شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
ابن الشركة... لغز العلاقة بين سياسات العمل وانفتاح السادات والوضع الاقتصادي الحالي

ابن الشركة... لغز العلاقة بين سياسات العمل وانفتاح السادات والوضع الاقتصادي الحالي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 27 أكتوبر 202205:16 م

" ليس هناك مؤشر على التقدم الاقتصادي، فيما أظن، أفضل من قيمة العمل الإنساني: كلما زاد التقدم الاقتصادي؛ ارتفعت قيمة العمل بالمقارنة بقيمة السلع، والعكس بالعكس".

-من كتاب "ماذا حدث للمصريين؟" للاقتصادي الراحل الدكتور جلال أمين.

لعدة عقود، كان نموذج الموظف الحكومي الذي يخرج لعمله في الثامنة صباحاً، ويعود في الثانية ظهراً، هو النموذج الغالب على معظم بيوت الطبقة المتوسطة المصرية.

لكن مع تفاقم أزمة البطالة في نهايات ثمانينات القرن الماضي، وما رافقها من أزمة اقتصادية تشبه الازمة التي تواجهها مصر حالياً، ولم ينقذها منها سوى حرب الخليج الثانية، تغير الوضع تماماً، استمرت الدولة في التسعينيات على عهد الرئيس الأسبق أنور السادات، فتوقفت التوسعات في الإنشاءات والمشروعات الحكومية ما يعني توقف التكليفات وفرص التوظيف الحكومية، واستجابت مصر لبعض طلبات المؤسسات المالية الدولية ليأخذ دور القطاع الخاص في التعاظم تدريجياً ويتسع حجم الوظائف التي يوفرها، مقدماً وعوداً جدية بتحسن الرواتب وتحسين ظروف العمل في ظل قوانين اشتراكية الطابع وضعت عقب 1952، وكفلت مظلة حماية للعاملين سواء كانوا من العمال أو المهنيين.

تزامن توقُّف الحكومة تقريباً عن توظيف الخريجين، مع تراجع دور القطاع الخاص في التوظيف، وانحسار دور الدولة والنقابات في التدخل لحماية حقوق العاملين في مواجهة صاحب العمل، فتراجعت الرواتب والامتيازات، وزادت ساعات العمل وتدنت درجات الأمان والسلامة، خاصة مع انتشار الاعتماد على العمالة المؤقتة

وداعاً للعمل اللائق

في الوقت عينه، بدأت أولى خطوات مصر على طريق "الخصخصة" فاعتمدت الحكومة المصرية في بداية التسعينيات عمليات بيع 314 من شركات القطاع العام بنسبة مائة في المائة، بطريقة البيع لمستثمر رئيسي خارج البورصة. وانتهى الحال ببعض عمليات البيع هذه بأحكام قضائية لإبطال بعضها، بسبب التقييم غير الحقيقي للأصول المباعة. لكن إلى جانب هذا، كان للخصخصة من دون اعتناء بالآثار الاجتماعية أثراً سلبياً على سوق العمل تمثل في ارتفاع معدلات البطالة الحقيقية نتيجة تسريح العمال وإكراههم على التقاعد المبكر مقابل معاش زهيد، وهم بعد في سن العمل، ما خلق طلباً على وظائف جديدة لا وجود لها، حسبما ترصد دراسة "أثر الخصخصة على حقوق العمالة ومشكلة البطالة في مصر".

ومن آثار تبني الدولة لذلك النهج الجديد، التفافها الكامل على التزامات يرتبها قانون العمل على الجهات التنفيذية والقضائية في حماية حقوق العمال، ما مثل قفزة كبيرة في اتجاه إسقاط مبادئ العمل اللائق في مصر، كما تعرفه منظمة العمل الدولية.

صحبَ هذا التحول، ندرة في فرص العمل. التي حتى إن تواجدت؛ تكون ساعات العمل كبيرة جداً، قد تصل إلى 16 ساعة يومياً. وفقًا لدراسة أجرتها شركة "آر إس كومبونينتس" باستخدام بيانات منظمة العمل الدولية.

