(1)
أحكم رشيد إغلاق الستارة، وقرر الاتصال بمطعم للأسماك، فعاجله رنين الجرس. توالي الطرقات لم يجعله يكتفي بالاعتدال في مكانه بالصالة، فدخل حجرة سونهام، وترك الباب مواربا، وحرص على ألا يرتمي ظله في الممرّ.
اندفع الباب مفتوحا بشدة طرقات صاحب يد غليظة، ومن خلفه شرطي شاب كسير العين. أصدر الغليظ أمرا اخترق أذنيها.
رشيد؟ لعل أحدا رصده. لو اقتحم البيت لوجده في حجرة بها لوحتان عاريتان، وكتب إنجليزية في الشعر والآثار. أي تهمة ستوجه إلى رشيد المحامي؟ لا يحتاجون إلى تهمة لسجن أحد أو إخفائه. ومن يختفي لا يجرؤ أحد على السؤال عن مصيره.
لم يجرؤ رشيد على الاقتراب من باب الحجرة، مخافة أن يكون الآخر قد خطا، ودارت عيناه في الصالة، وبحث في الممرّ عن ظل.
ـ حضرتك أخطأت العنوان. هنا بيت الدكتور فوزي وزوجته سونهام القاضي. أنا سونهام بنت المستشار...
ـ لا يهمني اسم صاحب البيت، باختصار لنا عندكم رهينة.
ـ رهينة؟
رشيد؟ فتح الجهاز وأراها صورة، فسألته:
ـ نايان؟ ابني؟
ـ ابنك؟
ـ نعم، اسمه نايان.
ـ هاتي القط نايان.
الرجل لا يريد رشيد، وغير معني بوجوده. خافت على نايان، ولا تدري لماذا يطلبه رجل لا تدل هيئته على أنه طبيب بيطري؟ ولا يحمل تابعه المسكين أدوات طبية. بحثت عن نايان المختبئ مع القطة رانو. ورآها رشيد تمرق، ولا تلتفت إليه، ولو بغمزة تنهاه عن الكلام. كانت نحيفة عن أي مرة. وبدا نايان في حضنها مرعوبا من شراسة عيني الرجل. سألته: هل هو مندوب هيئة الطب البيطري ويريد تطعيمه؟ ليشمل ذلك "رانو"، لكنها حامل. وسألته: هل التطعيم يؤذي الأجنّة؟ فأدار الغليظ أصابع يمناه بموازاة أذنه، ليفهم الشرطي أن المرأة ممسوسة. قبض على القط، وألقاه إلى الشاب. وانصرفا صامتين.
كيف يصدق رشيد ما جرى؟ هل هذه حقّا السيدة الأنيقة التي تدير الرؤوس أينما تذهب؟ «الليدي»، أيقونة الجمال وإن لم تلتفت إلى هذا الجمال. لا تتعمد سونهام بابتسامتها إخفاء عطشها طوال ست سنين، ومن اعتياد الظمأ لا تشعر به
بكت، وأراد رشيد مصارحتها بما يعرفه. المصارحة تصعد بالحزن إلى أقصاه، ثم يذهب تدريجيا.
ـ افقدي الأمل في نايان، بعد دقائق تلقى جثته في الزبالة.
ـ نايان؟
نايان بالنسبة إليهم قط بلا اسم، حيوان، لا حرمة لروحه في بلد لا حرمة فيه لأرواح الآدميين. هم يحافظون على الكاميرات الأكثر تطورا، ترثها ذبابة بعد أخرى، تموت بانتهاء عمرها الطبيعي، أو بافتراس حيوان أو طائر لها. ومن سوء حظ نايان أن ذبابة تحمل كاميرا متطورة ضلت طريقها، والباب مفتوح. وترصّد نايان للذبابة، وقفز فالتقمها، وأوقع الطفاية. آخر صور كاميرا الذبابة كانت لنايان، واختفت من شاشة الرصد، فأرسلوا صورة نايان إلى أقرب وحدة ميدانية، للإسراع إلى الموقع، وإحضار القط قانص الذبابة قبل أن تهضمها معدته. أهل الغائبين لا يتجاسرون على السؤال عنهم، وينتظرون معجزة تعيدهم، ومعجزة تبقيهم أحياء لا يلقون مصائرهم، والمعجزات لا تشمل القطط.
ـ قطط؟ نتكلم عن نايان.
