تندرج هذه المادة في "ملف عيد الحب".
في كتابها لماذا نحب- طبيعة الحب وكيماؤه تسمّي هيلين فيشر بداية الوقوع في الحب والافتتان بالآخر "الحب الاستحواذي" أو "الحب الملتهب" الذي يغيّر من كيمياء العقل ويجعل من المحبوب، موضوع الرغبة، شخصاً متفرداً غير مألوف، ومن المحب مبتلى بالشوق، سواء حاول الاقتراب أو الهرب.
هذه الطاقة الملتهبة التي تبث البهجة في الروح قد تنقلب في أي لحظة إلى ألم واضطراب، فإذا توجب الفراق على سبيل المثال، تقول فيشر إن العاشق يمرّ أول الأمر بمرحلة الصدمة وعدم التصديق التي يحتفظ خلالها ببعض الأمل ويضع الخطط لنيل المحبوب، وحين تنقطع به السبُل، تأتي المرحلة الثانية وهي القنوط والاستكانة للحزن.
ولعلّ ما تقوله بشكل "علمي" هيلين فيشر عن الحب، هو ما أنشده الشعراء والمحبون على مر الزمن. أحد كبار منشدي الصوفية المصريين، الشيخ أحمد التوني، كان يترنح وهو يغني "كل القلوب إلى الحبيب تميل" فيتهدج صوته ويتلون بالبكاء وهو يقرّ من أعماقه بأن: "الحب شهد في البداية يا أخي أخره سمّ الأفاعي قليل، الحب شهد في البداية يا أخي آخره سيف الله مسلول"، ولنا في حكايات شعراء الجاهلية أسوة على الاعتلال والفناء بسبب الحب.
ويتطرق باحث الأنثروبولوجيا الفنلندي صامولي شيلكة، في بحث بعنوان "عيد الحب في مصر، قراءة في الجدل الديني والثقافي"، إلى التعقيدات التي تُحيط بالحب في مصر اليوم، حيث تفشل في الغالب القصص التي تقوم على الشغف الرومانسي، إما بسبب المعتقدات التي تحكم على النساء بكونهن غير محترمات لأنهن قبلن الدخول في مهاترات عاطفية غير رصينة، أو بسبب الظروف المادية المتردية للشباب الذين يتعرّضون للرفض إن هم أقدموا على خطوة رسمية.
ويرى شيلكة بأن السردية العربية عن الحب تجعله مستحيلاً، يستوجب التضحية ويكون العذاب من أجل المحبوب جزءاً أساسياً في تركيبته. لكن يبدو أن فكرة الحب المستحيل أو الشغف المُهلك للأحبة غير مقتصرة على التراث العربي، فقصص العشق الأوروبية مثل "روميو وجولييت" خلّدت العذاب ذاته. لكن العرب يحملون ثقافة تحتفي بالكبت أكثر من غيرهم، فهم ميّالون بطبيعتهم إلى الرمز، وإلى التعبير عن مشاعرهم من خلال الكلام المشفّر بالكناية والاستعارة والمجاز.
أصبحت قصص الحب السينمائية حلماً غير مستحيل، يداعب عقول الشباب من خلف الشاشات. رغم تعقيدات الحداثة التي فرضت اتجاها عاماً لتقديس الفردانية، يُصاحبه رعب من فكرة الوحدة، وكأن الجميع يتوق إلى الحب ويعجز عن ملامسته
هذه الثقافة التي بدأت في الخفوت الآن مع الانفتاح الذي وفره الإنترنت، حيث أصبحت قصص الحب السينمائية حلماً غير مستحيل، يداعب عقول الشباب من خلف الشاشات. رغم تعقيدات الحداثة التي فرضت اتجاها عاماً لتقديس الفردانية، يُصاحبه رعب من فكرة الوحدة، وكأن الجميع يتوق إلى الحب ويعجز عن ملامسته.
جينات معادية للزواج
" ريهام" –اسم مستعار- تصف نفسها بأنها تحمل جينات ضد الزواج ورثتها من أعمامها، تقول: "لكن أعمامي ذكور، وهذا مقبول في المجتمع، ألا يتزوج الرجال، لكن أن تكوني امرأة وضد الزواج وتحاولي الحصول على استقلاليتك فهذه جريمة لا يتحملها الناس هنا". رغم ذلك فهي شخصية رومانسية تؤمن بالحب الذي يغيّر الأشخاص وبالرغبة في امتلاك المحبوب والاستسلام لتلك العواطف التي تكوي القلب. تقول إنها كانت المبادِرة في قصة الحب، وعندما تعرفت على حبيبها، كانت تود أن تجرب الحياة كما في الأفلام، لذلك تعاملت معه بمنطق المرأة الخطيرة المتحكمة في زمام العلاقة، دون اكتراث للصورة التي قد تظهر عليها. تقول: "أؤمن بأن الألم خلق الحب، لذلك كنت أتعمّد إيلامه وهجره، لينضج". لكن العلاقة بينهما سرعان ما تحوّلت إلى هوس.