لم تعد الرعاية الصحية أو الاحتفاظ بالوظيفة أو التعويض في حالات إصابات العمل حقوقاً مكفولة للعاملين

حللت الدراسة ساعات العمل في نحو 100 دولة لمعرفة أي الدول التي لديها أطول ساعات عمل، وأيها لديه أقل عدد ساعات من العمل. تضمنت قائمة الدول التي يضطر مواطنوها إلى تقديم ساعات عمل أكثر من الحد المتفق عليه دولياً (40 ساعة أسبوعياً) ثلاث دول عربية، وهي فلسطين بمتوسط عدد ساعات عمل اقترب من 42 ساعة أسبوعياً في 2018، تليها كل من الجزائر ومصر بمتوسط عدد ساعات عمل بلغ 44 ساعة أسبوعياً في 2017.

بالإضافة إلى تطلب هذه الشركات لجودة مُعينة في موظفيها، لا تتوفر في غالبية خريجي الجامعات، الذين يتلقوا تعليمهم بأقل الإمكانيات في الجامعات الحكومية، والأنكى هو عدم ملائمة الأجور التي يحصل عليها موظفو هذه الشركات، مقارنةً مع عدد ساعات العمل ومعدل الإنتاج المطلوب منهم، حيث تفيد إحصاءات رسمية بأن العاملين في القطاع الخاص في مصر تبلغ نحو عشرين مليونا، بينما تؤكد دراسات غير رسمية - وفقاً لـ BBC أن إجمالي طاقة العمال في السوق المصري لا تقل بأي حال عن 25 مليونا يعملون في الداخل بعضهم من دون أي عقود عمل.

ركود اجتماعي

تشهد كل المجتمعات بمختلف أشكالها شيئاً من الحراك الاجتماعي، تختلف درجته؛ باختلاف درجة ركود هذا المجتمع. على مدى عقود، لعب الحراك الاجتماعي دوراً مهماً في تأطير وقولبة شكل المجتمع المصري، وهو أحد المسببات الرئيسية التي تؤثر على شكل المجتمع الحالي، لكن كيف بدأ هذا الحراك الاجتماعي، وكيف انتهى لما هو عليه الآن؟

بدأ الحراك الاجتماعي في لعب دور فعال في تشكيل المجتمع المصري منذ نهايات القرن الثامن عشر، وفرت فرص التعليم في خلال الفترة الأولى والوسطى من حكم أسرة محمد على (رغم أنها ظلت قاصرة على أبناء الأعيان بشكل يكاد يكون حصرياً) فرص للترقي الاجتماعي، ومشاركة أبناء البلد في وضع السياسات، وخوض الصراع السياسي السلمي – والمسلح أحياناً- في مواجهة السلطات من أجل انتزاع المزيد من الحقوق.

هذا الحراك الاجتماعي والسياسي الهائل وُضع في حالة ثُبات بعد 1952 نتيجة تبنِّي الدولة سياسات ظهر منها الاستجابة للمطالب الأساسية لذلك الحراك، مفرزة طبقة وسطى جديدة ناتجة عن الترقي الاجتماعية القائم على عنصري التعليم والعمل اللائق.

الدولة: المواطنون لا يعملون. ومنظمة العمل الدولية: مصر من أعلى دول العالم في عدد ساعات العمل وتجاوزها للحد الدولي المسموح به

تتغير العوامل المؤثرة في حدوث الحراك الاجتماعي، طبقاً لرؤية الدولة الاقتصادية والاجتماعية في كل عصر. قبل ثورة يوليو 1952 مباشرةً، كان تطبيق مجانية التعليم قبل الجامعي على يد طه حسين، من أهم العوامل التي أثرت في الحراك الاجتماعي.

كان الالتزام بإتاحة التعليم الجامعي المجاني أحد أهم المؤثرات في الحراك الاجتماعي في عهد عبدالناصر؛ وأدى التوسع في توزيع الحيازات الزراعية وتقنين العمل بأجر لدى الدولة والقطاع الخاص على السواء إلى ارتفاع المستوى الاقتصادي والاجتماعي حتى لمتواضعي أو معدومي التعليم من صغار العمال والفلاحين.

امتد التأثير الذي أحدثه الحراك الاجتماعي في عهد عبد الناصر في شكل المجتمع، إلى ما بعد عبد الناصر بعقود. أصبح لدينا مجتمع حتى وإن سيطرت فيه النخب من قيادات الثورة والجيش على مراكز النفوذ والثروة، إلا أنه يدعم فرصة ترقي أبناء الطبقات الأخرى في السلم الاجتماعي، بل ويتيح لهم الحصول على مراكز القيادة بعيداً عن الوظائف السياسية والدبلوماسية الهامة.

