شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"ليتني كنتُ جدارَ زنزانتِك"... ثمّ وقعتُ في حبّ أحمد كايا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 16 نوفمبر 202207:10 م

كان أحمد كايا قد أنجز ما عليه؛ غنى جميع أغانيه، وتركيا قد فتحت له أحضانها لسنوات، ثم سخطت عليه، وأدارت وجهها عنه، ورمت نحوه الملاعق والشّوكات. كان قد هجر الوطن وأضحى ميتاً في باريس، وقد رقد في مقبرة "بير لاشيز" لسبعة عشر عاماً، حين عرفته ذات ليلة في منتصف الطريق بين "سَرعَين" و"أردَبيل"، في سيارة بيجو فرنسية متعبة. هناك أزهر اسمه أمامي، وجلس أصيصٌ ممتلئ به على رفّ ذاكرتي، وأحياناً على شفتيّ.

كان عرضٌ لفيلمي في مدينة أردبيل (شمال غربي إيران)، وسَرعَين مدينة تبعد عنها نحو 25 كيلومتر. في الظهيرة، قبل العرض، بينما كنتُ جالساً إلى جوار قبر الشيخ صفي الدين الأردبيلي، بعث لي أحدٌ رسالةً على إنستغرام: إن أتيتَ إلى سَرعين، ستكون ضيفي.

هذا فقط. بمنطق الغربيين الذين يتبنون مبدأَ الأقدار ومشيئةَ الطبيعة خلال رحلاتهم في شرق الهند ومثل هذه المناطق "الروحية"، قلت لنفسي: عند حضرةِ صوفيٍّ قديرٍ كهذا، دع "كيف" و"لماذا"، وردّدْ "قالوا بلى"، وقُل "نعم".

قلت "نعم".

في الليل، بعد أن انتهى عرض الفيلم، وبينما كانت تنخفض وتيرة الأسئلة والاستفسارات، مثل شخص مدعوّ لضيافةٍ فخمة معَدَّة من قبل في بيتِ صديقٍ قديم، كنتُ أنتظر على أحرّ من الجمر أن ينتهي كلّ شيء لأذهب نحو عيسى.

قضيت ليلةً مع أحمد كايا غارقاً ومفعماً، كما لو توضع إسفنجة ساخنة في طشت مليء بالمياه، إسفنجة لا ملاذ لها

كان موعدنا في مقهى شعبي. سرعين مليئة بالسّياح الذين يأتون إليها ليسترخوا في المياه الساخنة الطبيعية والمعدنية. لكن ذلك المقهى كان بشعاً بشكلٍ متعمّد، فلا يرغب أيٌّ من السيّاح بالقدوم إليه. إذاً كان قطعة حقيقية من سرعين.

وضعنا توطئاتِ الصداقة جانباً، ومثل فيلم نقدّم شريطَه كي نصل إلى حدثه الأهم، بدأنا الصداقة من منتصفها. وأقول هنا إننا عندما وصلنا إلى شباك الفندق عند منتصف الليل، كنا نختلف عن الليلة البارحة. مثل تلك المزحة القديمة التي تقول إن دبي وضعت لنفسها معالم أثرية، كان عيسى قد أصبح مَعلماً أثرياً خلال بضع ساعات.

بأيّ أدوات كنا نحفر لنصنعَ تلك الذكرياتِ المشتركة؟!

بِكُرة القدم وأحمد كايا. هكذا دون أي علاقة لشيء بشيء.

كان عيسى قد ترجم لتوّه كتاباً عن كرة القدم من منظور فلسفي. لم أنظر قبلَ ذلك لكُرةِ القدم وما يحدث في المسافة ما بين مرميين من تلك النافذة. ولم أتساءل من قبل إن كانت ضربة الجزاء أمراً أخلاقياً أم لا؛ ولماذا غير أرسين فينغر شكل صينية تقديم الأكل في المطعم من أجل شروع الحركة في آرسنال؟

كلّ ذلك وغيره كان يتحدث عنه عيسى من بين شفتين مغطاتين بدخان النّرجيلة. وتسمعه أذني من خلف ستارة من الدخان وكأن حدائق التّبغ كانت تشتعل بالنار.

وأحمد كايا...

كان الليل وكنا في طريق العودة من سرعين إلى أردبيل في دفء البيجو؛ طريق متجمد لم يكن سوانا يسير فيه.

