شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
البحث عن الحياة بين حروف الموت...

البحث عن الحياة بين حروف الموت... "يوتيرن“ للعمل بعد الستين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والفئات المهمشة

الأحد 13 نوفمبر 202203:18 م

“شاركت في حرب 67 وبقيت بالجيش حتى نصر أكتوبر 73، هُزمت مع من هُزموا في النكسة، وعبرت مع من عبروا في أكتوبر النصر. كنت قبطاناً بحرياً أجوب دول العالم ولم أحب يوما مثل الإسكندرية، ففضلت العيش على رصيفها عن الحياة خارجها. عندي 72 سنة ومعاشي لم يعد يكفي، فأتركه لأسرتي وأعمل في المقهى مقابل 30 جنيه في اليوم، أنفقهم على وجبة الإفطار وعُلبة السجائر “.

صاحب الحكاية هو “عم حسن “ الذي نقل قصته أحد رواد المقهى الذي بدأ القبطان المتقاعد العمل فيه بعد سنوات من بلوغه سن الستين (سن التقاعد في مصر). نشر “الزبون “ الحكاية مصحوبة بصورته مع “عم حسن “ على شبكة فيسبوك من دون معلومات إضافية. لكن الصورة والحكاية لفتت إلى واقع مستمر من لجوء عدد من المصريين المتقاعدين إلى العمل في مهن مرهقة ومنهكة عقب التقاعد بسبب الظروف الاقتصادية الضاغطة، حيث لم تعد سلحفاة “المعاش “ قادرة على ملاحقة قطار التضخم والغلاء.

بحسب دراسة غير محدثة، صدرت عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في العام 2018، بلغ عدد المشتغلين في مصر فوق سن الستين، مليوناً و300 ألف مواطن، من بين 6 ملايين 410 ألف مسن بحسب تعداد السكان ذلك العام.

بحسب دراسة غير مُحدَّثة، صدرت عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في العام 2018، بلغ عدد المشتغلين في مصر فوق سن الستين، مليوناً و300 ألف مواطن، من بين 6 ملايين 410 ألف مسن بحسب تعداد السكان ذلك العام

يبحث عن الحياة بين أحرف الموت

طاولة خشبية صغيرة تحمل أوراقاً وأقلاماً، تحيطها أرفف تضم أطقم القهوة وأقمشة الخيامية المخصصة لإقامة سرادقات العزاء، يجلس خلفها رجل ثمانيني ممسكاً بقلمه ليخُط بيديه لافتات العزاء المُتصدرة لدار المناسبات المُلحقة بمسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية. يُلقبه العاملون في المحال المُحيطة بـ “الفنان “، لم يأت اللقاء به مصادفة، فقد دلني عليه عدد من العازفين في الفرقة الموسيقية بمركز ثقافة الأنفوشي، لفتني ما أكده جميعهم أن الموسيقار “فتحي خالد “ مُلحن ومُطرب الإذاعة المصرية، يعمل كاتباً لـ “لافتات “ العزاء في أحد محال “الفراشة “.

15 سنة ماضية شهدت على التحول في حياة الفنان السكندري، فتحي إبراهيم خليل، البالغ من العمر 81 عاماً، الذي عمل مطرباً ومُلحناً لما يقرب من 50 عاماً، قدم خلالها أعمالاً مميزة تعيش في ذاكرة الجمهور حتى الآن، إلا أن كثيرين لا يعلمون من هو مُبدعها الأصلي. ولأن معاش نقابة المهن الموسيقية لا يكفي لإقامة الأود، لجأ الموسيقار السكندري إلى البحث عن لقمة العيش بين أحرف الموت.

ارتبطت حياته بالفن في سن صغير، استطاع أن يشق لنفسه طريق بمصاحبة شقيقته الصغرى، فلمعا في فترة الستينيات داخل أروقة إذاعة الإسكندرية، خاضا تجربة الانتقال إلى القاهرة بعدما طالبتهم الإذاعة الأم بالعمل فيها لتقديم أعمال فنية لقيت رواجاً أكبر لما تميز به صوتهما، إلا أنه قرر بعد تجربة قصيرة أن يبدأ خطواته المنفردة في الغناء.

