يبدو أن الحبال الداخلية والخارجية تلتف حول عنق النظام الإيراني، من حراك شعبي يتصاعد كمّاً ومطلباً ونوعاً، إلى حراك غربي لشيطنة إيران، أكثر مما هي عليه، تحت مظلة حقوق الإنسان ووحشية قمع الملالي للشارع المحتج، بعد أن أيقظت العصي الإيرانية في عجلات المفاوضات النووية، والمسيّرات الإيرانية في أوكرانيا، ضمير "العالم الغربي الحر"، كما يوصف.
على فوهة البركان قد ترقد إيران في القادم القريب؛ إذ ثمة أحداث مثيرة تشهدها ساحتها الداخلية على إثر الاحتجاجات الشعبية الراهنة. فبالرغم من القمع الممارَس ضد المحتجين، إلا أنه أدنى مما هو مثبَت على النظام في طهران ووحشيته، وكان لافتاً في هذا السياق تصريح رئيس هيئة الأركان العامة المشتركة الإيرانية، محمد باقري، في 6 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والذي قال فيه إن "الأحداث الأخيرة أظهرت أن "قوى الأمن الداخلي (الشرطة)، قادرة عبر الحكمة والصبر والبصيرة والقدرة والكفاءة النابعة من المطالب الشعبية، على فرض النظام والانضباط والأمن والسلم المجتمعي".
ولم يتم الزج بالجيش في إيران، منذ أحداث كردستان عام 1979، التي أنقذته، بالإضافة إلى الحرب العراقية الإيرانية، من الحل، إذ بقي مبعداً عن معادلة النفوذ والتأثير في الساحة الداخلية الإيرانية لصالح تغوّل الحرس الثوري في مؤسسات السلطة كافة.
لم يتم الزج بالجيش في إيران، منذ أحداث كردستان عام 1979، التي أنقذته، بالإضافة إلى الحرب العراقية الإيرانية، من الحل
ولأوّل مرة أيضاً، تتم الدعوة إلى تدويل الوضع الإيراني، من خلال دعوة خطيب زاهدان وإمامها، مولوي عبد الحميد إسماعيل زهي، وهو إمام أهل السنّة، إلى استفتاء على الدستور تحت إشراف أممي، وبالرغم من التجاهل الغربي لهذه الدعوة، إلا أن المستقبل يبقى مفتوحاً على احتمالات ترسمها حرارة الشارع الإيراني وتفاعلات التيارات السياسية الإيرانية، وما بينهما من صراع أجنحة السلطة القابضة على المؤسسات المتعددة للحكم في إيران.
وتشهد الساحة السياسية الداخلية نقاشات وجدالات فكريةً وصل بعضها إلى الحديث عن ضرورة النظر في الدستور ومواده المقدسة، كالمادة 177، التي تنص على أنه "لا يجوز مطلقاً تعديل مضامين المواد المتعلقة بالطبيعة الإسلامية للنظام السياسي، وقيام كل القوانين والمقررات على أساس الموازين الإسلامية، والأسس الدينية، وأهداف جمهورية إيران الإسلامية، وطبيعة الحكم الديمقراطي، وولاية الأمر، وإمامة الأمة، وكذلك إدارة شؤون البلاد بالاعتماد على الاستفتاء العام، والدين الرسمي لإيران والمذهب الجعفري الاثني عشري، غير القابلة للتعديل"، والمادة 57 المكرسة لمبدأ ولاية الفقيه، وهو نقاش كان حتى الهمس به يُعدّ خطاً أحمر.
كما أطلق الهجوم على مرقد شاه جراغ (ملك النور)، في مدينة شيراز، عدداً من التساؤلات مرفقةً بإشارات التعجب، حول توقيته المتزامن مع الحراك الشعبي. فهل جاء العمل الإرهابي استغلالاً داعشياً لاضطرابات الشارع الإيراني؟ أم تم التغاضي عنه أو التخطيط له من قبل الأجهزة الأمنية الإيرانية المتعددة، ضمن مساعي النظام الإيراني إلى تحويل الشارع الإيراني عن مطالبه، مع شحنه مذهبياً وعاطفياً أيضاً؟
يعزز الاحتمال الأخير مسيرة التوظيف والتعاون المعهودة بين ملالي إيران وأئمة الجهاد العالمي. وفي حال صحة هذا الاحتمال، فإن المشهد الإيراني قد يتجاوز المشهدين السوري والعراقي في حال حصول انفجار في الداخل، نظراً إلى تعقيدات الجغرافيا والديمغرافيا الإيرانية، واستغلالها من قبل التنظيم الإرهابي بعد خروجه عن الطوق، فالمستخدم لهذا التنظيم، ولسواه من التنظيمات الجهادية، كالمستخدم لسيف بلا مقبض سيدمي كفيه ويبتر أصابعه لا محالة.