ـ لا يعنيهم اسمه، هو حيوان يحوز كاميرا.
بكت، وهممت. ولم يسمع جيدا. احتضنها حضنا قويا آليا يُذهب الخوف، ويلبي حاجتها إلى الطمأنينة. وحاول بالقدر نفسه أن يبتعد، وهي تشجعه على الاقتراب، ويشعر بصدرها ضامرا؛ فلا يتشجع. ولم تعجزها الفطنة عن فهم تلعثمه. وانتفض جسده انتفاضة من لم يمسّ امرأة قط، من فاجأه مستحيل بالتحقق، حتى كاد ينكر وجوده، هنا والآن، لولا قولها إنها محظوظة، وإنها رأت هذه اللحظة، عاشتها في زمن سابق، في تناسخ تغيم تفاصيله. حلمت باسترجاع اللحظة ولم تفاجأ بها، وفوجئ رشيد وارتبك. تجاسرت على المبادأة، وواصلت التصاقا يلائم امرأة تنقصها التجربة، ولم يستطع ضبط نفسه، وتفصّد جسده عرقا تتلمسه يداها على ظهره، وتتصيده من صدره. ويسري في دمه سحر، فيخجل ويسكت، وهي تحسّ نبضه.
اعتذر عن قلقه واضطرابه؛ فجرى ما لم يستطع منعه. ودخل الحمام، وطلبت إليه خلع البنطلون؛ لتجففه بالمكواة. رفض الفكرة، ومازحته:
ـ حرام عليك إهدار الكائنات!
ـ الكائنات؟
ـ أغضبتك الكلمة؟ هي فعلا كائنات.
ـ لا أحتمل فكرة حرقها بالكيّ.
ـ أنت جميل يا قلبي. هي مشاريع كائنات. ما الفرق بين قتلها بالكيّ؛ لتجفيف البنطلون، وإلقائها في المجاري بالغسل؟
ـ الغسل اضطرار لا نرى فيه موت «الكائنات»، على العكس من تعمّد الحرق.
ـ طُرقٌ نهايتها الموت والسلام.
ـ إذا اشتعلت النار في سفينة، ألقى ركابها وأولهم مَن طال الحريق ملابسهم أنفسهم في البحر، وهم يعلمون بغرقهم. هذا هو الفرق.
ـ بقي فيك حيل للفلسفة؟
ـ ترعبني فكرة القتل.
ـ كما تحب.
اقتربت من السمك المغلّف بإحكام على الطاولة. ومن الصهد والرائحة عرفت أنه محتفظ بحرارته، واستعجلت رشيد. رآها في المرآة، وواصل غسل البقعة. رمقت مؤخرته، وبكلتا يديها صفقتها بدلال. وسألته:
ـ مغرية. أظن أنني أبلغك باكتشاف أنها حلوة.
همهم رشيد. هل يعجبه كلامها، ويحلو له سماع شيء يجهله عن نفسه؟ أمْ يستخف بما تظنه اكتشافا، ولا يخفى عليه؟ فسألته: هل أخبرته أي من نسائه بذلك؟
ـ نعم.
ومن الخلف طوقت جسده، والتقت كفاها على صدره. شبّت وأطلت من فوق كتفه. هالها المبسوط، برأس مستقرّ في عمق الحوض. فأغمضت عينيها، وفتحتهما، وهتفت:
ـ Wow! It is great.
احتفظ بثباته حتى عصَر البقعة المغسولة، واستدار. ولحقته بالدهشة في الممرّ.
ـ قلت إنك تحفة يا رشيد. لا بدّ أن أرقيك.
رواية "2067" لسعد القرش تصدرها قريباً المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ويبحث فيها الكاتب عن أشكال المستقبل المتوقعة ضمن إطار قصة حبّ بين محام ومرشدة سياحيّة
(2)
كيف يصدق رشيد ما جرى؟ هل هذه حقّا السيدة الأنيقة التي تدير الرؤوس أينما تذهب؟ «الليدي»، أيقونة الجمال وإن لم تلتفت إلى هذا الجمال. لا تتعمد سونهام بابتسامتها إخفاء عطشها طوال ست سنين، ومن اعتياد الظمأ لا تشعر به. امرأة يفرط زوجها، الدكتور فوزي، في نشر صورها، مع توثيق زمان الصورة ومكانها، وحرصه على جماليات الصور.
سونهام، لمن يراها، جمرٌ يغوي من حيث لا تقصد، تلهم وتستعصي. هي نفسها، لمن يدنو منها، عقلٌ خالص، لا يبالي بالعواطف، ولا يأبه للحب سواء في التحقق والغياب. امرأة أجلّ من أن يحظى بها زمن واحد، وأكبر من أن يستأثر بها رجل أيّا كان. لا تبارى ولا تدرك بالحواس. هل اصطفت رشيد حقا؛ فأسكره حضورها واصطفاها مشتهيا، وكارها هذا الاشتهاء؟
لم يصدق رشيد ما جرى، وحاول أن يستوثق، فقرر الرجوع إلى بيته على قدميه، لعل البرد يفيقه؛ فيدرك أنه يحلم، أو يصاب بنزلة برد فيلزم الفراش، تكفيرا عما كان يجب ألا يقترفه. فكيف يواجه الدكتور فوزي؟ لو دقق النظر في عيني رشيد لرأى سونهام تبتسم.
مشى بمحاذاة النيل، وأنعشت ريح النهر ذاكرته. كيف تتسع بضع ساعات لموت وحياة؟ القداس، وقتل نايان، وتجدّد حيوية تعيده إلى البيت على قدميه. لكن نشوة التفرد بالظفر لا تنسيه فوزه بسونهام، بها لا عليها، فمثلها لا تنتمي إلى الطرائد، ولا إلى الصيادين.
إذا كانت نزوة، فبعد السكرة إفاقة، ونفس تلوم وتحاسب، ويستجيب رشيد للوم والمحاسبة بالإغراق في العمل، واختبار المشاعر بالتجاهل القاسي على النفس.
"الانشغال لا يمنع أن أرك هنا بالنهار، ولو مرة. لما تحضر ليلا أشعر بالإهانة. من أحلامي أن أصحو فأرى وجهك، ولا أملك حق طلب بقائك للصبح. تعال في النور"...
(3)
رأى أن يصارحها، في استرخائهما على الكنبة المبسوطة سريرا في حجرتها، في دفء ربيع لا يُحوج إلى غطاء ولا يهدد بالبرد بعد الإجهاد والعرق. وفي النشوة، قال إنه يتخيل أحيانا أنهما لا يفترقان. يخرجان ويتسوقان ويسافران معا، ويقدمها إلى أصدقائه بفخر: «المدام».
عدلت صورة زوجها التي كفأها رشيد، كالعادة، كلما جمعتهما الحجرة.
ـ المدام! أنا؟
ـ نعم أنت.
ـ أتزوجك أنت؟
ـ نعم أنا.
ـ أنت سكران؟ أستغرب أنك على غير العادة سكرت، ولا تعي سخافاتك.
ـ سخافاتي؟
ـ نعم سخافاتك. أتزوحك أنت؟
ـ لا داعي للزعل. أسحب كلامي.
ـ العاقل لا يخطئ، فلا يضطر إلى ذلّ الاعتذار.
الغلاف الخلفي للكتاب
- الانشغال لا يمنع ان أرك هنا بالنهار، ولو مرة. لما تحضر ليلاً أشعر بالإهانة. من أحلامي أن أصحو فأرى وجهك، ولا أملك حق طلب بقائك للصبح. تعال في النور. ستعجبك الحديقة الخلفية، مشهد من خارج حي المنيل كله، ينقلك إلى أجواء مملوكيّة.
في النشوة، قال أنه يتخيل أحياناً أنهما لا يفترقان. يخرجان ويتسوقان ويسافران معاً، ويقدمها إلى أصدقائه بفخر: "المدام".
عدلت صورة زوجها التي كفأها رشيد، كالعادة، كلما جمعتهما الحجرة.
- المدام أنا ؟
- نعم انت.
- أتزوجك أنت ؟.
...
سعد القرش: روائي وصحافي مصري. عمل رئيس تحرير لمجلة الهلال (2014 ـ 2017). مما صدر له في الرواية: "ثلاثية أوزير" (أول النهار، ليل أوزير، وشم وحيد)، "باب السفينة"، و"المايسترو". وفي أدب الرحلة: "سبع سماوات". وأيضاً كتاب "الثورة الآن" (يوميات من ميدان التحرير).
...
جميع الحقوق محفوظة للمؤسسة العربية للدراسات والنشر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...