تحيلنا الدائرة، والرسم الدائري على الأرض، في الإنثروبولوجيا، إلى دلالات التسوير والحماية والتحريم، وكل تسوير تقديس. فالدائرة –وفق معجم الرموز- أمتن الأشكال الهندسيّة وأكثرها قوة ومناعة. في هذا التشكيل بمعانيه، تطالعنا رقصة المولوية أو رقصة الدراويش، وبالمثل الدبكة، وهي رقصة شعبية في بلاد المشرق واليونان. غير أن المُلفت في الرقصتين، حيث روح الجماعة تسود، هو اتجاه حركة الدوران المتعاكس في الأصل والتأسيس.
جماعة تتناغم مع الطبيعة والكون في طوافها
المولوية رقصة صوفية أسس لها ووضع قواعدها المتصوفة، واشتُهرت بأداء الحركة الدوارة حول مركز الدائرة التي يقف فيها الشيخ، حيث يدخل الدراويش ويدورون عكس عقارب الساعة ثلاث مرات، برمزية دوران الآدميين "حول الذات وسرّ الذات ونور الذات". والرقم ثلاثة للدورات يشير إلى مراحل التقرب إلى الله، بما هي طريق العلم والمعرفة، وطريق الرؤيا، وطريق الوصال أو المشاهدة.
أما فيما يتعلق باتجاه الدوران عكس عقارب الساعة، فيوحي بأنه عكس الزمان الفيزيائي بالتعبير الأنطولوجي، وهذه إشارة إلى تخلص المتصوفة وتحررهم من قيود الزمان، وولادتهم من جديد بعودتهم إلى مصدر انبعاثهم.
يقول الرومي: "إن الأرواح التي تكسر قيد حبس الطين والماء تكون سعيدة القلب، فتصبح راقصة في فضاءات عشق الحق لتكون كالبدر في تمامه". إذاٌ، هذا الرقص سبيل لتجاوز الذات الإنسانية في عبورها إلى المعشوق، وانخطافها في حالة الوجد.
المولوية رقصة صوفية أسس لها ووضع قواعدها المتصوف جلال الدين الرومي، واشتُهرت بأداء الحركة الدوارة حول مركز الدائرة التي يقف فيها الشيخ
إذا كان المتصوفة يبتغون غياباً عن الزمان في حضرة المعبود، فـ"الدبيكة" هي علاقتهم بالزمان والطبيعة بموجوداتها، وبحركة دوران الفصول، التي تبرز وثيقة الصلة إذا ما تتبعنا جذور الدبكة، لا سيما اللبنانية الجبلية التي تستبطن عناصر طقسية تعود إلى بقايا رقصات وثنية. لكنها ممارسة فنية ترجع إلى بيئة من التبادل البدائي لجماعات تمارس التعاون الإنتاجي في ما بينها، مثل "العَونة" (أي التعاون والمساعدة مادياً وفي العمل).
ثقافة مؤلفها الكائن التاريخي الجمعي
في كتابه "إن كان بدك تعشق... كتابات في الثقافة الشعبية" يورد الكاتب اللبناني فواز طرابلسي قولاً للناقد الروسي فلاديمير بروب في الثقافة الشعبية وقد شبهها باللغة، حيث لا مؤلف فرداً لها، بل إن مؤلفها هو الكائن التاريخي الجمعي، بعكس منتجات الثقافة "العليا" بوصفها نتاج أفراد. ويتابع بأن الرقص الشعبي حمال دلالات وطقوس.
في المجتمع الريفي يتجلى صراع الإنسان/الفلاح من أجل البقاء، بين جماعة متماسكة والطبيعة. والدبكة تعبير عن هذا التماسك وبناء العصبية في إعادة إنتاج الجماعة، حيث يذوب الفرد في الكل. رقصة تتشكل جسماً جماعياً راقصاً واحداً، يتخذ طابعَ تحدي الآخر في استعراض القوة تارةً، وتحدّي الأرض تارة أخرى. تتشارك معظم الدبكات بعدد من الحركات: الخطوات، ضربة الأرجل (اليسرى) على الأرض، القمز، التقدّم والتراجع من خلال الحركة الدائرية التي تتم عادةً من اليسار إلى اليمين.
يصنف طرابلسي الدبكات المشرقية على أساس الموقع الجغرافي وطبيعة الأرض، وليس بخلع صفات النسبة عليها، كأن تكون لبنانية، أو سورية، أو فلسطينية، أو أردنية، أو عراقية. بل ثمة دبكة السهل ودبكة الجبل ودبكة الجرد ودبكة البادية. وذلك أن لطبيعة الأرض تأثيراً في خطوات الرقصة والحركات والإيقاع. ويقول إن رقصة الجبل أسرع وتيرة وأكثر تقطعاً ورشاقة من رقصة السهل البطيئة متباعدة الخطوات.
عدم الوعي بالجسد في حالة الرقص دليل على اندماجه في الوجود، بوصفه ركيزة شعورية معيشة
رقصة الدبكة –الجبلية على وجه الخصوص- تنطوي على مجموعتين متناقضتين من الحركات: حركات الدوران والتكرار الأفقية، وحركات القمز وضرب الأرجل في الأرض العمودية. وهي في مجموعها تختزل دلالة الرقصة في علاقة الجماعة بالطبيعة، من خلال رمزية الحركات الدائرية المنسجمة مع تعاقب الفصول والمواسم، ودلالة الحركات العمودية التي تتحدى الأرض، تدقها كي تنفتح أبوابها وتعطي زرعاً وخصباً، ويتفتت صخرها ويهب ماءً.
فالجسد الفلاحي وهو ينكش التراب، يتجسد في الرقصة، بتقدم رجل الفلاح اليسرى إلى الأمام ومشيته المتهادية يمنة ويسرة، فضلاً عن الـ"هاه" التي يطلقها مع كل ضربة معول تكون عوناً له على زيادة زخم الحركة، لتترجم صيحات صاخبة فرحة في الرقصة.
نلاحظ إذاً التباين بين الاندماج في الطبيعة، والتمسك بها والتماهي الحركي مع فصولها، بما يعود من خيرها على الإنسان في خوفه من الجدب، كما في الدبكة، وبين رفض العيش في اليومي والانغماس فيه، على قاعدة ترك كل شيء بغية امتلاكه بكليته، كما في الرقص الزهدي للدراويش. وهو تباين ظاهري، أما في العمق –كما أرى- فثمة غاية واحدة، وإن اختلفت طرائق الجماعات في التعبير، تتجلّى في البحث عن الوجود ومعنى الوجود.
الأنا المتجسد
مسألة الجسد في مفهوم الرقص الصوفي مسألة شائكة، وليست كذلك في الدبكة، في تعبيرها الأكثر التصاقاً بالمعيش في المجتمع. فالدرويش لا يعلي من قيمة الجسد، ويحاول من طريق الزهد به وتغييبه أن يوجد في حضرة الإله، ولا يتأتى له ذلك إلا بالجسد الراقص الذائب في الدوران. فهو من خلال نفيه يؤكد حضوره وأهميته.
غاية الراقص ألا يعي بجسده، ويرتكز على كبت شعور التجسد الذي لن يكون الإنسان مع ذلك موجوداً من دونه. ولكن عدم الوعي بالجسد في حالة الرقص الدوار سبب ودليل على اندماج الجسد في وجوده، بوصفه ركيزة شعورية معيشة. فهل يسكن الدرويش جسده كربّان في سفينة (بتعبير مِرلو-بونتي في رده على كوجيتو ديكارت)، أو أنه يعيش جسداً مدمجاً في وسط العالم؟
ويجادل بونتي بأن ديكارت غيب العيني والحسي، وهمش حضور الجسد في الممارسة المعرفية في مقولته (أنا أفكر، إذاً أنا موجود). وفي رقصة الدراويش ثمة تغييب للفكر لا الجسد وإن تُوّهم عكس ذلك. ولكي نتبين المعنى نذهب إلى مفهوم "العالم المعيش" (من ابتداع هوسيرل)، وهو يعني عالم الحياة، ويشير إلى التجربة ما قبل العلمية التي يعيشها بشكل فوري أفراد بعينهم ومجتمعات وثقافات خاصة. كما يتحدد في أنه عالم ممكن للتجارب الذاتيّة الجماعية وللوجود الفعلي. وثمة عوالم معيشة بقدر ما هنالك من أفراد.
الدرويش لا يعلي من قيمة الجسد، ويحاول من طريق الزهد به وتغييبه أن يوجد في حضرة الإله، ولا يتأتى له ذلك إلا بالجسد الراقص الذائب في الدوران
فالجسد المعيش، بوصف الفينومينولوجيا، هو مكان الخبرة. إنه المحسوس بالمعنى المضاعف لما نحسّه. به وعبره، تتحقق الواقعية الإنسانية. وفي كل لحظة يمكننا قراءة العالم بالحواس، وتحويله –في حالة الرقص- إلى بنى مرئية، وصوتية، وحركيّة لبناء عالم المعنى. وحين تبلغ نشوة الراقص أقصاها تدمر اللغة، ليعود إلى حالة سابقة على وجودها (أي اللغة)، إلى الأصوات والصرخات التي كان يطلقها قبل تعلّمه اللغة.
لنفرحْ بأجسادنا... ونرقص
عدم الوعي بالجسد في حالة الرقص دليل على اندماجه في الوجود، بوصفه ركيزة شعورية معيشة. وإذا كان الجسد هو "العقل الأكبر" الذي يخلق الأفكار والأحاسيس، على ما يذهب نيتشه، فهذا يعني أن الجسد يمثل موضوعاً من موضوعات الوجود والمعرفة من طريق اتحاد المعرفي بالحيويّ.
جميل أن نردد مع زرادشت، في كتاب نيتشه (هكذا تكلم زرادشت) ما جاء من رأي في أهمية التناغم في الحركة وفي الرقص: "من يريد أن يطير في يوم ما، عليه أن يتعلّم أولاً كيف يقف ويمشي ويركض ويتسلق ويرقص. حتى أسوأ الأشياء لها قدمان للرقص. ليكن يوماً ضائعاً من حياتنا كل يوم لا نرقص فيه مرة واحدة".
في الرقص سرّ السعادة والتصالح مع العالم حين يصل الإنسان بخيباته وفجائعه حدّ الرقص- الرقص وسط الخراب الجميل- كما فعل "زوربا" بطل الروائي نيكوس كازانتزاكي. أن نرقص يعني أن نندرج بكليتنا في حالة تنشدها الروح والنفس والجسد معاً، ولا شيء سوى هذه الحالة الانعتاقية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...