أما ما جرى...

منذ التسعينيات، ومع تحولات الدولة الاقتصادية وترسُّخ الفكر السياسي المبتعد عن المنهج الذي تبناه شخص عبدالناصر، باتت الطبقة الوسطى - الداعمة للسلطة بطبيعتها- في شبه صراع مع الدولة، وإن لم يكن صراعاً فكرياً أو سياسياً، بل صراع مصالح تحول الآن لدى الطبقة نفسها والطبقات الأدنى منها إلى صراع بقاء.

في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، تغيرت عوامل الحراك الاجتماعي مع تغير الأهداف والمخططات الاقتصادية والاجتماعية للدولة، متبنية أجندة التوسع في الاعتماد على القطاع الخاص وخفض الإنفاق العام (دعم – صحة – تعليم- نقل- خدمات- رواتب).

يشير الكاتب أحمد بهاء الدين في كتابه"محاوراتي مع السادات"، إلى تبعات الانفتاح على المجتمع المصري، والسلع والمنتجات المصرية فيقول إن سياسات الانفتاح التي تبناه السادات من دون ضوابط، كان من نتاجها نهديد ما يسميه "الرأسمالية الوطنية"، يوضح بهاء الدين "بالتالي، فلو أقيم في مصر غداً مصنع أجنبي ضخم متقدم لصناعة الأحذية مثلاً، فهو كفيل بأن يغلق أكثر من عشرة آلاف ورشة أحذية يعمل فيها عشرات الآلاف من المصريين.لا بد أن يجيء يوم طبعاً تدخل فيه الآلات الحديثة التي تنتج الرخيص ولا تستخدم إلا القليل من اليد العاملة، ولكن السؤال هو متى وكيف وفي أي إطار، حتى لا تحدث خلخلات اجتماعية مباغتة وخطيرة".

مع تحولات الدولة الاقتصادية وترسُّخ الفكر السياسي المبتعد عن المنهج الذي تبناه شخص عبدالناصر، باتت الطبقة الوسطى - الداعمة للسلطة بطبيعتها- في شبه صراع مع الدولة، وإن لم يكن صراعاً فكرياً أو سياسياً، بل صراع مصالح تحول الآن لدى الطبقة نفسها والطبقات الأدنى منها إلى صراع بقاء

نتيجة لذلك؛ تغيرت مراكز القوى الاجتماعية، إذ لم يعد العمال والفلاحون بنفس الأهمية التي حظوا بها في عهد عبد الناصر، حيث تصدر المشهد العاملون في قطاع الاستيراد والتصدير، والمكاتب الاستشارية الأجنبية، وغيرهم ممن لهم صلة وثيقة بالاستثمار الأجنبي.

موسم الهجرة إلى الشرق

كانت نتيجة هذا التحول، هو بحث أبناء الطبقة المتوسطة والطبقات الدُنيا عن حلول جديدة، تمثلت أحد أهم هذه الحلول في الهجرة، التي أسهمت بشكل مباشر في زيادة معدل التضخم. مثلت الهجرة حلم الكثيرين في الترقي الاجتماعي، فالغرض من الهجرة هو جني الأموال، والعودة للوطن لعيش حياة أفضل، وفقًا لدراسة بعنوان ثورة مصر من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير، أجراها المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة، زادت هجرة المصريين من 58 ألف مواطن عام 1970 إلى 5 ملايين شخص في عام 1980، أي في غضون عشر سنوات فقط.

كانت هجرة العمالة من العمال والحرفيين وغيرهم، أحد أهم أشكال الحراك الاجتماعي في السبيعينيات والثمانينيات، إذ كانت الهجرة تقتصر قبل ذلك على الأطباء والمهندسين والمعلمين، لكن وبمجرد هجرة العمالة، زادت كمية الأموال التي تُستثمر وتُستهلك خارج الدولة، وهو ما زاد من معدل التضخم، إذ أصبحت أهم مصادر الأموال التي تُضخ في الدولة من المهاجرين، أو من عائدات البترول وقناة السويس، وليس من الأنشطة الإنتاجية المحلية كما حدث في عهد عبدالناصر، فوفقًا لنفس الدراسة السابقة، لم يكن في مصر في عام 1970 أي مليونير( والمقصد هنا مليونير فاعل ومُعلَن)، مقارنة بظهور 17 ألف مليونير بعد عشر سنوات فقط عام 1980، أتت أموال معظمهم إما من خلال المضاربات، أو من مصادر غير منتجة مثل الهجرة؛ وهو ما أنشأ فجوة اجتماعية وطبقية كبيرة في مصر.

لكن وضع الطبقة المتوسطة في نهاية عهد السادات كان لا يزال يحتفظ بشيء من الاستقرار، فتعيين الخريجين في الوظائف الحكومية لم يتوقف، وهو ما كان يُمثل أحد أهم أعمدة هذه الطبقة، فالوظيفة الحكومية كانت توفر لصاحبها حياة كريمة ودرجة من الاستقرار، وتسمح له بتوفير نفقات زواجه، بل كانت معظم الأسر تتمنى أن يتقدم لخطبة بناتهم أحد موظفي الحكومة، لأنه يحظى بدخل ثابت، ويُضمن له الترقي والمعاش. لكن الأنظمة التي تلت السادات، بدا وأنها لها ثأر شخصي مع هذه الطبقة.

لقد فاتك الميري

بعد قيام ثورة يوليو 1952، زاد تدخل الحكومة في كل شيء، في استصلاح الأراضي الزراعية، وإنشاء المصانع، وقطاعات الصحة، والثقافة، وكل شيء، مما زاد من أهمية الوظائف الحكومية، التي كانت تهدف كما ذكرنا إلى توزيع المراكز الاجتماعية والثقافية على الطبقات.

وبسبب هذه التدخلات، زاد حجم الطبقة المتوسطة، التي كان لا يمتلك أغلب سكانها أراضي زراعية بمساحات كبيرة، أو تمتلك مشاريع خاصة، ومن هنا نشأت أهمية الوظيفة الحكومية لهذه الطبقة، وجاء مثل " إن فاتك الميري- شغل الحكومة- تمرغ في ترابه".

يسأل الدكتور جلال أمين، في كتابه ماذا حدث للمصريين؟: "كيف سيفوتك هذا الميري بعد كل هذه التدخلات من نظام عبدالناصر في كل مناحي الحياة؟".

يتحدث الدكتور جلال أمين عن أهمية ما فعله نظام عبدالناصر من مساهمة في إنشاء كل الهيئات الحكومية في الزراعة والصناعة والتعليم والطب وغيره، لكنه يُرجع توغل القطاع الخاص فيما بعد إلى سياسة عبدالناصر أيضاً.

بعد قيام ثورتين في غضون أقل من 3 سنوات (25 يناير/ كانون الثاني 2011، و30 يونيو/ حزيران 2013)، خرج الشعب مطالباً في كلتيهما بفرص عمل حقيقية، وحياة كريمة؛ لا يبدو أن الواقع تغير، ولا أن هناك مؤشرات لتغيُر قريب

فحسب وجهة نظره، أن كل هذه الهيئات الحكومية، لم تكن موجودة من قبل وتم تأميمها، ولكنها أُنشأت من العدم، وهو ما كان يُشير إلى تحولها إلى قطاع خاص فيما بعد، حيث احتاجت كل هذه الهيئات إلى قطاعات تقوم بالخدمة عليها، ومن الطبيعي أن كانت هذه القطاعات من القطاع الخاص، إلا أن هذه الهيئات على الأقل ساهمت في زيادة معدل سير الحراك الاجتماعي بعد عقود من الركود.

في السبعينيات انحسر دور الوظائف الحكومية عما كان عليه في السابق، حيث بدأت تتكاثر الأمثلة الدالة على النجاح في تحقيق ربح مادي من نشاط اقتصادي بعيداً عن الدولة، مثل: المشروعات التجارية الصغيرة، وفي الاتجار في العملة، وفي أعمال المقاولات، وغيرها.

تضخم دور القطاع الخاص في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، مستغلاً الفساد الذي ضرب المصالح الحكومية في مقتل. ففي 1996، أعلن عن برنامج متكامل للخصخصة ،عبر طرح عدد من الشركات والمصانع المملوكة للدولة وعددها 16 شركة بقطاعات الصناعات الغذائية والغزل والنسيج والكيماوية وغير المعدنية للبيع عبر البورصة وعن طريق عروض مزايدات الاستحواذ المباشر. كانت هذه هي الموجة الأولى ضمن موجات تالية تعتزمها السلطات.