15 سنة مرت على التحول الكبير في حياة الفنان السكندري، فتحي إبراهيم خليل، الذي عمل مطرباً ومُلحناً لما يقرب من 50 عاماً، قدم خلالها أعمالاً مميزة، إلا أن كثيرين لا يعلمون من هو مُبدعها الأصلي. ولأن معاش نقابة المهن الموسيقية لا يكفي لإقامة الأود، لجأ الموسيقار السكندري إلى البحث عن لقمة العيش بين أحرف الموت

“فتحي خالد “ هو الاسم الذي اختاره له رئيس إذاعة الإسكندرية آنذاك، الإذاعي حافظ عبد الوهاب. قدم في بداياته ما يقرب من 36 أغنية، جميعها تناسب الإذاعة، إلا أنها لم تحقق هدفه الأكبر وهو الوصول إلى المسرح، يقول خالد لرصيف22، إن رغبته تلك كان تتطلب نوع مختلف من الأغنيات وهو ما دفعه للتلحين، ليبدأ خطوات جديدة في رحلته الفنية، اعتمد خلالها فلسفة “الحياكة “ بأن يستمع إلى الصوت و “يُفصل “ اللحن المناسب، حسب وصفه لرصيف22.


عُرف “خالد “ في الوسط الفني حينها بموهبته المُتدفقة، يستطيع أن يُلحن أغنية وهو جالس على مقهى، تعاون مع المطربة السكندرية بدرية السيد، وانتقل إلى القاهرة ليبدأ تعاون جديد مع الشاعر الغنائي “سيد مرسي “ صاحب أغنية “عَ الحلوة والمرة “، فأنتجا معا أغنية “بيحلفوني بيك “ للمطربة الشعبية بهية، ثم “والله يا طير وبقالك ريش “ للمطربة المعتزلة سوزان عطية، والتي غنتها في حفل أضواء المدينة وأعاد غنائها المطرب فضل شاكر، وترددت في عدد من برامج المسابقات الغنائية.

أحب فتحي الفن حتى أنه لم يكن يرفض التنازل عن أغنياته لمطرب آخر، فحسب روايته، كانت أغنية “بنت 17“ التي عُرفت بعد ذلك بصوت الفنان “عُمر فتحي“ في الأصل أغنية فتحي خالد، يغنيها أثناء عمله في “كازينو رمسيس“ في شارع الهرم. وحين أبدى الراحل عمر فتحي إعجابه بها؛ تنازل له عنها.

ثم توالت أعماله مع كبار الشعراء مثل حسين السيد الذي كان يكتب سكتشات ثلاثي أضواء المسرح، ومعه لحن سكتش “درس خصوصي“، الذي قدمه الفنان الراحل سمير غانم.


مع تغير البيئة الفنية للمُلحن السكندري برحيل كثير من زملائه، تراجع إنتاجه الفني فلم يستطع التأقلم، خاصة مع رواج أغاني المهرجانات في الوقت الذي تطالبه فيه الإذاعة بإهداء اللحن والتنازل عن المقابل المادي للأغنية، وهو ما دفعه للبحث عن عمل بديل رافضاً أن يبذُل جهداً في إخراج اللحن وتحفيظه للمطرب من دون تقدير لدوره، يقول خالد لرصيف22: "يعني آخد اللي بكسبه من اليافطة اللي بكتبها أصرفه في الإذاعة؟ ما ينفعش“.

لم يمتهن المُلحن الثمانيني طوال سنوات عمره غير الفن الذي لعب دوراً كبيراً في عمله الجديد، إذ كان الفن مفتاحاً لعلاقته بأسرة السكري المالكة لمحال "فِراشة" سرادقات العزاء. يوضح خالد لرصيف22 أنه غنى في أفراح معظم أفراد العائلة التي أحبت صوته وقدرته، فصحبهم في محالهم كصديق يزورهم من آن إلى آخر، قبل أن يعرضوا عليه العمل معهم كـ “خطاط “ يكتب لافتات العزاء، وهو ما رأوه مناسباً لقيمته الفنية وحالته الصحية.

يرفض المُلحن السكندري الاعتماد على أبنائه في الإنفاق عليه وزوجته، فابنته نجلاء مطربة إذاعية مُعتزلة، قررت الالتفات لحياتها الشخصية بعد الزواج ولم تعد تعمل، ونجله سافر إلى الخارج وانشغل بحياته، ورغم رغبتهم في مساعدة والدهم مادياً لنيل قسط من الراحة بعد طول عناء، إلا أنه أبلغهم أن العمل يُمثل بالنسبة له "دافعاً لاستمرار وجوده في الحياة".

أثر الخصخصة... يبقى لا يزول

في التسعينيات من القرن الماضي، بدأت مصر رحلة جديدة في التغير الاقتصادي تعتمد على “الخصخصة“، والذي يسمح بتحول شركات القطاع العام المملوكة للدولة لشركات قطاع خاص بعد بيعها للمستثمرين، وفي عام 1991 أُنشئ قطاع الأعمال العام بعد صدور القانون رقم 203 لسنة 1991، فتحولت طبيعة الشركات الحكومية بموجبه إلى شركات ذات صفة خاصة فهي ملكية خاصة للدولة ويمكن بيعها للمستثمرين، ومعها بدأ طوفان التقاعد المبكر للعمال والموظفين قبل الوصول إلى سن التقاعد الرسمي.

كان محمد السيد ضمن من حاربوا في 1967، وظل في الجيش حتى انتصار 1973 مثل كثيرين من مجايليه، ولم يكن يتوقع أن يتلقى تلك المعاملة من الدولة التي حارب من أجلها في سنوات شبابه

لم يقبل محمد السيد - 74 عاماً الآن- طرح المعاش المُبكر عندما طرح عليه قبل 20 عاماً، فعمله – وقتها- يُحقق له ولأسرته المكونة من زوجته و5 أبناء الاستقرار المادي المناسب.

يقول السيد لرصيف22 إنه كان ضمن من حاربوا في 1967 وظل في الجيش حتى انتصار 1973 ككثير من مجايليه، ولم يكن يتوقع أن يتلقى تلك المعاملة من الدولة التي حارب من أجلها في سنوات شبابه.

التثبيت في الوظيفة الحكومية كانت أمنية السيد، في الوقت الذي اختار بعض زملائه الحصول على قطعة أرض، أو شقة تمليك عندما وزعت الدولة مكافآت على مقاتلي حرب التحرير.

وعليه، بدأ عمله في عام 1974 كفني لحام في معمل إحدى الشركات الحكومية الكبرى. يقول السيد إن رئيس الشركة كان دائماً ما يردد جملة "احنا بنمسك التراب نحوله دهب"، دليلاً على الوضع المادي الممتاز وهو ما انعكس على العمال مباشرة.

12 جنيه كان الراتب الشهري الأول الذي تقاضاه، لكنه لم يكن كل ما يتقاضاه من دخل. يوضح السيد لرصيف22، أنه كان يتقاضى أجرين في الشهر الأول الراتب الأساسي والثاني هو حافز الإنتاج والذي بلغ في الشهر الأول 40 جنيه أي أضعاف الراتب، إضافة للوجبات التي تُصرف يوميا للعمال من سندوتشات “اللحم البارد، الأجبان، الفواكه، وغيرها“ فكان الوضع مثالياً بالنسبة له.

استمر الأمر حتى عام 1998، وهو العام ذاته الذي خرج فيه على المعاش المُبكر عنوة، وإن لم يحدث ذلك بصورة مباشرة، فحين رفض هو وعدد من زملائه الانصياع للسيناريو الموضوع، قررت الإدارة الجديدة مُعاقبتهم بتعيين مُشرف حديث التخرج لم يحترم فارق العمر، وكان يوجه لهم السُباب والأوامر العكسية بأن يفعلوا الشيء ثم يرجع عما قرر - حسب رواية السيد- وهو ما دفعه لقبول عرض الخروج إلى المعاش في سن ال50 مُقابل 40 ألف جنيه. وحاول استئناف الحياة باستثمار المُكافأة في بعض المشروعات الصغيرة إلا أنها لم تُدر ربحاً، فلجأ للبحث عن عمل جديد.

كان عادل السيد أفضل حظاً من سابقيه. فبيئته الريفية خلقت له بديلاً سريعاً لعمله السابق. خرج عادل من الخدمة بعد إحالته للمعاش المبكر وهو بعد في الثامنة والخمسين، ووصل آخر أجر تقاضاه إلى 3000 آلاف جنيه شهرياً، كانت بالكاد تُغطى أساسيات المعيشة لأسرته المكونة منه وزوجته و4 أبناء

لعبت المُصادفة دوراً في توظيفه مُجدداً بعد سن ال60 في واحدة من شركات الأمن الخاصة التي توفر فرص عمل لمن هم فوق الستين، ليبدأ رحلة جديدة يعيش فيها مشاعر مُختلطة، بين ضيقه من العائد المادي القليل الذي لا يتجاوز ال600 جنيه ( نحو 24 دولار) شهرياً، والرضا عن قدرته على العمل في هذا السن، يوضح السيد لرصيف22، أن عمله لا يحتاج إلى جهد كبير، وهو ما ساعده على الالتزام به والاستمرار فيه، فكل المطلوب هو الجلوس خلف مكتب خشبي لتسلم بعض الأوراق الواردة لسكان العقار، وسداد مبالغ مالية مُستحقة عن الخدمات (مياه، غاز، كهرباء، وغيرها) إضافة لمسؤوليته عن صيانة المصعد ومواتير المياه وغيرها.

يضيق الرجل السبعيني بمعاملة بعض سكان العقارات التي عمل بها على مدار سنوات، فالغالبية منهم يقدرون استمراره في العمل بعد تعليم أبنائه الخمسة ومساندتهم حتى إنهاء تعليمهم الجامعي، إلا أن بعضهم يرى في حفاظه على كرامته تحدياً لهم، فيحاولون كسر شوكته، وهو ما جعله يتنقل من مكان لآخر فور حدوث صدام يرفض خلاله الخضوع.

يقول السيد إن عمله كفني لحام لم يُشعره يوماً بأنه أقل من أحد، فكان يجد تقديراً بين زملائه ومن مديريه، لكن جاءت الخصخصة من دون دراسة للأبعاد الاجتماعية المترتبة عليها، لتطيح بكرامة واستقرار العمل للمقاتل، إلا أنها لم تطح باعتداده بنفسه وكرامته.

عامل يومية

كان عادل السيد - 62 عاماً- أفضل حظاً من سابقيه. فبيئته الريفية خلقت له بديلاً سريعاً لعمله السابق. خرج عادل من الخدمة بعد إحالته للمعاش المبكر وهو بعد في الثامنة والخمسين، بعد 30 عاماً قضاها عاملاً في أحد المصانع الحكومية، ووصل آخر أجر تقاضاه إلى 3000 آلاف جنيه شهرياً، كانت بالكاد تُغطى أساسيات المعيشة لأسرته المكونة منه وزوجته و4 أبناء.

لم يتمكن عادل من تأمين مستقبل أولاده، فقرر الخروج مبكراً على المعاش، ليتقاضى مبلغاً مالياً يتركه لأبنائه في حال حدث له مكروه، وبدأ بعدها العمل مقابل أجر يومي مع "عمال اليومية" في قريته، ممن يجمعون المحاصيل أو يقلبون الأراضي الزراعية، ويوفر له ذلك 100 جنيه في اليوم الواحد مُقابل 5 ساعات عمل تبدأ في السادسة صباحاً وتنتهي قبل صلاة الظهر، وهو ما يوفر له وقتاً للراحة والإفطار مع أبنائه ورؤية أصدقائه.

يقول عادل في حديثه لرصيف22، إنه ينفق على الأسرة رغم إنهاء 2 من أبنائه تعليمهم في المدارس الثانوية الفنية، إلا أنهما لم يجدا عملاً سوى مياومة بيع في محل للهواتف المحمولة لأحدهما، والآخر يعمل في صيدلية داخل القرية، إلا أن ما يتقاضياه من أجر لا يكفي أياً منهم، "فلم أرغب في تحميلهم مسؤولية المنزل، إضافة لتمتعي بصحة جيدة وقدرة على العمل"، موضحاً أن عمله في المصنع كان أكثر جهداً من عمله الحالي، إلا أن ذلك مناسبٌ لمرحلته العمرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image