"أنا متزوجة منذ أربعين عاماً. زوجي كان يعمل قبل تقاعده، في مؤسسة الإسكان العسكري في حلب. لدي أربعة أبناء متقاربين في السن. عندما كانوا أصغر سنّاً من الآن، كانوا جميعاً يتلقّون تعليمهم. منهم من كان في الجامعة، ومنهم من كان في الثانوية والإعدادية، وراتب زوجي كموظف بالكاد كان يكفينا ثمن طعام وشراب وإيجار للمنزل وسواه من طبابة وغيرها. أذكر جيداً قبل أن ألجأ إلى الاشتراك بالجمعيات كيف كنا كل عام، مع نهاية العطلة الصيفية واقتراب عودة الأولاد إلى مدارسهم، واقتراب موسم المؤونة، ندخل في متاهة تأمين الكتب والملابس وغيرها".
تروي فدوى قرقوز (60 عاماً)، وهي من سكان حي الفرقان في مدينة حلب، لرصيف22، وتقول: "كان الأمر يولّد ضغطاً كبيراً على زوجي. وما كان يزيد الطين بلّةً أننا وكمعظم الأسر السورية نقوم كل عام بعمل مؤونة من الأطعمة القابلة للتخزين لاستهلاكها في فصل الشتاء، وغالباً يأتي موسم تجهيز هذه المؤونة في الشهرين الثامن والتاسع من كل عام، وهو وقت يترافق مع عودة الأولاد إلى مقاعد الدراسة، ما يجبرنا على الاستدانة من الأقارب أو الأصدقاء، وندخل في دوامة تستمر شهوراً حتى نقوم بسداد المبلغ".
تذكر المرأة الستينية كيف في بداية عام 1995، أخبرتها جارتها أم فواز بأنها وقريبتها قامتا بتأسيس جمعية بمبلغ 12 ألف ليرة سورية، مكوّنة من 12 عضواً، وسألتها إذا كانت ترغب في الانضمام إليهن. وفعلاً اشتركت قرقوز معهم بعد إبلاغ زوجها بالأمر، وتقول: "أصبحت في مطلع كل شهر، أسدد المبلغ المترتب عليّ، وهو 1،000 ليرة سورية، وعندما يحين دوري لاستلام الجمعية أجد لدي مبلغاً محترماً كان يكفي لسداد الديون وبعض اللوازم، ومنذ العام 1995، وحتى عام 2010، وأنا أشترك وأنظّم حياتنا بناءً على هذه الجمعيات".
تغيب في سوريا ثقافة التعامل مع المؤسسات المالية وخصوصاً المصارف وتحديداً أبناء الأرياف، بالإضافة إلى الوازع الديني
بعد بدء الحرب في سوريا عام 2011، نزح الكثير من جيران قرقوز إلى مناطق أخرى، ومنهم من هاجر البلد بأسره، فباتت تنظيم الجمعية صعباً، وإذا وُجدت، الاشتراك فيها صعب أيضاً، إذ تشير إلى "صعوبة جمع المبلغ المحدد، بالإضافة إلى تدنّي راتب زوجي اليوم، والذي يبلغ 93 ألف ليرة وهو راتب التقاعد ويعادل نحو 24 دولاراً، بعدما كان يساوي 200 دولار في عام 2010" .
كره المؤسسات المالية
طوال عقود طويلة، نأى كثير من السوريين بأنفسهم عن التعامل مع المؤسسات المالية السورية للحصول على أي أموال إضافية لتغطية أي مستلزمات طارئة يحتاجونها، لأسباب عدة يلخصها الباحث الاقتصادي عبد المنعم الحلبي، المقيم في تركيا والذي عمل سابقاً رئيساً لدائرة الصندوق المالي المركزي في محافظة حلب ومفتشاً على شركات الصرافة على مدار سنوات طويلة، في حديثه إلى رصيف22، بالقول: "كان اللجوء إلى المؤسسات المالية السورية للحصول على المال عند الحاجة إليه، آخر ما يفكر فيه المواطن، وقد يلجأ إليه لأسباب عدة أبرزها غياب ثقافة التعامل مع المؤسسات المالية وخصوصاً المصارف وتحديداً أبناء الأرياف، بالإضافة إلى الوازع الديني خاصةً أن كثيرين من السوريين يتبعون الدين الإسلامي الذي يحرّم التعامل مع البنوك التي يسمّيها ربويةً".
وعليه، بحسب الحلبي، "بات أمر الحصول على المال من المصارف السورية مقتصراً فقط على غير الملتزمين دينياً أو السوريين من أديان أخرى لا تحرّم التعامل مع البنوك، وشريحة قليلة تتوزع بين ميسوري الحال وأصحاب الحظوة"، ويضيف: "المؤسسات المالية السورية تتحمل أيضاً مسؤوليةً كبيرةً في عدم قيامها بعمليات تسويق وشرح لعملها وما تقدمه للمواطنين من خدمات".
يتابع: "لهذا كان اللجوء إلى الجمعية من أجل الحصول على المال هو الحل الأمثل لكثيرين من الناس، الذين استطاعوا من خلاله حل أزماتهم المالية المرتبطة بتوفير مبلغ أكبر من قدرتهم ودخلهم، لفك أزمة مالية طارئة، كسداد الديون أو أقساط مدرسية أو تذاكر سفر أو غيرها. وباتت ما تُعرف بالجمعية منتشرةً وبشكل كبير ليس فقط بين السوريين وحدهم بل في مختلف الدول العربية، وبين مختلف الفئات والانتماءات، وشكّلت حلاً جيداً لمشكلاتهم المالية المستعجلة".
القوانين الحاكمة
تُعرف الجمعية بأنّها مجموعة من الأشخاص، إما زملاء عمل مشترك أو أصدقاء أو جيران في حي واحد أو أقارب... إلخ، يجتمعون لدفع مبلغ مالي محدد من قبل كل عضو بشكل شهري يناسب دخله، ثم يُدفع كامل المبلغ المجموع من بقية الأعضاء كل شهر لأحد الأعضاء وفق قرعة يتم إجراؤها بحضور جميع أعضاء الجمعية لمعرفة كل شخص لدوره في استلام المبلغ المالي المجموع، وفي بعض الأحيان تتم مراعاة ظرف أحد المنتسبين في حال كان مضطراً إلى دفع مبلغ مالي يفوق قدرته ودخله الشهري بحيث يتم تسليمه مبلغ الجمعية أول دفعة أو الثانية بحسب الحاجة.
أمضيت أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أشترك وأدير الجمعيات التي كنت أتعامل بها مع الأقارب أو زملاء العمل، وشكلت لي حلاً مثالياً لتأمين مبلغ مالي أكبر من قدرتي المالية. ولم نواجه مشاكل لأن الثقة كانت الأساس
بعد الاتفاق على المبلغ المالي الواجب دفعه من كل منتسب بشكل شهري ووضع القرعة لمعرفة كل شخص لدوره في استلام مبلغه المالي، يتم الاتفاق على تكليف أحد الأشخاص لاستلام المبالغ المالية المدفوعة كل شهر من الأعضاء وتسليمها لصاحب الدور بشكل شهري. ويتم اختيار هذا الشخص بناءً على سمعته وعمره وحالته المادية، وغالباً يتم إنشاء الجمعية بين المعارف والأصدقاء أو الأقارب من أجل تجنّب أي عمليات احتيال والتي من النادر حدوثها. وحتى عند انتساب شخص غريب إلى إحدى الجمعيات لا يتم قبوله إلا بعد أن يكفله أحد الأشخاص الثقات المنتسبين إلى هذه الجمعية.
أما عن احترام قوانين هذه التعاملات المالية فتعود بالأساس إلى الثقة المتبادلة بين المتعاملين بها، يقول أحمد هرموش وهو موظف متقاعد من دائرة النفوس في مدينة حمص، لرصيف22: "أمضيت أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أشترك وأدير الجمعيات التي كنت أتعامل بها مع الأقارب أو زملاء العمل، وشكلت لي حلاً مثالياً لتأمين مبلغ مالي أكبر من قدرتي المالية. طوال هذه السنوات لا أذكر حدوث مشكلات كبيرة معنا، إنما أكثر ما كان يواجهنا هو تخلف أحد الأعضاء عن دفع المستحقات المترتبة عليه لأيام عدة بسبب ظرف طارئ".
ويُعرف المجتمع السوري بأنه مجتمع شاب، وقبل عام 2000 ميلادي، كانت ثقافة إنجاب عدد كبير من الأبناء منتشرةً وبكثرة بين السوريين، وخصوصاً أبناء الأرياف، وبحسب جمعية التراث إلى سلام التي تأسست في جيرونا، إسبانيا، في آذار/ مارس عام 2013، والتي يعمل فيها متطوعون من دول عدة حول العالم، فإن الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و35 عاماً يشكلون ما نسبته 35 في المئة من المجتمع السوري، وهذا الأمر خلق ضغطاً كبيراً على أرباب الأسر لتأمين حاجاتهم ومستلزماتهم. لذلك كان اللجوء إلى ما يُعرف بالجمعية حلاً مثالياً وجيداً لتأمين حاجات ومستلزمات الأبناء في وقت معيّن.
تنظيم التعاملات المالية
المؤسسات المالية السورية تتحمل مسؤوليةً كبيرةً في عدم قيامها بعمليات تسويق وشرح لما تقدمه للمواطنين من خدمات
يقول المحامي السوري علي السواح، لرصيف22: "من النادر أن تصل أي مشكلة متعلقة بهذه التعاملات المالية التي يطلق عليها محلياً الجمعيات المالية، إلى القضاء، لأنها أساساً تقوم على مبدأ الثقة بين الأعضاء وعدم إشراك أي شخص غير معروف لبقية أعضاء هذه الجمعيات، إلّا في حال كفالته من أحدهم لتجنب أي حالات نصب أو احتيال".
يضيف: "لا أذكر على وجه التحديد أنني أو أي أحد من زملائي من الذين أعرفهم، تعاملنا مع مشكلة من هذا النوع، ولا توجد حتى الآن في القانون السوري، أي مادة قانونية تنظّم مثل هذه التعاملات المالية لسبب بسيط وهو وجود دوائر مالية تقوم بمثل هذا الدور وتغني عنه. إلا أن الكثير من السوريين المسلمين الملتزمين دينياً يعزفون عن التعامل مع البنوك ويلجؤون إلى مثل هذه التعاملات".
من جانبه، يُشير الحلبي، إلى أن "النظام السوري استغل غياب ثقافة التعامل مع المؤسسات المالية السورية عند كثير من السوريين، وخصوصاً أبناء الأرياف، ولم يقم بما يلزم لتغيير هذه الثقافة المنتشرة بالطرق الصحيحة عبر القيام بعمليات تسويق واسعة لتعريف السوريين بآلية عمل هذه البنوك والمصارف، وما تقدّمه لهم من خدمات، بالإضافة إلى تجاهله الخطاب الديني وخصوصاً من أئمة وخطباء المساجد الذين يؤكدون فيها على حرمة التعامل مع البنوك التي يسمّونها ربويةً من دون تقديم أي اجتهادات أخرى".
برأيه، هذا الفعل متعمد لحصر مثل هذه التعاملات والخدمات في فئات محددة من السوريين.
أين أصبحت اليوم؟
بعد تحول ثورة السوريين إلى العسكرة وانتشار المواجهات المسلحة بين فصائل المعارضة وقوات النظام السوري في معظم مناطق سوريا، ولاحقاً ظهور وانتشار التنظيمات الإسلامية وسيطرتها على مناطق من البلاد، عمّت الفوضى في مختلف المناطق سواء التي يحكمها النظام أو غيره من التنظيمات، وهي مستمرة منذ عشر سنوات وأكثر.
أدى هذا الواقع إلى دخول ظواهر لم تكن منتشرةً بكثرة بين السوريين، منها عمليات الاحتيال والسرقة والخطف مقابل المال، نتيجة عوامل كثيرة منها انتشار الفقر وغياب السلطة الرادعة، تضاف إلى ذلك حركة النزوح التي شهدتها مختلف مناطق سوريا سواء بشكل داخلي أو خارجي، وكل ذلك ساهم شيئاً فشيئاً في اندثار نظام الجمعية المتعارف.
يُعد أحد أهم أسباب ضمور الجمعيات، غياب الدخل الثابت للسكان، فضلاً تهجير سكان المنطقة الواحدة وتوزعهم على مناطق عديدة شمال سوريا، ما أدى إلى غياب الثقة بين الجيران الجدد، والتي هي أساس نجاح الجمعية
يقول محمد هرموش، وهو من سكان محافظة حمص ونازح في ريف حلب: "هنا في الشمال السوري، يُعد أحد أهم أسباب ضمور الجمعيات، غياب الدخل الثابت للسكان وخصوصاً أن أغلبهم مهجرون وكُثر لا يملكون عملاً ودخلاً ثابتاً، وتالياً غير قادرين على الالتزام بموعد محدد لتسديد مبلغ محدد، ناهيك عن الفقر وندرة فرص العمل وغيرهما".
سبب آخر يرويه هرموش، وهو أن "تهجير سكان المنطقة الواحدة وتوزعهم على مناطق عديدة شمال سوريا، أدى إلى غياب الثقة بين الجيران الجدد الذين ربما يكونون من مناطق أخرى. كذلك، أصبح من الصعب تواصل الناس مع أقربائهم ومعارفهم بسبب بعد المناطق الجغرافية وما تكلفه مسألة التنقل أو دفع مبالغ مالية إضافية لإجراء التحويلات المالية".
أما بالنسبة لسكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فقد "أدى تدهور الليرة السورية وارتفاع أسعار السلع الغذائية إلى عدم قدرة السكان على توفير أي مبلغ من دخلهم، والحديث هنا عن غالبية السكان الذين باتوا ضمن شريحة الفقراء بفعل الحرب، فضلاً عن صعوبة جمع المبالغ المالية بيد شخص واحد وغير ذلك"، يختم هرموش.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...