فجأة في الصمت الشحيح بيننا، وجد قلبي فرصةً لأسمع الأغنيةَ التركية التي كانت تُبثّ في السيارة. لم أفهم معنى أيّ كلمة منها، لكنني أتذكر أن في لحظة ما منها، أدرت وجهي، وسألت بحماس: ماذا قال هنا يا عيسى؟

ليت الحياة تضع في طريقي مرة أخرى أو مرتين أو ثلاثاً مثلَ لحظات الوصل، والغشاءات الرقيقة تلك، والوله ذلك!

سألني: لماذا هنا؟

قلت: لا أعرف.

قال لي في ما بعد إن كونك غير عارف لماذا تلك الكلمات بالتحديد جعل اللحظةَ أثيريةً أكثر مما كانت. لأنها أغرب لحظات الأغنية.

قلت: قُل، قُلْ فقط.

وقال. وكان أحمد كايا يرافقنا في السيارة إلى فندق "نِگین" في أردبيل. بارداً وجليدياً كان الطريق، لكن عتمةَ بير لاشيز وغربتها كانت أغرب وأجمل.

قضيتُ ليلةً مع أحمد كايا غارقاً ومفعماً، كما لو توضع إسفنجة ساخنة في طشت مليء بالمياه، إسفنجة لا ملاذ لها.

قال يقول:

ليتني كنتُ جداراً في زنزانتِك

فربما كنت تتكئ عليّ

ليتني كنتُ قطرة دمٍ من هذا الجرح

أنسكب وأذهب سدىً

أضعف الأفكار والمشاعر كانت لتعقد أيديها المستسلمة خلف رؤوسها أمام تلك الأغنية من تلك الحنجرة.

كما فعلْت.

كما كانت عيناي محدقتين بالجليد وضوء السيارة الذي كان يمدّ أنبوباً في عتمة العالم، وبمثقاب الأغاني التي كانت تنزلق من فم عيسى، وتحمله السيارة الفرنسية.

كان من أهل ديار بكر، اسمه بختيار

ذنبه حسب ما أعرف كان الأداة الموسيقية في يديه

أنا أطلقوا سراحي سريعاً، ولكنه بقي

عرفت في ما بعد أنه نُفي إلى يوزغات

بدأوا معه صراعاً

و

منعوه من السماء الزرقاء.

جاء خبره في الجرائد

في ثلاثة سطور:

لحيته الطويلة وآلته الموسيقية المنكسرة

لم يتحدث إلى أحد، وكان يرتعش كما الصفصاف

حين كان يسقي النبتة التي يحبها كالأطفال.

عند منتصف الليل، كان موظف الاستقبال في فندق "نِگین" نائماً. كان عيسى جالساً خلف مقود السيارة، وكنت أطرق البابَ مرتجفاً من البرد، ولم يفتح أحد. أتذكر أنني كنت أرفع يدي إلى الأعلى، ولكنني أطرق بهدوء. كنت أدعو ألا يستيقظ موظفُ الاستقبال، أن أبقى خلف الباب، إلى أن يقول لي عيسى: اركبْ لنعود إلى سرعين.

وفجأة انفتح الباب. فجّاً، ودون أيّ شكل.

رفعتُ يدي مكرهاً ولوحت بها مودّعاً. ومدّ هو يده نحو ناقل الحركة في السيارة، ثم تحركت فرنسا الصغيرة. حملَتْ نفسها، وابتعدتْ. إشارة المرور في تقاطع الشارع تحولت إلى عدة إشارات على الأرض المبتلة. أدرتُ وجهي بِأسى، وكان أحمد كايا واقفاً هناك.

***

وُلد أحمد كايا في 28 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1957 في مدينة ملطية بتركيا، لأم تركية أصلها من مدينة أرضروم، وأبٍ كُردي من مدينة أديامان الواقعة جنوب تركيا. وكان أحمد هو الطفل الأصغر بين خمسة أبناء.

درس أحمد الابتدائية والمتوسّطة في ملطية حتّى عام 1972، ثم انتقلَ مع عائلته إلى مدينة إسطنبول إثر تقاعد والده من عمله. وعندها لم يستطع إكمال تعليمه الدراسي في المدارس، فقرّر التخرّج من المدرسة الثانوية الخارجية والالتحاق بمعهد التعليم ليدرس هناك في قسم الكمان، هو الذي عزَفَ وغنّى للمرة الأولى في حياته وهو في السادسة من العمر فقط، وكان ذلك بدعمٍ من والده الذي أعطاه آلة الباغلاما أو كما تُعرَف بـ"الساز"، وشجّعه على الغناء والعزف.

كتب أحمد قصيدته الأولى في سن الخامسة وكانت عن أخيه ياشار: "سأشتري سيارة فولكس، وسأسميها ياشار". 

غنّى أحمد كايا لأول مرّة على المنصّة وهو في عمر التاسعة، في إحدى الحفلات التي نظّمها عمالُ المصنع الذي كان والده يعمل به في مدينة ملطية، وبمناسبة يوم العمّال العالمي، وعزف على آلة الباغلاما هناك. 

عندما كان في السادسة عشرة، سُجنَ بسبب طباعته وتوزيعه ملصقاتٍ سياسية ممنوعة. وعندما خرج من السجن التحقَ مع أصدقائه باتحاد الوحدات الشعبية آنذاك، ومارَس معهم العديدَ من الأنشطة السياسية، كما كان يواصل كتابة الشعر خلال تلك السنوات وبعدها.


في عام 1985 تزوّج أحمد كايا من جولتين خيال أوغلو التي أصبحت تُعرَف في ما بعد بـجولتين كايا خيال أوغلو، ورُزِقا بابنتين، ميليس وتشكديم.

في العام نفسه، قرّر أن يصدر ألبوماً من أغانيه لأول مرة، إلا أنه لم يحصل على تمويل له، لأن موسيقاه لم تندرج في أيّ من الأطر الموسيقية المتداولة آنذاك في تركيا. فأصدره بمساعدة بعض من أصدقائه بعنوان "لا تبكِ يا صغير!". هذا الألبوم تمّ منعه في تركيا بسرعة، وسُحبت نسخه من الأسواق، فامتدّ الأمر إلى الصّحف إلى أن اضطرّت المحكمة إلى إصدار حكم بإلغاء منعه.

هذا الألبوم كان نقطة بداية لشعبية كايا في تركيا، واعتباره صوتَ المهمشين والفئات المضطهدة، ولا سيما الأكراد هناك.


من هنا أصبحت الموسيقى سلاحاً في يد أحمد كايا لنضاله ضد الظلم والاظطهاد في بلده، وقد تعرّض خلال حياته إلى كثير من الاعتقالات وإلغاء الحفلات والسجن.

أغاني أحمد كايا كانت من كلماته هو أو شعراء بارزين آخرين من أمثال ناظم حكمت وأورحان ولي.

ألبوماته أصبحت من الألبومات الأكثر مبيعاً في كلّ عام. وحطم ألبومه الرابع عشر وعنوانه "أغنيتي للجبال" الرقمَ القياسي للمبيعات الموسيقية في عام 1994، وأصبح الشريط الموسيقي الأكثر مبيعاً في القرن حيث تم بيع 1.5 مليون شريط منه.

بعد كلِّ ألبوم كان يتمّ استدعاؤه من جانب السلطات القضائية والأمنية، بنحو كان يقول كايا إن عنوانه الثاني بعد بيته هو دائرة الأمن القومي التركية. ولكن برغم كلّ هذه الضغوط واعتباره مطرباً معارضاً ومنتقداً من جانب السلطات التركية، أصدر كايا ما يزيد عن 30 ألبوماً في حياته. وقد كان لعدة سنوات يتصدر عناوين الصحف، ويحضر البرامج التلفزيونية، وحصل على عدة جوائز محلية وأجنبية إلى جانب الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها طوال حياته الموسيقية. 


في عام 1998 وقع حادث لكايا، حوّله من جديد إلى ساحة انتقادات وضغوط من السلطات ومعارضيه الوطنيين، كما أدى هذا الحادث إلى تحول كبير في حياته؛ في حفلِ إهداء الجوائز لأفضل الأعمال الموسيقية في تركيا، تمت دعوة كايا لاستلام جائزة أفضل أغنية في العام. وبعد حضوره على المنصة قال كايا: "غنيت أغنيةً كرديةً في ألبومي الجديد الذي سيصدر قريباً لأنني مطرب من أصول كردية. تركيا لديها مشكلة تسمّى (كردستان). لم أتراجع عن التحدث عن هذه القضية للذين ينكرون الحقيقة ولم أتعب من ذلك"، وبهذا أعلن كايا لأول مرة عن عزمه على الغناء بالكردية وانتمائه الكردي.


كانت هذه الكلمات بدايةَ جدل كبير وهجومٍ من الأتراك الوطنيين والمناهضين للأكراد، ضدّ كايا، فبعد كايا جاء دور "سَردار أرتاج" الذي صعد إلى المنصة لاستلام جائزة الفراشة الذهبية لأفضل مطرب في العام، ورداً على تصريحات كايا قام بالحديث دعماً لكمال آتاتورك، ثم أخذ في غناء الموسيقى العسكرية التركية. 

بعد هذا انقلبت أجواء القاعة بالكامل، وفجأة هاجم بعض المتواجدين في القاعة كايا صارخين بشعار "ارحلْ يا خائن". كان كايا وحيداً هناك، دون أي صديق أو مناصر سوى زوجته والحرية. تدخلت الشرطة وأنقذت كايا من المهاجمين، فعاد جريحاً وحزيناً وغاضباً إلى بيته.

وفي اليوم التالي لهذه الحادثة، نشرت الصحف عناوين مختلفة ضد كايا، ولعبت صحيفة "حريّت" بعنوانها "ويل لك يا عديم الشرف"، دوراً مهماً في خلق أجواء معادية لكايا. تم استدعاء كايا بعد هذا الحادث لعدة مرات من جانب محكمة الأمن القومي التركية بتهمة العنصرية والعمل ضد الأمن القومي.

حضر كايا في نيسان/أبريل 1999 في المحكمة، ووُجِّهت له اتهاماتٌ منها: إقامة حفل موسيقي في برلين عام 1993 دعماً لحزب العمال الكردستاني (ب ك ك)، إطلاق أغنية كردية، ورفع اليدين لإظهار علامة النصر في الحفلات. 

بعد كل ألبوم كان يتم استدعاؤه من جانب السلطات القضائية والأمنية، فكان يقول كايا إن عنوانه الثاني بعد بيته هو منظمة الأمن القومي التركية

كانت دفاعياته في جلسات المحاكمة تثير جدلاً وردودَ فعل واسعةً في كل مرة. يقول كايا في إحدى هذه الجلسات التي ينفي فيها كلَّ الاتهامات ومنها خيانة البلد، ودعم حزب "ب ك ك"، ويدافع عن أعماله ونشاطه ومواقفه، وينتقد سياسات السلطات تجاه الفن والفنانين: "أنا شخص يقاتل من أجل شعبه... أنا واقف على نصلِ السكين". 

في 16 حزيران/يونيو 1999 وبعد إحدى جلسات المحاكمة التي رُفعت لتستمر لاحقاً تحدث كايا عن نيته في "مغادرة البلد الذي يعتبره خائناً". سافر كايا إلى فرنسا لإقامة جولة موسيقية أوروبية، وبقي هناك حتى موعد جلسة محاكمته، بل حتى نهاية حياته. في غيابه، حُكم عليه في المحكمة بالسجن لمدة 10 سنوات.

في حادثة وفاة غامضة، في 16 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2000 تمّ العثور على جسده ميتاً في أحد فنادق باريس، وأُعلَن أن سبب وفاته هو نوبة قلبية. دُفن في مقبرة بير لاشيز في باريس، التي تحتضن الكثير من أعلام الفن والسياسة. وقد تحدثت السلطات التركية في السنوات الماضية عن نقل جثمانه إلى تركيا، لكنه لم يحدث ذلك حتى اليوم.


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

الإعلام بوق السلطة

تهدف وسائل الإعلام المُحتَكرة من قبل الأحزاب السّياسيّة والميليشيات إلى مصادرة الإرادة الشعبيّة، والتعتيم على الحقوق، والاعتداء على الحريات، ونشر الفتنة وبثّ خطاب الكراهيّة.

حتى لا يكون اللاجئون/ ات، وأصحاب الهمم، والأقليات الدينية، ومجتمع الميم-عين وغيرهم/ نّ من مهمّشي المجتمع كبش فداء، ساهم/ ي معنا في إنتاج صحافةٍ أكثر استقلاليةً.

Website by WhiteBeard