احتاج مرقص ساويرس (54 سنةً) إلى سنوات طويلة ليتأقلم مع عبارة "ابن أبونا" التي لطالما سمعها في الشارع والمدرسة والأماكن الأخرى التي يلتقطه فيها رادار معارف وأقارب والده القمص ساويرس، كاهن كنيسة الملاك ميخائيل للأقباط الأرثوذكس الواقعة في حي الظاهر في وسط القاهرة.
فأن يكون المرء ابن رجل دين، وفقاً لتجربة مرقص، يعني البقاء في دائرة النقد باستمرار. يوضح رأيه لرصيف22 بقوله: "يحق للآخرين ما لا يحق له، فهو لا يستطيع أن يطيل شعر رأسه، أو يرتدي ثياباً وفقاً لما هو رائج، لأن هنالك دوماً مَن سيقول له: "معقولة؟ ابن ‘أبونا’ يفعل ذلك؟".
يُفرج مرقص عن ابتسامة عريضة، ويضيف: "والدي كاهن منذ 60 عاماً، وأصبح قمصاً، وهي رتبة أعلى من القس، قبل سنوات. يتبنى الأفكار القديمة، فهو لا يجلس في مطاعم أو على شاطئ البحر ولا يتنزّه، وبدلاً من ذلك يكتفي بالجلوس على شرفة الشقة وتأمّل العالم من هناك".
القمص ساويرس مع أفراد عائلته.
لذلك، عاش مرقص خلال فترة طفولته، وجزءاً من شبابه، محروماً من تلك الأماكن، وبالأخص السينما التي كان دخوله إليها حلماً بالنسبة إليه. لكن أكثر ما يؤلمه من ذكريات طفولته وشبابه أن والده رافقه فقط في اليوم الأول لالتحاقه بالمدرسة، ولم يزره بعدها مطلقاً إلا مرةً واحدةً في الصف الأول الثانوي.
شعوره القديم بالحرمان دفعه إلى القيام بواجبات مضاعفة تجاه أبنائه، حتى أنه أصبح رئيس مجلس أمناء مدرسة أحدهم. تكتسي ملامح وجهه بالحمرة، وهو يقول: "أريد تعويض كل ما ينقصني في أبنائي".
ويلفت مرقص إلى أن القيود الاجتماعية المفروضة على أبناء القساوسة، تدفع بعضاً منهم للتمرد، وإعلان ذلك من خلال تصرفات معيّنة، كالتدخين في سن المراهقة على سبيل المثال. ويتابع: "أعرف ما يدور في رؤوسهم. كنت مثلهم"، ويتابع: "أريد أن أكون شخصاً طبيعياً يلهو ويتشاجر، ويعيش مراهقةً لا تخلو من الأخطاء والسهر والمزاح".
يضرب بهدوءٍ كفّاً بكفّ، ويعود للقول: "تمنيت مثلهم أن يشاركني أبي حياتي بشكل طبيعي مثل أقراني الآخرين، وأن يتفقدني في المدرسة، من دون أن أخجل من مظهره الغريب، وهو بجلباب أسود فضفاض ولحية طويلة، في مقابل آباء زملائي مهندَمي المظهر، وأن يشاركني جلسات القهوة لمشاهدة مباريات كرة القدم، وسهرات السينما، ويلعب معي الكرة الطائرة على شاطئ البحر".
يفكر قليلاً ثم يتابع بعد نوبة ضحك: "خلاصة تجربتي كابنٍ لرجل دين تشبه قصة جحا والحمار، حين فشل في إرضاء الناس. فإنْ ارتديتُ ملابس طبقاً للموضة، أجد مَن ينتقدني لذلك، فكيف لابن كاهن أن يتبع الموضة؟ وإذا تجاهلت الموضة، ينتقدني آخرون ويصفونني بالمعقّد".
ولتجنّب تلك الانتقادات، حرص بإشراف مباشر من والده على انتقاء ثياب ملائمة لكل مناسبة، وتجنّب بعض الألوان الصارخة، ولم يستغلّ قط سلطة والده الروحية في الكنيسة، "لكيلا أصبح مكروهاً من الآخرين، وفقاً لرؤية والدي"، يقول مرقص ممتدحاً والده على ذلك.
القمص ساويرس ويبدو ابنه مرقص على يمين الصورة.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، كانت له مساحة حرية كافية جعلته يختار طريقاً حياتياً غير الذي اختاره والده لنفسه، إذ اتجه إلى العمل العام كمحامٍ وسياسي، مع أن الكهنوت عُرض عليه، وذلك لقناعته بأنه غير مناسب للسلك الديني، كونه شخصاً عصبياً وسريع الغضب، يقول مرقص بنبرة خفيضة واصفاً نفسه.
حياة مسخّرة للآخرين
كاهن كنيسة العذراء للأقباط الأرثوذكس في مسطرد القمص شاروبيم ميلاد يقرّ بأن وظيفته كرجل دين أثّرت بنحو كبير على بناته. يقول لرصيف22: "يجتمع الناس في منازلهم يوم الجمعة، لكن أنا منشغل طوال ذلك اليوم، وفي بقية الأيام تكون البنات منشغلات بالدراسة، وقد لا نجد سوى نصف ساعة فقط لنطمئن فيها على بعضنا".
وحتى الرحلات التي يقومون بها معاً، خلال الإجازات، تكون مع الكنيسة وعادةً لزيارة كنائس وأديرة. أما خارج نطاق الكنيسة، فيقوم بإيصال زوجته وبناته إلى وجهاتهم، ويعود ليصحبهم لاحقاً إلى المنزل، مع إمكانية قضاء يوم معهم قبل ذلك. ويحظر خلالها الذهاب إلى السينما أو مشاهدة المباريات.
"أن يكون المرء ابن رجل دين يعني البقاء في دائرة النقد باستمرار. يحق للآخرين ما لا يحق له، فهو لا يستطيع أن يطيل شعر رأسه، أو يرتدي ثياباً وفقاً لما هو رائج، لأن هنالك دوماً مَن سيقول له: "معقولة؟ ابن ‘أبونا’ يفعل ذلك؟"
في ما عدا ذلك، ينخرط الكاهن في مهامه التي تتعلق في الغالب بآخرين غير أفراد أسرته، ويقول مشيراً إلى هاتفه الجوال: "تردني رسائل منهم عبر الهاتف يعبّرون لي خلالها عن شوقهم". يصمت برهةً ويتابع حديثه عن رسالة من إحدى بناته أثّرت فيه كثيراً: "مرّت ثلاثة أيام لم نرَكَ فيها. امنحنا بعض الوقت، أنت أبي الوحيد، وفي الكنيسة كهنة آخرون، هل يمكن أن تأتي إلى المنزل لكي نراك؟".
الشيء الآخر الذي يؤرقه هو ما يبدر من الناس تجاه أفراد أسرته بسبب كونه رجل دين، فهو يرى أن الكثيرين لا يتوقفون عن مراقبة مظهر وتصرفات بناته وزوجته، ويحفظ في ذاكرته موقفاً يراه بالغ الصعوبة، يوم عاتبته سيدة في الكنيسة بقولها: "يا أبانا، رأيت ابنتك وهي تضحك في الشارع".
ويتساءل في حيرة: "هل الضحكة ممنوعة على ابنة الكاهن؟". يعتقد القمص شاروبيم، أن مثل هذه الانتقادات تؤثر على الأبناء وتجعلهم يكرهون ما يقوم به الآباء، ويدعو المدرّسين وزملاء الدراسة والعمل إلى عدم معاملة بناته وأبناء رجال الدين الآخرين على أنهم "أبناء ‘أبونا’"، بل "كتلاميذ ورفاق وزملاء وأصدقاء، لكيلا يتأثروا نفسياً".
يُعَدّ رجل الدين المسيحي مرجعاً ورمزاً ومثلاً أعلى بالنسبة إلى أتباعه، ويقع على عاتقه التواجد في الكنيسة خلال القداسات التي تقام ثلاث مرات على الأقل أسبوعياً، وتسبقها سهرة "العشية"، وكذلك خدمة مدارس الأحد (فصول دينية مجانية في الكنيسة تقام طوال نهار الجمعة)، واستقبال اعترافات المصلّين (يعترف الشخص بذنوبه ويصلّي له الكاهن ويقدّم له النصيحة لتجنّب تكرارها).
هذا فضلاً عن التواجد في الصلوات الطارئة كالجنازات، والمهام الخارجية التي توكل إليه، كحل المشاكل الأسرية وغيرها. فوفقاً لاعتقاد الفرد المسيحي، رجل الدين يمتلك حلولاً لكافة مشاكله واختياراته الحياتية من دراسة وسكن وعمل وشريك الحياة. وهكذا يصبح يوم الكاهن بالكامل ملكاً للناس، ويشعر أفراد أسرته على الدوام بأن أباهم ملكية عامة.
والجهود التي يبذلها ليكون أهلاً لتلك المكانة تنسحب على أفراد أسرته كذلك، فالزوجة عادةً ما تكون متطوعةً لتعليم الدين في الكنيسة وكذلك يفعل أبناؤه، وفوق ذلك عليهم أن يكونوا حذرين دائماً، لأن هنالك صورةً مثاليةً مأخوذةً عنهم في الذهن الجمعي، ويمكن لأي تصرف يبدر منهم أن يخدشها حتى وإنْ كان طبيعياً.
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال بشأن زواج رجال الدين المسيحيين، فالاعتقاد السائد لدى البعض أنه لا يحق لهم ذلك، لكن هذا غير صحيح، فالرهبان فقط مَن يفعلون ذلك، وبالنسبة إلى البقية فإن الزواج يُعدّ شرطاً أساسياً للرسامة، ويعيشون مع أسرهم بالقرب من الكنيسة التي يقيمون فيها الصلوات. وهم يجمعون على أن الزواج وتجربة حياة الأسرة ضرورية بالنسبة إليهم، لكي يستطيعوا أن يقدّموا الإرشاد الصحيح للناس، ولا سيما النساء خلال جلسات الاعتراف.
"خلاصة تجربتي كابنٍ لرجل دين تشبه قصة جحا والحمار، حين فشل في إرضاء الناس. فإنْ ارتديتُ ملابس طبقاً للموضة، أجد مَن ينتقدني لذلك، فكيف لابن كاهن أن يتبع الموضة؟ وإذا تجاهلت الموضة، ينتقدني آخرون ويصفونني بالمعقّد"
بموجب آخر إحصاء رسمي لجهاز التعبئة العامة والإحصاء، أجري عام 2012، بلغت أعداد المسيحيين في مصر نحو 5.1 مليون نسمة، إلا أن ذلك الإحصاء أثار حفيظة الكنيسة المصرية وقتها، لأنها قدّرت عدد المنتمين إليها بما بين 15 إلى 18 مليون نسمة، من أصل 82 مليون نسمة، العدد الكلي للمصريين حينذاك.
أما التقديرات غير الرسمية لعام 2022، فتشير إلى أن عدد المسيحيين يقترب من 20 مليوناً يعيشون في مصر، بالإضافة إلى مليونين آخرين يعيشون خارجها، والعدد الكلي للمصريين بموجب هذه التقديرات يبلغ 104 ملايين نسمة.
وتوجد في مصر نحو 1،330 كنيسة تابعة للطائفة الأرثوذكسية، و1،100 للبروتستانتية، و200 للكاثوليكية، أي أن مجمل الكنائس المصرية يبلغ 2،630 كنيسةً. وبعد تشكيل لجنة لتوفيق أوضاع الكنائس بقرار من مجلس الوزراء في العام 2017، وصل عدد الكنائس التي تم توفيق أوضاعها منذ بداية عمل اللجنة حتى الآن، 1،882 كنيسةً ومبنى إدارياً وخدمياً، بحسب عضو في اللجنة.
وكما يحب المسلمون السكن بجوار المساجد والجوامع، يفضّل الكثير من المسيحيين السكن حول الكنائس، كما هو الحال في بعض الأحياء والمناطق، مثل شبرا والظاهر. ومن خلال استفسار وجّهناه إلى عدد من الموظفين في إدارات عدد من المحافظات المصرية، تبيّن عدم وجود مدن مسيحية أو مسلمة بالكامل، لكنهم أشاروا إلى وجود مناطق محددة ذات أغلبية مسلمة أو مسيحية، كالقرى.
وتُعدّ الطائفة الأرثوذكسية الأكبر بين الطوائف المسيحية في مصر، إذ تتراوح نسبة المنتمين إليها بما بين 85 و90% من المسيحيين.
كثيرون لا يتوقفون عن مراقبة مظهر وتصرفات بنات رجل الدين وزوجته. يحفظ الأبونا في ذاكرته موقفاً يراه بالغ الصعوبة، يوم عاتبته سيدة في الكنيسة بقولها: "يا أبانا، رأيت ابنتك وهي تضحك في الشارع"، ويتساءل: "هل الضحكة ممنوعة على ابنة الكاهن؟"
ويتركز نشاط الأقباط الأرثوذكس العام على إنشاء المستوصفات الطبية ودور الأيتام والمسنّين وما شابهها. بينما تحرص الطائفتان البروتستانتية والكاثوليكية، سواء من الأقباط أو من جاليات أجنبية، على تنظيم أنشطة اجتماعية مختلفة، ولديهما مدارس راهبات يحرص المسيحيون على إلحاق أبنائهم بها إذا كانت إمكاناتهم المادية تسمح لهم بذلك، بسبب "الخدمة التعليمية والتربوية المنتظمة والمنضبطة التي تقدّمها"، فضلاً عن "ضمان وجود الأبناء في بيئة بعيدة قدر الإمكان عن الاضطهاد الديني الذي قد يصطدم به الصغار، وبالأخص أبناء القساوسة، الذين تغيرت أسماؤهم الثانية، وأُلحقت بها ألقاب كالقس أو القمص وهو ما يجعل الخوف من الاضطهاد مضاعفاً"، وفقاً لما كرره أولياء أمور تحدثنا معهم.
واستخدم العديد ممن حاورناهم في هذا التقرير مفردة "اضطهاد"، على أنها تصرف أو كلام يصدر عن الآخر مستهدفاً المعتقد الديني.
للكنيسة آباء كثر ولي واحد فقط!
مريم (23 سنةً)، طالبة في المرحلة الخامسة، في كلية الصيدلة، وهي ابنة للقمص دانيال. برأيها، لا بأس أن يكون والدها منشغلاً في خدمة الناس، ما دام يولي اهتماماً موازياً بعائلته.
تقول لرصيف22: "للكنيسة قساوسة آخرون لكننا لا نملك سوى أب واحد، وهو يردد هذا دائماً ليذكّرنا ويذكّر نفسه بالأمر".
بخلاف مرقص، لم تتعرض مريم لأي مضايقات خلال فترة طفولتها بسبب عمل والدها ككاهن، وذلك لأن مدرستيها الابتدائية والإعدادية كانتا تابعتين للراهبات في محافظة سوهاج، جنوب مصر. لكن معاناتها بدأت في المرحلة الثانوية، لأن بعضاً من المعلمين كانوا مسلمين، وتتحدث عن شيء من الاضطهاد طالها في تلك الفترة.
وتذكر بفخر: "والدي علّمني ألا أخاف، وأن أدافع عن حقي. لذا كنت أتصدى لأي مضايقة بنفسي، وإذا تطور الأمر، كان أبي يزور المدرسة ويطلب مناقشة المعلم الذي اضطهدني لتنتهي المشكلة بودّ وحب".
ترى مريم أن والدها كان موجوداً معها على الدوام، لكونه يضع عائلته في المقام الأول. وتروي كيف أنه كان يحضر خلال دقائق إلى المدرسة الثانوية، إذا دعت الحاجة، ولا سيما خلال فترة الامتحانات، فيطمئنها ويشد من عزيمتها.
القمص دانيال مع أبنائه وأصدقائهم في إحدى الرحلات.
وحين التحقت بالجامعة في القاهرة، "كان يردّ على اتصالاتي، حتى في أثناء القداسات. يترك الصلاة ويحدّثني. لم أشعر في يوم بأنني محاصرة بالانتقادات لأنني ابنة كاهن فأنا مؤمنة بأنني بنت الرب ولست بنت كاهن".
وفقاً لذلك، نشأت مريم معتمدةً على ذوق والدها في قراراتها، كاختيار ملابسها، وكان ينتقي لها ما يتوافق مع السائد بشرط أن يكون متوافقاً مع ما تصفه بـ"الاحتشام". ما كان يقلقها فقط هو حين كان يرافقها إلى محال الألبسة أو حين يستقلان المواصلات العامة، أن يتعرض هو للمضايقة بسبب هيئته.
والد مريم، القمص دانيال داوود، كاهن كنيسة القديسَيْن مار مرقص ومار جرجس للأقباط الأرثوذكس، في دير النغاميش في سوهاج في صعيد مصر، يتحدث لرصيف22 بنبرة هادئة عن كيفية موازنته بين واجباته كرجل دين وبين عائلته: "أي مهنة قد تجعل الشخص مقصراً تجاه أسرته، والكاهن كأي شخص قد يجانبه الصواب، وأفراد أسرته بشر ولديهم احتياجاتهم، لكنني شخص منظم أوازن بين الخدمة في الكنيسة وأسرتي".
يردد العبارة الأخيرة ويضيف بعد تأمل: "أي تقصير مني تجاه أفراد أسرتي سيؤثر عليهم، لأنهم بالفعل ليس لديهم غيري، بينما للكنيسة قساوسة آخرون".
"كانت الأنظار مسلطةً على أبي وكأنه مخلوق فضائي هبط إلى المكان، ويظل تحت المتابعة... كانت تصرفات تلقائيةً ولكنها مزعجة"
وعن كيفية اختياره لشريكة حياته، يقول: "حرصت على أن تكون زوجتي حاصلةً على مؤهل علمي عالٍ وتجيد متابعة دروس الأبناء، وأيضاً أن تكون قادرةً على الانخراط في أي عمل في حال لم يكن دخلي كافياً أو في حال وفاتي، وتكون خادمةً في الكنيسة، أي أن يكون عملي مقبولاً لديها وهكذا سيكون الأبناء محبين للعبادة، لهذا حين تم ترشيحي للكهنوت كانت هي والأبناء مهيئين تماماً".
وعما يعنيه بـ"مهيئين" يوضح القمص دانيال: "بيت الكاهن يشبه بيت الأمة، فنحن في حالة طوارئ دائمة، نستقبل الأزواج الداخلين في خلافات الذين قد يأتون في أي وقت، وقد نستقبل أناساً أغراباً لا يجدون سكناً، وغيرهما من الأمور التي تشكل عبئاً على العائلة".
ورغم أنه رجل دين، لم يمنع ذلك القمص دانيال من مرافقة أسرته والقيام معهم برحلة سنوية ترفيهية، فيذهبون إلى القاهرة أو الإسكندرية ويستأجرون "شاليه" تابعاً لإحدى الكنائس، ويمارسون السباحة في البرك العامة ويلعبون كرة القدم ولا يعترض على مشاهدتهم للمباريات في المقاهي، ويشاركهم اللعب في مدن الملاهي ويصحبهم للعشاء في مطاعم راقية ليجنّبهم أية مضايقات (من دون أن يحدد ماهيتها).
يتوقف برهةً عن الكلام، كأنه تذكر شيئاً للتو، ثم يواصل: "نفعل كل هذه الأشياء باستثناء الذهاب إلى السينما، ولا بأس، فهنالك بدائل".
وعلى الرغم من أنه يعتقد بأن مهنته تجعله محترماً لدى الناس، بالإضافة إلى الميزة الروحية، إلا أن القمص دانيال لن يفرض على أبنائه الكهنوت، كما لن يفرض أزواجاً على بناته، ويقول بجدية تامة: "سأترك لهم حرية الاختيار، ولن أتدخل في قراراتهم المصيرية".
قس بدرجة سوبرمان
عقدة "ابن أبونا"، قد يتسبب رجل الدين نفسه في تشكّلها، من خلال إبقاء وجهته الحياتية نحو الكنيسة، وعدم إيلاء الاهتمام بأفراد أسرته، وهذه قناعة راسخة لدى إبرآم (53 سنةً)، رجل أعمال، والابن الأصغر للقمص الراحل يوسف أسعد، كاهن كنيسة العذراء للأقباط الأرثوذكس، في العمرانية في محافظة الجيزة.
يعدّ نفسه وأشقاؤه محظوظين لأن والدهم لم يحرمهم من الموسيقى، بل سمح بها في الكنيسة أيضاً، وحدث أن رافقهم لمشاهدة أحد الأفلام في السينما.
يقول لرصيف22: "حتى شغب الأطفال، لم يحرمنا منه، وكنا نثير الكثير من ذلك ونحن في الكنيسة، وذات مرة أوشى أحدهم بي لديه وأخبره بأنه سمعني وأنا أطلق الشتائم في المدرسة، فلم يعاتبني وتعامل مع الأمر على أنه مجرد مزاح".
يشير إبرآم بذلك إلى الانفتاح الذي كان عليه والده القمص الذي لم يكن يرغم أفراد العائلة على الصوم، ولا يوقظهم صباحاً للقداسات إلا إذا طلبوا هم ذلك ويصحبهم إلى المدرسة بسيارته.
ولم يسمع أي شكوى من والدته حيال انشغال أبيه بواجباته الدينية، بل كانت تخفف عن كاهله بعض المسؤوليات، "كمتابعة شؤون البيت ودروسنا أنا وشقيقي الأكبر، ويكفي أنها تحملت أن يظل بيتنا مفتوحاً كأنه امتداد للكنيسة، وتحول إلى ساحة قضاء لفض النزاعات وإبرام الصلح بين الناس، ومستشفى لاستقبال المرضى".
يهز إبرآم رأسه يميناً ويساراً وهو يقول: "كلما أتذكر المتاعب والمعاناة التي كان يتكبدها في سبيل خدمة الناس والعبادة، أشعر بأن مكانته أعلى منّي. كان أقوى بكثير، لقد كان سوبرمان، لذلك لم أفكر قط في أن أكون كاهناً، بخلاف كثير من أبناء القساوسة الذين سلكوا طرق آبائهم في الكهنوت أو الرهبنة".
صدمة الجلباب واللحية
الانتقال المظهري الأكبر من الثياب الراقية إلى مجرد جلباب أسود واسع، وإطلاق الشارب واللحية، شكلت صدمةً لأبناء القس يونان سمير، كاهن كنيسة مار مرقص في المعادي، الذين كانوا وقتها في المرحلة الابتدائية.
يقول القس لرصيف22، إنه تفهّم ذلك، فقد تطلب الأمر أن يعتاد هو نفسه على مظهره الجديد حينها، لكن ما ضايقه حدث لاحقاً، بسبب تعليقات زملاء أبنائه في المدرسة، فأي تصرف سلبي أو إيجابي يقدمون عليه، كان يتحول إلى لوم "لأنكِ/ لأنكَ بنت/ ابن ‘أبونا’".
القس يونان وأسرته.
وأكثر ما آلمه أن شخصاً من الكنيسة انتقد ما ترتديه زوجته واصفاً إياه بغير اللائق بزوجة كاهن: "مع أنني أوقفته عند حده، لكن الموقف كان مؤلماً بالنسبة إليّ، فلو كنت شخصاً عادياً لما تجرّأ أحد على انتقاد زوجتي على ذلك النحو"، يقول بحدّة.
في الفترة الأولى من الكهنوت، لم يكن القس يونان يشارك أسرته في بعض من الأمور الحياتية كالتسوق، لكن بمرور الأيام أخذ يشاركهم ويشتري هدايا لزوجته حتى من دون مناسبة.
وفي بعض الأحيان، كان يغلق هاتفه ويأخذ أسرته في سفرات، بعيداً عن الكنائس والأديرة، ليمنح حياته مع زوجته وأبنائه "شيئاً من التجديد"، وفقاً لتعبيره، وكان يأخذهم للسهر وتناول الطعام في المطاعم، لكنه لم يكن يجلس في المقاهي أو يذهب إلى السينما، لا قبل الكهنوت ولا بعده، إلا أنه لم يمنع الأسرة من مشاهدة الأفلام، "بشرط أن تكون هادفةً".
وهكذا، فإن مشكلة القس يونان، ليست مع أفراد أسرته، بل مع الناس الذين قال إنهم "لا يرون الكاهن بشراً مثلهم ويندهشون من سفره أو تنزهه مع أسرته، وأيضاً من ذهابه إلى النادي أو صالة الرياضة".
وهو الآخر يجد أن حياة رجل الدين مليئة بالمتاعب والأعباء التي تتحملها معه أسرته، لذلك لم يوجههم نحو الكهنوت ولا يعتقد أن ذلك داخل في خططهم، ويختم: "الكهنوت قرار أسري لذلك عندما عُرض عليّ، جلست مع زوجتي وأبنائي وطرحت عليهم الفكرة وكانت زوجتي تدعمني وتشجعني".
ابنه الأصغر يوسف (25 سنةً)، يرفض أن يكون مثله، ويعتقد أن الحياة العلمانية هي الأقرب إليه والأنسب له. وهذه لم تكن قناعته خلال فترة الطفولة، إذ كان والده مثلاً أعلى له والكهنوت هدفه، وما جعله يحيد عن ذلك تماماً هو رؤيته اللاحقة لوالده الذي يصفه بأنه "مضغوط ومهموم على الدوام بمشاكل الناس، لكونه عاطفياً وسريع التأثر".
ويذكر لرصيف22 أنه لم يشعر بالحرمان بالمعنى الحرفي لكون والده رجل دين، فقد كان يمارس شؤون الحياة العادية معهم من تسوق وتنزه والذهاب إلى المطاعم والسينما ويرتدي ملابس الرياضية ويرتاد المسابح.
القس يونان وأسرته.
لكن الناس كانوا يتعاملون باستغراب مع كل ذلك. يقول: "كنت أرى الاندهاش على الوجوه، فالآخرون يعتقدون بأن رجل الدين ليس شخصاً عادياً، ولا يحق له القيام بما يقوم به أي شخص طبيعي".
وكما غيره من أبناء رجال الدين، "أي تصرف يبدر منّي كان يواجَه بعبارة حفظتها عن ظهر قلب، كيف لـ‘ابن أبونا’ أن يفعل هذا؟"، يقول متذكّراً مرحلة الدراسة الابتدائية في مدرسة الراهبات.
وبعد سنوات من ذلك، كان يرصد علامات الدهشة في ملامح مَن يصادفونه هو ووالده في النادي، ويقول عن ذلك: "كانت الأنظار مسلطةً عليه وكأنه مخلوق فضائي هبط إلى المكان، ويظل تحت المتابعة". يفكر قليلاً قبل أن يواصل: "كانت تصرفات تلقائيةً ولكنها مزعجة".
تتفق معه شقيقته الكبرى يوستينا (27 سنةً)، وهي طبيبة جراحة عامة. لا تريد الاقتران بشخص مرشح للكهنوت. ووفقاً لما ذكرته لرصيف22، تريد أن تحيا في كنف أسرة عادية. وتستدرك: "هذا لا يعني أن هنالك أي تقصير من جانب والدي، كل ما في الأمر أنني أشفق عليه من تحمله لمشاكل الكثير من العائلات".
أصبح والدها كاهناً حين كانت في الصف الخامس الابتدائي، غير أنها لم تعانِ بسبب ذلك إلا في مرحلة المراهقة، إذ كانت تواجه لدى قيامها بأي أمر تعليق: "أنتِ ابنة ‘أبونا’، ويجب ألا تفعلي هذا"، ودفعها ذلك حسب ما تقول إلى التمرد، فرفضت الظهور مع والدها في الأماكن العامة أو أمام زملائها غير المسيحيين، خوفاً من التنمر عليها بسبب مظهره، أو طرح أسئلة عليها لم ترد الإجابة عنها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه