"أنا مواطن مطار شارل ديغول"؛ توفي صاحب هذا القول الشهير، مِهران كريمي ناصري، والذي عاش 18 عاماً في صالة المطار في فرنسا، عن عمر ناهز 77 عاماً. هو الذي كان مصدر إلهام لفيلم هوليودي شهير، ومادةً دسمة للكثير من وسائل الإعلام الفرنسية والدولية.
وأعلن مصدر من مطار شارل ديغول الفرنسي، أنه مات ميتة طبيعية في المبنى "2F"، قبل وقت قصير من ظهر السبت الماضي. وهو بعد أن أنفق جزءاً كبيراً من الأموال التي حصل عليها نظير فيلم "ذا ترمينال" (The Terminal)، عاد إلى المطار قبل أسابيع عديدة، كما تمّ العثور على آلاف اليوروهات في حقائبه.
من هو مِهران؟
ولد مهران في المجمّع السّكني التابع لشركة النفط الإيرانية والتي تقع في مدينة مسجد سليمان في محافظة خوزستان جنوب غربي البلاد، وهي المدينة التي تمّ اكتشاف آبار النفط فيها لأول مرة في الشرق الأوسط، لأب إيراني كان طبيباً في نفس الشركة وأم إسكتلندية كانت تعمل ممرضة -على حدّ قوله-.
اعتاد على الاستماع إلى صوت المذياع، وقراءة الكتب والصحف والمجلات، وكتابة مذكراته اليومية، وقد نشرها في كتاب حمل عنوان " رجل الصالة"، بمساعدة الكاتب البريطاني آندرو دونكين
وانتقل مهران عام 1973 إلى بريطانيا، ليلتحق بجامعة برادفورد، للحصول على شهادة جامعية في الدراسات اليوغوسلافية، وأثناء إقامته هناك شارك في مظاهرة ضد الملك محمد رضا بهلوي في عام 1974 أي خمس سنوات قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران (1979).
ثم عاد إلى إيران عام 1975 بسبب عسر مالي، وقد اقتيد من المطار نحو سجن إيفين في طهران، وخضع للتعذيب والسجن لفترة 4 أشهر، بسبب مشاركته في تلك المظاهرات. بعد ذلك عاد إلى أوروبا بحثاً عن والدته الإسكتلندية، ولكن لم يعثر عليها، حسب قوله.
عند عودة مهران إلى أوروبا، تقدم بطلب لجوء إلى كلٍّ من ألمانيا الغربية (آنذاك) وهولندا عام 1977 ولكن طلبه رُفض. ثم تقدم بطلب لجوء آخر إلى فرنسا في العام التالي، فرفض أيضاً. وتلا ذلك طلب إلى إيطاليا، فجاءه الرفض كذلك. ثم عاد إلى فرنسا من جديد، فلم تقبل به باريس أيضاً.
واستمرّ مهران هكذا بتقديم الطلبات إلى الدول، بل وعاد إلى ألمانيا الغربية، لكنه طرد منها، ومن ثم نجح في الدخول إلى الأراضي البلجيكية، وفي عام 1980 وافقت مفوضية اللاجئين العليا التابعة للأمم المتحدة على منح مهران حقَّ اللجوء في بلجيكيا نفسها، وقد عاش فيها حتى عام 1986.
مطار شارل ديغول
ثم قرر مهران أن يعيش في بريطانيا، فحجز تذكرةً من مطار شارل ديغول الفرنسي إلى مطار هيثرو البريطاني، ولكن حينما كان في محطة قطارات باريس ليتوجه منها إلى المطار، وقد غمره شعور بالسعادة بأنه سيصل إلى لندن، سرُقت حقيبته اليدوية الحاوية على جميع وثائقه. وبرغم ذلك تمكن مهران من الصعود إلى الطائرة، بيد أن السلطات في المملكة المتحدة لم تسمح له بدخول الأراضي البريطانية دون أوراقه الثبوتية.
عاد الرجل مجدداً إلى مطار شارل ديغول، ولكنه لم يستطع إثبات هويته، فنُقل إلى صالة الانتظار، ومكتب شؤون الركاب الذين لا يمتلكون الأوراق الثبوتية المطلوبة، وذلك للتأكد من هويته.
فكان ذلك الانتظار في الصالة الذي لم ينته إلا بموته، حيث مكث هناك أكثر من 18 سنة. تأقلم مهران على الحياة في مطار 2F، وكان دائماً في غاية النظافة، كما اعتاد العاملون في المطار غسل ثيابه، وقد تبرعوا له بأريكة ليرتاح وينام عليها.
اعتاد على الاستماع إلى صوت المذياع، وقراءة الكتب والصحف والمجلات، وكتابة مذكراته اليومية، وقد نشرها في كتاب حمل عنوان " رجل الصالة"، بمساعدة الكاتب البريطاني آندرو دونكين، وقد تم توزيع الكتاب بريطانيا، وألمانيا، وبولندا، واليابان، والصين، بلغات عدة، ووصفته صحيفة تايمز اللندنية بأنه "كتاب رائع ومزعج جداً".
كان مهران محاطاً دائماً بالصناديق في محلّ إقامته أي قاعة المغادرة في المطار وعند التقاء المحال التجارية والمطاعم في الطابق السفلي، ولم يكن يزعج المسافرين أو يتحدث معهم، كما أنه لم يلفت الأنظار، وكان يجلس قريباً من محلات "ريلاي" الشهيرة التي كانت تبيع كتابه.
كلّ هذه المعلومات وأكثر عن هذا الرجل الإيراني، جاءت بعد تسليط الضوء عليه من قبل الإعلام الفرنسي، ومن حبّه لكتابة مذكراته اليومية، أي خلال تسعينيات القرن الماضي وبعد ذلك.
الهوية الجديدة
مع مرور الوقت، نسي أو تناسى الرجل الإيراني هويته، وأصبح يدعى سير ألفريد (Sir Alfred)، وكان غالباً لا يردّ على من يناديه باسم مهران. ومن الرسائل الكثيرة التي كانت ترسل له من السلطات المختلفة، استلم رسالة من السلطات البريطانية موجهةً باسم "سير ألفريد" وليس مهران.
سلمت منظمة حقوق الإنسان في فرنسا قضية مهران إلى محامٍ يدعى كريستيان بورغت، والذي استطاع أن يفوز بحكم محكمة في عام 1992 يفيد بأن الحكومة الفرنسية لا يمكنها طرد مهران، إذ أنه دخل البلاد بطريقة لجوء شرعية، ومع ذلك لم تتمكن المحكمة من إلزام السلطات الفرنسية بمنح مهران حقَّ اللجوء أو السماح له بدخول أراضيها، وبذلك ذهب مهران طيّ النسيان وضمنَ حدود محطة المطار الدولي.
توجه المحامي كريستيان إلى السلطات البلجيكية في محاولة منه لإعادة إصدار أوراق اللجوء التي مُنحت لمهران عام 1980، إلا أن السلطات البلجيكية رفضت الطلب، فالقانون هناك يمنع إرسال أوراق اللجوء لأيٍّ كان عبر البريد العادي، وعلى الشخص أن يسلمها بيده شخصياً، هذا وينص القانون البلجيكي أيضاً على أن أي لاجئ يترك البلاد برغبة منه، يسقط عنه حقّ اللجوء والعودة.
في عام 1995، وافقت السلطات البلجكية على إصدار أوراق اللجوء مرة أخرى، لكن بشرط عودة مهران إلى أراضيها، والدخول تحت بند قانون العمل الاجتماعي، ولكن مهران رفض ذلك، معلناً أنه لم يرغب في أن يعيش في بلجيكا حتى عندما كان لاجئاً فيها.
كان مأزق سير ألفريد في المطار الفرنسي، مصدرَ الإلهام للفيلم الفرنسي الكوميدي "ضائع في الترانزيت" أو (Lost in Transit)، والذي أُنتج عام 1993 من بطولة الممثل الفرنسي جان روشفور، وقد نال الفيلم جوائز دولية.
لست إيرانياً
الحضور السينمائي والصحافي الدائم في فرنسا للرجل الذي تحول إلى رمز مطار شارل ديغول، أتى بثماره، حتى منحت الحكومة الفرنسية في عام 1999 تأشيرة إقامة مؤقتة للرجل الذي يود أن ينادى: "سير آلفريد"، وجواز سفر لاجئ لمنحه الفرصةَ ليدخل فرنسا، ويعيش فيها، ولكنه رفض الأمر، معللاً بأن الحكومة الفرنسية أخطأت في تحديد هويتِه.
وكان ذلك الرفض وعدم تقبله لفكرة أنه إيراني الأصل، بالإضافة إلى ادعائه الذي ظهر فجأة بأنه لا يتحدث الفارسية، عبارةً عن مؤشرات لبداية اضطرابات نفسية تعرض لها، حسبما قيل عنه.
مهران في سينما هوليود
مرة أخرى أصبحت قصة الإيراني مصدر الإلهام للفيلم الهوليودي الكوميدي الشهير، "ذا ترمينال" (The Terminal)، الذي أُنتج عام 2004، من إخراج المخرج العالمي ستيفن سبيلبيرغ، وبطولة الممثل توم هانكس.
ومع أن فكرة الفيلم هي حياة مهران، وقد استلم مبلغاً من المال مقابل التنازل عن قصته لشركة دريم وركس (Dream works)، كما ذكرت مصادر كثيرة منها صحيفة غارديان، إلا أنه لم يُذكر اسمه في أيّ من وسائل الدعاية للفيلم، ولا أقراص الـDVVD التي صدرت، ولا حتى في الموقع الرسمي للفيلم.
مطار شارل ديغول الذي فقد أحد رموزه الشهيره بعد 18 عاماً، فبعد أن مرض مهران لم يجد مسافرو المطار الأريكة الشهيرة التي كان يستلقي عليها مهران
بعد عرض الفيلم، توافد الصحافيون للتحدث مع الرجل مجدداً. ونقلت صحيفة لو باريزيان الفرنسية آنذاك أن مهران يجري 6 مقابلات في اليوم. وحول الفيلم قال مهران للصحافة وقتها: "رغبتي في الذهاب إلى أمريكا زادت بسبب فيلم (ذا ترمينال)"، وعن ما قام به نجم هوليود الذي مثل دورَه، قال مهران: "ربما لا أفعل أحياناً ما يفعله توم هانكس".
مغادرة المطار
تدهورت حالة سير ألفريد الصحية في عام 2006، ونقل من المطار إلى المستشفى، وبعد تحسن حالته لم يعد إلى المطار، بل عاش في نزل مستخدماً الأموال التي حصل عليها من الفيلم، حسب الإعلام الفرنسي.
وقد قام برعايته مكتب الصليب الأحمر الفرنسي. أما مطار شارل ديغول الذي فقد أحد رموزه الشهيره بعد 18 عاماً، قد قام بجمع أغراضه من صالة 2F، فبعد أن مرض مهران، لم يجد مسافرو المطار الأريكةَ الشهيرة التي كان يستلقي عليها نزيلُ المطار الدائم.
في عام 2022 وبعد نحو 16 عاماً، عاد الرجل الإيراني مهران كريمي ناصري مجدداً إلى موقعه المحبب في فرنسا، وقطن هناك لبضعة أسابيع، قبل أن يرحل في يوم السبت 12 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي في باريس عن عمر ناهز 77 عاماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...