المشهد الإيراني قد يتجاوز المشهدين السوري والعراقي في حال حصول انفجار في الداخل، نظراً إلى تعقيدات الجغرافيا والديمغرافيا الإيرانية
يبقى الغريب في المواقف الدولية، مسارعة الموقف الأوروبي، بدوله واتحاده، نحو إدانة النظام الإيراني نتيجة قمعه للمحتجين، مع فرض حزم من العقوبات واحدة بعد الأخرى. وهو موقف يثير التساؤلات في ضوء المواقف الأوروبية التي بقيت حتى وقت قريب تتباين وتجهض أحياناً المواقف الأمريكية تجاه طهران، والموقف الأبرز على هذا الصعيد، تماشي الترويكا الأوروبية (بريطانية وفرنسا وألمانيا)، مع واشنطن، في الطلب من مجلس إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية تمرير قرار ضروري وعاجل يطلب من إيران تفسير آثار اليورانيوم التي عُثر عليها في ثلاثة مواقع غير معلنة، وهي إحدى العثرات الأخيرة أمام التوصل إلى اتفاق نووي حسب ما هو معلن. وهو طلب يمكن قراءته كخطوة استباقية لإعادة ملف إيران إلى مجلس الأمن الدولي من بوابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما تخشاه طهران بالرغم من وجود المدافعَيَن عنها (الصين وروسيا) في المحافل الدولية.
تشهد الساحة السياسية الداخلية نقاشات وجدالات فكريةً وصل بعضها إلى الحديث عن ضرورة النظر في الدستور ومواده المقدسة، كالمادة 177
تسارع المواقف الأوروبية يوحي وكأنها تحاول اللحاق بالموقف الأمريكي، وربما تخطّيه، وآخرها وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، للحراك الإيراني، بالثوري، وقبله لقاؤه مع معارضات لنظام الملالي من الناشطات في مجال حقوق الإنسان. فهل وصل اليأس الأوروبي من نظام الملالي حد اللا عودة؟
كذلك، تلعب المظاهرات المعارضة لنظام الملالي على الأراضي الغربية، التي تستفيد من مناخ الحرية التي توفرها هذه الدول، دوراً في تبصير وتأليب الشارع الغربي على النظام القروسطي، لا سيما في الانتفاضة الحالية التي فجّرها مقتل "الكردية" مهسا أميني، بعد اعتقالها من قبل "شرطة الأخلاق"، بدعوى عدم ارتداء الحجاب بالطريقة الصحيحة، ما يفتح الباب على الحقوق المهدورة للمرأة الإيرانية، وللأقليات العرقية والدينية في الجغرافيا الفارسية.
بعد القطيعة المكرسة بين التيارات السياسية الداخلية، وتباين آراء أجنحة السلطة في ما يخص مواجهة/ معالجة الحراك الشعبي، يكمن العامل الأخطر في المشهد الإيراني، في تعامي النظام عن العوامل الداخلية للحراك الشعبي، محملاً مسؤوليته لجهات خارجية، ومستخدماً لغة التهديد في الوقت ذاته، ما يدعو إلى التساؤل حول إمكانية لجوء الملالي في وقتٍ يضيق فيه الخناق عليه داخلياً، إلى افتعال حرب/ أزمة خارجية، بهدف لملمة الداخل الإيراني حوله.
يرى الكثير من المراقبين أن الثورة الخضراء عام 2009، كانت أخطر الاحتجاجات/الانتفاضات التي واجهها نظام الملالي في إيران، نظراً إلى اتساعها الديمغرافي، إلا أن الانتفاضة الحالية تبدو الأخطر على الإطلاق، بالنظر إلى اتساع الهوة بين النظام الإيراني وشارعه، مع تكاتف يتجاوز العوامل الإثنية والعرقية، وسرعة دخولها إلى الجامعات بما تحتويه من الطبقة الشابة والواعية في آن واحد، بالإضافة إلى تكتيكات مستحدثة لمواجهة عنف السلطة بوسائل بسيطة للدفاع المشروع عن النفس، مع دعم واضح وخجول لرجال البازار المؤثر في المشهد الإيراني.
الانتفاضة الحالية تبدو الأخطر على الإطلاق، بالنظر إلى اتساع الهوة بين النظام الإيراني وشارعه، مع تكاتف يتجاوز العوامل الإثنية والعرقية، وسرعة دخولها إلى الجامعات، والأهم كسرها لقدسية الولي الفقيه
يضاف إلى ذلك، تعدد وسائل التعبير، من الاحتجاجات إلى الإضراب إلى الهتافات الليلية من شرفات المنازل، إلى حملة إسقاط العمائم وغيرها، ويُسجَّل لهذه الاحتجاجات أنها كسرت المحظور في الداخل الإيراني، فهي استطاعت تخطّي الثورة الخضراء في عامل مهم سيكون له أثره في المستقبل، إذ إن التوجه المباشر إلى الهتاف ضد الولي الفقيه ووصفه بالديكتاتور والهتاف بموته، فضلاً عن حرق الصور والكتابة على الجدران، وكل ذلك معطوف على حرق منزل روح الله الخميني والذي تحول إلى متحف في مسقط رأسه في خمين، إشارة إلى الفارق الكبير الذي بدأ يرتسم بين ما يجري اليوم وما كان يجري إبان الثورة الخضراء.
يبقى أن الأخطر في كُل هذا المشهد، هو تفجّر الاحتجاجات في زمن انسداد الأفق الداخلي، بالإضافة إلى ترتيبات خلافة المرشد، وشبه انسداد في الأفق الخارجي، بعد تعثر وجمود مفاوضات التوافق النووي. ولكن الشعرة التي قصمت ظهر البعير، كما يقال، جاءت بتزويد إيران روسيا بالمسيّرات، ومن قبلها الشراكة الإستراتيجية مع الصين في زمن الاصطفاف العالمي ضد روسيا والصين معاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...