كما طرحت الحكومة شرائح شركات لم يسبق طرح أسهمها في السوق وعددها 41 شركة مع استمرار البيع إلى ما يتجاوز 50% من الأسهم في قطاعات الصناعات الغذائية، والغزل والنسيج والهندسة والصناعات المعدنية وغير المعدنية والمقاولات والإسكان، وطرح 14 شركة بالكامل للبيع في قطاعي الصناعات الغذائية والصناعات الهندسية وبيع 36 فندقا وطرح شركات التجارة الداخلية للبيع، مثل صيدناوي وعمر أفندي وبنزايون وهانو وجاتينيو وشيكوريل والصالون الأخضر وغيرها.

والنتيجة أن موظفو الحكومة وجدوا أنفسهم في مواقف ضعف مقارنةً بموظفي القطاع الخاص، في حين لعبت وزارة العمل ومعها النقابات العمالية الخاضعة كلياً لسيطرة الدولة عبر الأجهزة الأمنية دوراً كبيراً في الإجهاز على حقوق العاملين في الشركات والمصانع المباعة لصالح المستثمرين المشترين. حسبما رصدت دراسات أكاديمية.

يضاف إلى ذلك أنه مع توقُّف الحكومة تقريباً عن توظيف الخريجين، تراجع دور القطاع الخاص في التوظيف هو الآخر، إلى جانب تراجع دور الدولة والنقابات في التدخل لحماية حقوق العاملين في مواجهة صاحب العمل، فتراجعت الرواتب والامتيازات، وزادت ساعات العمل وتراجعت درجات الأمان والسلامة ولم يعد الحق في الرعاية الصحية أو الاحتفاظ بالوظيفة أو التعويض في حالات إصابات العمل حقوقاً مكفولة للعاملين.

يناير ويونيو والأمل الموؤُد

بعد قيام ثورتين في غضون أقل من 3 سنوات (25 يناير/ كانون الثاني 2011، و30 يونيو/ حزيران 2013)، خرج الشعب مطالباً في كلاهما بفرص عمل حقيقية، وحياة كريمة، لا يبدو أن الواقع تغير، ولا أن هناك مؤشرات لتغيُر قريب. وعلى الرغم من أن أحدث مؤشرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى تراجع معدلات البطالة، بسبب احتواء المشاريع القومية مع الأخذ في الاعتبار كون قطاع لا يستهان به منها، عمالة مؤقتة لا تتمتع بدرجات مقبولة من الحماية من الأخطار أثناء العمل. كما أنه لا توجد أية مؤشرات على إسهام تلك المشروعات في تحسن الأوضاع الاجتماعية، خاصة مع تعاظم تورط البلاد في فخ الاستدانة التي لا توجه حصيلتها إلى مشروعات إنتاجية. ولا يبدو من التصريحات الأخيرة لرأس السلطات في مصر أنه هناك أية توجهات لمراجعة تلك السياسات.

نتاج تلك السياسات الاستثمارية هو ارتفاع معدلات الدين الخارجي لمصر، إضافة إلى زيادة قوة إمبراطورية الجيش الاقتصادية، والتي تتولى الإشراف على تنفيذ المشاريع القومية، أي أنه حتى القطاع الخاص لم يعد بنفس القوة كما كان في السابق، ولم يعد هروب رؤوس الأموال قاصراً على الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تحتاجه مصر بشدة ولا تجده بسبب سوء مناخ المنافسة، بل باتت رؤوس الأموال المحلية تهرب من مصر إلى الاستثمار في دول عربية أخرى لا تتمتع مؤسساتها السيادية المسلحة بذات التوسع والسيطرة على السوق والاستثمار.

كانت مجلة “ إيكونوميست” الأمريكية قد أفردت تقريراً خاصاً حول المنافسة الغير عادلة لشركات القطاع الخاص مقارنةً مع الشركات المملوكة التي تتمتع بإعفاءات ضريبية، بالإضافة لشركات القوات المسلحة، ونتيجة ذلك هو إعاقة النمو في مصر، حيث انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر من 3.4 % من الناتج المحلي الإجمالي في سنة 2016-2017 إلى 1.3 في 2021-2022.

ونتيجة لذلك؛ اتجهت الدولة لبيع حصصها في الشركات التجارية إلى دول الخليج، كي تتمكن من تمويل احتياجاتها الدولارية العاجلة لشراء السلع الغذائية والوقود، وسداد الديون والفوائد.

يضيع وسط كل هذه الحسابات والمشاريع، وجدواها من عدمها، جيل كامل من الشباب المصرية، يظل يبحث كثيراً بعد تخرجه عن وظيفة، وما إن يجدها، يقع تحت رحمة الشركات الخاصة، التي تُجبرهم على ساعات عمال كبيرة جداً، من دون راحة أسبوعية تقريباً، بفتات الأموال.

أحد هؤلاء الشباب هو المهندس إبراهيم مرشدي الذي يعمل في إحدى شركات الإنشاءات النشطة في العاصمة الإدارية الجديدة. يقول مرشدي:" ظروف العمل في كل شركات المقاولات غير آدمية، نتحمل ضغوطات كبيرة جداً، وأحياناً لا نحصل على إجازات أسبوعية من أجل إنجاز هذه المشاريع، ولا نحصل على ما يكافئ ذلك الجهد من أموال، رغم أن كل ه1ا مخالف لقوانين العمل."

ويضيف: "تعمل أكثر من 90% من هذه الشركات بدون نظام تأمينات طبية واجتماعية على العمال والموظفين، ولا يمكننا أن نطالبهم بذلك، لأنه يوجد مليون شخص بالخارج يبحث ويتمنى فرصة العمل التي حصلنا عليها، وهو ما يجعلنا مضطرين لمثل هكذا ظروف".

تواصلنا في رصيف22 مع محمد منصور، وهو مهندس مشروعات (مؤقت) لدى شركة بتروجيت الحكومية، وسألناه عن ظروف العمل في واحدة من أكبر الشركات المصرية سواء في قطاع البترول أو قطاع الإنشاءات، وقال: "أعمل منذ أكثر من خمس سنوات في شركة بتروجيت، ولكن كمهندس مؤجر". وهو ما يفسره بأن الشركة تعتمد على مقاول خارجي يورد لها مهندسين، يعملون باليومية من دون أي نظام تأمينات طبية أو اجتماعية، ويأخذ هذا المقاول نسبة على كل مهندس يعمل في المشروع، مع وعد بالتعيين في الشركة في أقرب فرصة.

لكن - بحسب منصور- "الوضع كارثي، فأنا أعمل منذ خمسة سنوات بهذا النظام، مضطراً لعدم وجود فرص عمل، ومع أمل التعيين، وبالرغم من خوضي ونجاحي في كل الاختبارات التي تسمح بتعييني. الشركة تتعلل بأن التعيين فيها يلزمه إمضاء من وزير البترول نفسه". واختتم: " أن هذا النظام لا يسري فقط على المهندسين، بل على العمال أيضاً، ولكن ليس أمام أحد منهم خيار، فإما العمل بهذا النظام، وإما البطالة".

تذكرنا هذه القصة بما كان يحدث في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي من مقاولي الأنفار، التي كانت مهمتهم الرئيسية توريد العمالة للعمل في مشاريع قومية مثل السد العالي، وغيرها. كانت مشاكل العمال وظروف العمل الصعبة في هذه المشاريع محل نقد لعقود تالية، بل أصبح ذِكر معاناة العمال في هذه المشاريع أحد الأركان الرئيسية في التأريخ لهذه المشاريع، مثل تناول معاناة "حراجي القط" بطل ديوان الرسائل الذي يحمل الاسم نفسه للشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي. إذ أفرد الشاعر بعض قصائد الديوان لبيان شكاوى بطله لزوجته من مقاول الأنفار.

يبدو أن الوضع يعود تدريجياً لما كان عليه في العهد الذي تدينه دولة يوليو التي لا تزال تحكم مصر وتطلق عليه عهد الإقطاع، فأصبح هناك عامل مشترك بين جيلين من الموظفين، وهو المعاناة، جيل لا زال يعمل في الوظائف الحكومية، ثم يجد نفسه فجأة على المعاش، ولم يحقق شيء يذكر. وجيل آخر، يتأرجح بين البطالة، أو العمل تحت رحمة شركات القطاع الخاص، وفي مشاريع ستنتهي قريباً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard