يدخل محمد عدوي إلى المقهى في التاسعة أو العاشرة ليلاً، وبدل أن يلقي التحية، يرمي على مسامع الموجودين جملة من قبيل "مش ظايل من السهرة إلا سبع ساعات، بنلحق نلعب ورق؟"، يضحك الجالسون حول الطاولة بتكلّف واضح، على النكتة المكررة عشرات المرات، ولا يجيبون. لكن محمد وجميع من في المقهى يعرفون أن هذه الجملة ليست سوى افتتاحية لسلسلة من النكات والسخرية الذكية، التي لا يجيدها أحد مثله.
محمد عدوي في العقد السادس من عمره، انتمى للحزب الشيوعي حين كان شاباً، أو كما يقول هو "حين كانت البلاد تخلو من الآلهة"، لكن من نظّموه وأقنعوه، أيامها، أن الدين أفيون الشعوب، تخلّوا عنه وعن قناعاتهم واكتشفوا المسجد "على كَبر". أما هو فظل وفياً للسنوات التي شكّلت فكره.
يقع مقهى انشراح على زاوية حيوية من شارع السهل، أطول شوارع رام الله القديمة، أو رام الله التحتا كما نطلق عليها.
ما هي تلك السنوات؟ وكيف مضت؟ إنها أربعون عاماً من العمل في طلاء جدران البيوت والمكاتب، أربعون عاماً من خفة الروح والنكتة الجاهزة. ورغم ما أصاب محمد من أمراض أنقصت وزنه إلى النصف، وجعلت من جسده "منخلاً" للمشارط الداخلة والأنابيب الخارجة، إلا أن رواد مقهى الانشراح في رام الله، لا يضحكون إلا بوجوده، أو هم لا يستمتعون بالضحك إلا بوجوده.
الضحك موجود على طاولات هذا المقهى لأسباب كثيرة، ومسببوه حاضرون دوماً بخلفياتهم المتنوعة وتجاربهم الغنية. الدكتور كريم مزعل، المحاضر في الجامعة، يُعد سبباً للضحك من وعلى الغيبيات. يدخل كريم ويختار كرسياً إلى جانب أحد لاعبي الورق، فيضج الجميع بالاحتجاج، هذا يصرخ: "لا تجلس قبالتي فوجهك نحس"، وذاك يصرخ: "لا تجلس إلى جانبي فوجودك نحس". أربعة من لاعبي الورق الذين لا يؤمنون بوجود الله، يجمعون فجأة على الإيمان بوجود كريم، ووجود النحس المرافق له. والمفارقة الأكثر فنتازية هي أن كريم نفسه صار يؤمن بذلك.
هل هذا الإيمان حقيقي؟ ليس بالضرورة. لكن تمضية الوقت في بلاد مثل فلسطين بحاجة إلى تواطؤ متبادل حول المفاهيم. ومقهى الانشراح يمثل عينة حقيقية من هذه البلاد، بتاريخها وحاضرها.
هل هذا الإيمان حقيقي؟ ليس بالضرورة. لكن تمضية الوقت في بلاد مثل فلسطين بحاجة إلى تواطؤ متبادل حول المفاهيم. ومقهى الانشراح يمثل عينة حقيقية من هذه البلاد، بتاريخها وحاضرها
هنا يجلس أبو العلاء، أحمد نجم، الذي نطلق عليه مسمى"أرشيف الثورة"، ولأن الأرشيف لا يكون باللهجة العامية، فأبو علاء لا يتحدث إلا بالفصحى حين يتعلق الأمر بموضوع جدي أو حدث تاريخي. ولأنه يملك ذاكرة حديدية فإن جمله تكون بهذا الشكل: "في الساعة الخامسة من عصر الثالث من آذار/ مارس عام 1971 التقيت في موسكو، محرر شؤون الشرق الأوسط في صحيفة الدوما فلان الفلاني، ضمن اجتماع ضم فلان وفلان، فقلت له كذا وقال لي كذا، فتدخل الرفيق فلان من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوغسلافي، وكان يجلس إلى يميني ويحتسي الفودكا، وقال... "
أبو علاء الذي لا يتنازل عن التفاصيل ويعتبرها بأهمية الحدث نفسه، قضى ستين عاماً مناضلاً في صفوف الثورة الفلسطينية ويتنقل مع قيادتها. عمان فبيروت فتونس فأوروبا ففلسطين. والآن يتسلل كل ليلة إلى المقهى كلص، ليهزمنا بلعبة الورق وبتوثيق الأحداث.
هل يُعتبر أبو علاء أكبر رواد المقهى عمراً؟ بالطبع لا. ففي الزاوية القريبة من المدخل ثمة طاولة محجوزة للاعبين يتغير واحد منهم كل شهر. ومن المألوف في هذه الحالة أن تسمع بينهم حواراً على الشكل التالي:
_ الله يلعنك يا بو نصّار، ليش ما جيت على دفن أبو جورج الصبح؟
_ ليش هو مات؟
_ اه مات مبارح بالليل.
_ الله يرحمه، طيب بدنا رابع يلعب معنا، رنّوا لأبو يوسف إذا بقدر ييجي.
هل يصبح الإنسان حيادياً تجاه الموت في مرحلة ما من عمره؟ هل يفقد صديقاً بالمشاعر ذاتها التي يفقد بها محفظته؟ بالتأكيد لا. فمجموعتنا التي يزيد أعضاؤها عن الأربعين شخصاً فقدت خلال عامين ثلاثة من خيرة مثقفي فلسطين.
هل يصبح الإنسان حيادياً تجاه الموت في مرحلة ما من عمره؟ هل يفقد صديقاً بالمشاعر ذاتها التي يفقد بها محفظته؟ بالتأكيد لا. فمجموعتنا التي يزيد أعضاؤها عن الأربعين شخصاً فقدت خلال عامين ثلاثة من خيرة مثقفي فلسطين
حسن البطل، الكاتب الذي عاصر انطلاقة الثورة، وعاصر محطات انتصارها وانكسارها، وتنقل بين بغداد ودمشق وبيروت، ثم استقل البواخر التي نقلت الفدائيين إلى تونس، ثم إلى قبرص ليعمل مديراً لمجلة فلسطين الثورة، وعاد إلى فلسطين ليكتب على مدار ثلاثين عاماً مقالاً يومياً في صحيفة الأيام. حسن الذي لا يسمع، والذي يستطيع تمثيل دور الذي لا يفهم عليك، يمطرك بأسئلة ساذجة لا معنى لها ولا لإجاباتها، من قبيل: "هل تحب التين المزروع في التربة الحمراء أم البيضاء؟" أو "أين تجلس وأنت تقمّع البامية؟" حسن هذا مات، فمات جزء من ذاكرة فلسطين، ومات غصن من شجرة عائلتها.
الشاعر أحمد يعقوب كذلك، لم تقتله الرصاصة التي اخترقت جسده في الانتفاضة الثانية، حين كان على رأس عمله في بيت الشعر،خذلنا وذهب حين خذله قلبه الكبير وقرر أن يتوقف فجأة.
محمد الجولاني، الفنان التشكيلي الشاب، صاحب الضحكة التي كانت تضفي على المقهى ورواده بهجة قل نظيرها، هو الآخر فارقنا دون مقدمات. هل تغير مقهى انشراح بعد فقدانه هذه القامات الثلاث؟ نعم تغير. فلم تعد تسمع فيه جملة "فستق فاضي" التي يطلقها أحمد يعقوب على خصمه، في لعبة الطاولة، يوسف عوايص. ويوسف صار يتنقل بين الطاولات بلا شتائمه المعهودة كلما خسر نرداً أمام أحمد. ولم تعد تسمع أسئلة حسن، ولا تأفف الإعلامي المخضرم زعل أبو رقطي من بطء حسن في اللعب. وبالتأكيد لم تعد تسمع الضحكة المجلجلة لمحمد جولاني، ولا تواطؤ الفنان وليد أيوب أو الخطاط ساهر الكعبي معها.
حسن الذي لا يسمع، والذي يستطيع تمثيل دور الذي لا يفهم عليك، يمطرك بأسئلة ساذجة لا معنى لها ولا لإجاباتها، من قبيل: "هل تحب التين المزروع في التربة الحمراء أم البيضاء؟" أو "أين تجلس وأنت تقمّع البامية؟" حسن هذا مات
وكما يكون للمنتخبات والفرق الرياضية طبيبها الخاص، فجلسات انشراح لا تخلو من الطبيب عبدالله أبو شرارة، الذي عمل كطبيب أطفال لمدة تجاوزت الثلاثين عاماً، إلا أن لا أحد من كل هؤلاء المثقفين والسياسيين يريد أن يقتنع أن أمراضه تختلف عن أمراض الطفل ابن الرابعة. إن شعر واثق طه بضيق في التنفس، وهو هكذا دائماً، فلا بد من استشارة الدكتور عبدالله، إن عانى الشاعر محمد دقة من المغص والإسهال، بسبب الوجبات الجاهزة للأمن الوطني الذي يعمل فيه ضابطاً، فلا بد من استشارة الدكتور عبدالله. إن تشنجت عضلات كتف أبي جلال، وهي متشنجة منذ ولادته، فلا بد من الاتصال بالدكتور عبدالله. الدكتور عبدالله، طبيب الأطفال، خريج مانشستر، وعميد كلية صحة المجتمع سابقاً، صار بقدرة قادر طبيباً خاصاً، باستشارات مجانية، للعيبة الورق، وهو يقوم بذلك بمحبة عالية لأناس قضوا حياتهم إما في المنافي أو في السجون أو في العمل الشاق.
يقع مقهى انشراح على زاوية حيوية من شارع السهل، أطول شوارع رام الله القديمة، أو رام الله التحتا كما نطلق عليها. يديره أبو شادي في الفترة الصباحية، ويديره شادي في فترة المساء. ولا أعرف إن كان لهذه الإدارة دور حاسم في طبيعة زبائن الفترتين، على الأقل من "شلة المثقفين والسياسيين".
عميدنا الشاب غسان عبدالله، ابن الثمانين، أحد أوائل الذين عملوا في مجال الكمبيوتر والتكنولوجيا في العالم، وأحد أوائل العلمانيين في العالم العربي، الذكي الذي يعيش بالأسئلة لا بالإجابات، يجلس مع أوري ديفيس اليهودي
فالشاعر وضاح زقطان له ساعة محددة في الفترة الصباحية، يأتي في العاشرة، يشرب قهوته بصحبة أحمد داوود، المستشار الإعلامي السابق للرئاسة، ثم يغادران، مشياً، في الثانية عشرة. إن أردت أن ترى وضاح، وأن تسمع قصصه عن مخيم الكرامة، فعليك ألا تتأخر حتى الواحدة.
الصحافي ابراهيم الحصري، اليساري الجذري، صاحب المواقف الساخرة والمتطرفة من كل من يمدح السلطة، يجلس صباحاً على رصيف انشراح، قبالة أنور حمام، وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية ويتبادلان النكات والتخوين.
عميدنا الشاب غسان عبدالله، ابن الثمانين، أحد أوائل الذين عملوا في مجال الكمبيوتر والتكنولوجيا في العالم، وأحد أوائل العلمانيين في العالم العربي، الذكي الذي يعيش بالأسئلة لا بالإجابات، يجلس مع أوري ديفيس اليهودي، مسؤول العلاقات الخارجية للمجلس الثوري في حركة فتح، وينصحه حول أفضل الطرق للتعامل مع جسده، بعد عملية القلب المفتوح التي خضع لها مؤخراً: لا تجهد نفسك يا أوري. أجّل سفرك إلى أفريقيا قليلاً، لا نريدك أن تموت ونخسر تنزانيا أو موزمبيق في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هذا البيت الذي يمثل صراعات الفلسطينيين وثقافة الفلسطينيين، وضحك الفلسطينيين على انكساراتهم وعلى فخرهم بما قدموا من إنجازات
عنصران أساسيان لهما طلة صباحية وطلة مسائية على المقهى، وهما أيمن عبد المجيد، الأستاذ في جامعة بيرزيت، ومعتصم عفانة، أمين مكتبة الجامعة. ما يميز هذين الشيوعيين السابقين، هو أن أحداً لا يوافقهما في آرائهما السياسية، لذا فالنقاش معهما ينتهي بطوشة في أغلب الأحيان. لا يعني هذا أن آراءهما غير سديدة دوماً، بقدر ما يعني أنهما يحمّلان السياسة أكثر مما تحتمل على حساب البنية الثقافية الدينية للمجتمع، لذا فالطوشة الدائمة معهما سببها أنهما ماركسيان أساساً.
هل نسيت أحداً؟ نعم، نسيت الفنان المسرحي أكرم المالكي، ونسيت حاتم شقفة، المصمم، ونسيت الموسيقار سعيد مراد، والروائي مازن سعادة، وعزيز ياسين مدير مكتب رئيس الحكومة، ونسيت الدكتور عبد المجيد سويلم، الكاتب والمحلل السياسي، ونسيت أيضاً جورج خليفي، المخرج المسرحي، واسماعيل الهباش، المخرج السينمائي. ونسيت عيسى، العجوز الذي كان مفروزاً على منصة مضاد للطائرات في اجتياح بيروت 1982. ونسيت عشرة أسماء أخرى لم يتسع لها هذا المقال، وأملي الوحيد في أن يغفروا لي هو أنني نسيت نفسي معهم، أنا الذي أعتبر مقهى انشراح بيتي الثاني.
هذا البيت الذي يمثل صراعات الفلسطينيين وثقافة الفلسطينيين، وضحك الفلسطينيين على انكساراتهم وعلى فخرهم بما قدموا من إنجازات. وتلك البساطة اللافتة، التي تجعل خمسين سياسياً ومثقفاً يؤسسون مجموعة على الواتساب بعنوان" لعيبة شدة غشاشين، وحرامية قداحات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...