السردية العربية عن الحب تجعله مستحيلاً، يستوجب التضحية ويكون العذاب من أجل المحبوب جزءاً أساسياً في تركيبته
تذكّرنا القصة بأبطال الروايات الرومانسية، لكنها تحدث هنا في قلب القاهرة لشخصين عاديين لا تربطهما أي علاقة بعالم الفن أو الأدب. تقول ريهام: "لا أعرف ما الذي أصابني، فقد كنت فتاة مطيعة لأمي وأرغب في الزواج لأتخلص من ضغوطها عليّ، لكني فجأة سئمت من كل شيء، كأن شيطاني حضر عندما أحببت وتبدلت بالكامل، كنت أود أن أعيش هذه القصة مع شخص آخر يقدّر نعمة الحب، يحترم اختلافي وغرابتي، لكني أحببت شخصاً سطحياً، يحب ولا يدرك ما يعنيه الحب، نحن الآن مفترقان بسبب خيانته لي، وقد قلت له لن يشفي غليلي سوى أن أخونك لأجعلك تذوق نار لوعتي، أستطيع ذلك ولكني لن أفعل، فنحن مهما افترقنا سنعود لبعضنا، وأعرف أن هذا الحب سيقتلنا معاً".
المرأة الأخرى
انغمست أيضاً في قراءة التاروت لأعرف ما يخبئه لي القدر، ولأتنبأ متى سيعود، ومتى سيترك المرأة الأخرى، وما هي طبيعة مشاعره في البعد عني؟ وكانت كل تلك القراءات تواسيني وتعدني بلقاء قريب، وهو ما حدث فعلاً: فقد عاد زوجي السابق بعد عام كامل من فراقنا، حين أنجبت له زوجته الجديدة طفلة، وقال ذلك الكلام الذي يقوله الرجال عادة، بأنه نادم أشدّ الندم ولم يحب امرأة غيري. لكنني لم أستطع أن أقاوم حبي له وسامحته، طبعاً تحجج بأنه لن يستطيع ترك امرأته الآن بعد ولادتها، وكان عليّ أن ألعب دور عشيقة الزوج الخائن.
كنا نتحين أي فرصة للقاء، نتقابل في بيته الذي كان بيتي يوماً ماً، عندما تسافر زوجته لأهلها، ونلتقي في مرسمه أحياناً، نسافر معاً ليوم أو يومين فقط. كانت عودتنا ممتلئة بالشغف الذي لم أشعر به وأنا زوجته. انتظرت طويلاً أن يترك المرأة الأخرى، لكن هذا لم يحدث، وعندما بدأت في سؤاله عن مصير علاقتنا، كان يتحجج ويتهرب، إلى أن اختفى من حياتي مرة أخرى".
كمن يدخل حانة
يبتسم عمر بمرارة هادئة: "إنت عارفة إن الدراسات أثبتت إن الجسم بيتأثر بفراق حبيب زي ما بيتأثر بموت عزيز عليه"؟
عمر شاب ثلاثيني خارج لتوه من علاقة مع امرأة تكبره بنحو عشر سنوات، يقول إنه دخل العلاقة كمن يدخل حانة من أجل التسلية، مغامرة أو فانتازيا امتلاك امرأة تكبره سناً... "لكني وقعت في غرامها، ولم أعرف أني أحببتها، أدركت ذلك حينما افترقنا وأصبحت العودة مستحيلة".
ويحكي عمر عن لحظات الحب التي كان يظن أنها موجودة في الأفلام فقط:
"كانت امرأة غريبة، تحتضنني وتقرأ لي الشعر وهي تبكي، وكنت أندهش ممّا تفعله وأتعلق بها يوماً بعد آخر، ولعلني أحببتها لأني كنت أريد أمّاً ثانية، لكني آلمتها حينما جعلتها تشعر أنها لا تستحق حبي، ورحلت دون قدرة حقيقية على الرحيل. ربما كان من الأفضل أن نفترق الآن، ففي النهاية، هذه العلاقة محكومة بالفشل، لأن عليّ أن أبحث عن شريكة مناسبة، وكل المعايير التي أريدها غير متوفرة في هذه المرأة. لكنها لا تفارق بالي، أفكر فيها بشكل هوسي، لا أستطيع أطرد صورتها من خيالي لحظة واحدة، كأنها وسواس يسيطر علي، حتى عندما أنظر إليكِ الآن أراها، عندما أنام أحلم بها، حاولت كثيراً أن أبكي لتخرج من قلبي، لكني حتى الآن لا أستطيع الاستسلام للبكاء، ذرفت دموعاً بسيطة جفّت بسرعة، أعرف أني سأتألم لبعض الوقت، لكن لابد أن يزول هذا الألم وتزول معه الذكريات يوماً ما".
أثر الصفعة
على عكس عمر، كان خالد هو المتروك في قصة حب وزواج دامت لأكثر من خمس سنوات، يقول إن المرأة تُجرَح مرة، لكن التخلي يظل جرحاً غائراً في الذكورة لا يشفى. يقول إن زوجته تركته بسبب الظروف المادية الصعبة، وأنها تزوجت من شخص آخر وتركت بنتهما لأمها لتربيها. وفي محاولة للتشبث بها وثنيها عن قرارها، أخبرها بأنه مستعدّ للسفر إلى الخليج للعمل، لكنها رفضته بطريقة مُهينة:
"آخر مرة قابلتها حضنتها أوي ومكنتش عاوز أسيبها، كنت أنا بعيط وهي بتعيط، وكل اللي بتقوله خلاص خلاص، بعدت عني فضربتها بالقلم، حسيت بالعار وإني مهزوم، عشان معرفتش أحافظ على عيلتي، بعد ما سيبنا بعض معرفتش أعمل أي حاجة في حياتي، ولا أشتغل، كل اللي كنت بعمله إني براقبها طول الوقت، ولما عرفت إنها هتتجوز واحد تاني كنت عاوز أنتقم منها. أشوفها وهي بتتعذب للأبد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...