل الشخصيات المقدسة والأنبياء وصلب المسيح وتجسيده كما في فيلم "آلام المسيح" من بطولة ميل غيبسون عام 2004، والذي يعرض الساعات الأخيرة من حياة المسيح ووشاية اليهود للحاكم البيزنطي به وتسليمه ومن ثم صلبه نزولاً عند رغبتهم، مشيراً إليهم في مسؤولية ما آل إليه مصير يسوع، وهذا ما جعلهم يتهمون غيبسون بمعاداة السامية،
لم يكن غريباً على السينما العالمية تناول المقدسات، فقد انعكس ترك محاكم التفتيش في أوروبا محصورةً في حقبتها التاريخية، ليس على المستوى الحقوقي وتطوره وحسب، بل تخطى ذلك معتمداً على الحرية والتطور العلمي والمعرفي والحضاري مثيراً في العقل إمكانيات الخيال والفن والتساؤلات الفلسفية
ولم تنتهِ عند قصص الكتاب المقدس، سواء في إطار الدعوة إلى الاهتمام بالدين أو إلى رفضه، وسواء بصورة واضحة أو رمزية، وصولاً إلى استقصاء الكون اللا محدود في أفلام الخيال العلمي ومفاهيم فلسفية وفيزيائية ما زالت غير منتهية إلى الوجود الإنساني فيه، وما سينتهي إليه العالم يوماً ما. قضايا كثيرة ومثيرة للجدل أثارت الأسئلة في عقل الإنسان بقوة الفن، وما امتلكته من خيال جامح ومتعة المشاهدة والتعبير.
فيلم "الأم" (Mother)، من إنتاج عام 2017، من أبطاله جينفر لورانس وخافيير بارديم وميشيل فايفر، هو الفيلم الذي نافس على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا، والذي يضع فكرته عن متوالية الخلق وتخبط البشر في فهمه وتكرار الكوارث الإنسانية من دون أن يستطيع الإنسان الحفاظ على عالمه نظيفاً وجميلاً، ويعيش بسلام.
عن فيلم "العهد الجديد كلياً"
أما فيلم "العهد الجديد كلياً"، الفرنسي المنتج عام 2015، والذي ذكرته في البداية، فيقول عنه النقاد: "يأخذ نظرةً سرياليةً لموضوعات الكتاب المقدس من خلال عدسة حديثة أصلية ومنعشة".
يقدّم الفيلم رؤيةً للماضي والحاضر، ويدعو إلى رؤية جديدة للمستقبل عبر عرضه نشوء الحياة وما تؤول إليه في قالب فكاهي لطيف.
يبدأ أولاً بسفر النشوء، ومن ثم سفر الخروج، وذلك على لسان البطلة وهي طفلة ذات عشر سنوات تقول لنا إن خلق العالم والبشرية كان محض صدفة لتزجية الملل عند الإله والدها، لكنه إله يتسلى بمخلوقاته، فهو يضع القوانين الكثيرة لزيادة معاناتهم وجعل حياتهم بالغة الصعوبة في تفاصيلها الصغيرة. وابنته "أيا"، ذات العشر سنوات، تعيش في شقته حيث كل شيء متوافر لكنه يشبه السجن، وتتسلى بتحريك أكواب الحليب على المائدة. لكنها ذات مرة تتسلل إلى معمل والدها الإله، وتكتشف ما يمارسه من تعذيب للبشر بتعقيد حياتهم وخلق ما يزيد من معاناتهم لمجرد التسلية، فتواجهه وتستفز غضبه ليقوم بمعاقبتها بالضرب، هو الأب القاسي والمتحكم الذي يحصر الآلهة الأم زوجته بأعباء أسرتها فلا تنطق ولا تعبّر عن رأيها.
قضايا كثيرة ومثيرة للجدل أثارت الأسئلة في عقل الإنسان بقوة الفن، وما امتلكته من خيال جامح ومتعة المشاهدة والتعبير.
تقرر "أيا" الهبوط إلى عالم البشر، لتغيير حياتها وحياتهم، وهنا ينتهي سفر النشوء ليبدأ سفر الخروج، فتسأل المسيح (التمثال الذي تمسحه الأم برأفة وحنان كل يوم)، النصيحة، ليشير إليها باختيار ستة حواريّين ليكتمل عدد حواريّي "أيا" مع حواريّي المسيح إلى 18، كعدد فريق البيسبول، اللعبة التي تحبها الأم، من ثم عليها البدء بكتابة إنجيل جديد كلياً. وحين تصارحه بعدم قدرتها على الكتابة، يقول لها: "دعي حواريّيكِ يكتبون الإنجيل الجديد عنهم، ومن حياتهم. فقد آن لبني البشر أن يجعلوا مقدساتهم مما تطلبه حياتهم، وما ينفعهم فيها".
ولكنها قبل أن تغادر، تدخل مختبر والدها لتختار ست لوحات ذاتية لأناس ليسوا على التعيين ليكونوا حواريّيها، ثم تقوم بتسريب مواعيد الوفاة المحددة على كمبيوتر الأب، إلى البشر، على شكل رسائل عبر هواتفهم النقالة، ومن ثم تعطّل الكمبيوتر الإلهي، قبل أن تهبط لتنعم بالمطر والناس والحياة التي كانت تفتقدها وتبدأ رحلة البحث عن حواريّيها مستعينةً بمشردٍ كهل يعرف الكتابة تلتقيه صدفةً، وتطلب منه مرافقتها ليكتب الإنجيل الجديد.
تملك "أيا" قدرة الاستماع إلى موسيقى الذات البشرية، فلكل إنسان موسيقى خاصة به، تسمعها بلصق أذنها بجسده، وعبر هذه الموسيقى تعرف ما يناسبه للتصالح مع ذاته وتجاوز نقاط ضعفه في محنته التي اخترعها والدها حاملةً رموزاً فكاهيةً حيناً، ورومانسيةً أحياناً، بينما الوالد الذي يكتشف كل ذلك، ويكتشف فقدانه السيطرة على الكمبيوتر، يلحق بابنته على أمل أن يعيدها، لإجبارها على إصلاح كل شيء.
إنها مغامرة تمرّغ المقدس في وحل المعاناة الإنسانية، بينما البشر يعيشون بلبلة مواعيد الوفاة المسرّبة عبر هواتفهم النقالة، إذ يتوقفون عن روتينهم اليومي (حتى الحرب تتوقف)، باحثين عن أسباب السعادة وعن أهدافهم الشخصية. في مشاهد كثيرة نراها بعين البراءة عبر الطفلة "أيا"، ورغبتها في إحلال السلام الروحي وتغيير العالم وإنهاء معاناة البشر ممسكةً بيدهم ليكتبوا إنجيلهم الجديد الذي يحمل الفرح والسعادة والسلام. لكن الأمور تتعقد ولا يكون الخلاص إلا على يد الأم الآلهة التي باتت وحيدةً في منزلها-مملكتها من دون منازع. ها هي تقوم بالتنظيف على هواها وترقص وتغنّي، وفي أثناء قيامها بتنظيف المختبر تفصل الطاقة الكهربائية عن الكمبيوتر، ثم تعيد وصله فيبدأ بإعادة الإقلاع مرحّباً بعودتها في إشارة إلى الآلهة الأنثى كمديرة للعالم في العصور القديمة، ويطلب منها العودة إلى إملاء الأوامر، فتقوم ببث أعمالها في التطريز وتملأ الأرض زهوراً وربيعاً، وقلوب الناس بالحب والسعادة، وتختفي رسائل مواقيت الوفاة بشكل تلقائي، ويعود الناس إلى حياتهم بينما الزوج الإله يبقى تائهاً يتعثر بمعاناة البشر.
الفن بخياله الخصب يخاطب هموم الإنسانية ويستفزها بشرط وحيد هو أن تنتهي محاكم التفتيش التي في عقولنا أيضاً، والتي ما زالت ظلالها في عالمنا العربي قويةً وتبسط سلطتها ونفوذها
الخروج من عبء الفكر المقدّس
فيلم كوميدي مشوّق وغريب يتناول مفاصل مهمةً في الوجود الإنساني، ويضع الإنسان أمام حدودٍ عليه اختيار طريقة تجاوزها بالخروج من عبء الفكر المقدس الماضي إلى ما هو أكثر إلهاماً للعالم الروحي الكئيب للبشر في العصر الحديث، وصولاً إلى التساؤل عما ستفعل أمام عبثية الوجود إذا عرفت موعد وفاتك: أليس حرياً بك قضاء وقتك القليل المتبقي بسعادة وفرح وتحقيق الأحلام؟
الفن بخياله الخصب يخاطب هموم الإنسانية ويستفزها بشرط وحيد هو أن تنتهي محاكم التفتيش التي في عقولنا أيضاً، والتي ما زالت ظلالها في عالمنا العربي قويةً وتبسط سلطتها ونفوذها.
فبينما تخطو السينما في العالم نحو تناول أكثر المواضيع جرأةً، ما زالت السينما لدينا في العالم العربي تتعثر بطرح المشكلات الزوجية والخيانة والدردشة عبر النت أو التلويح بنزع الثياب الداخلية لمنى زكي في "أصحاب ولا أعز"، لتأخذ الرقابة مجالس رسميةً وغير رسمية وعبر منصات التواصل الاجتماعي لفرض خياراتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين