لا آخذ يوسف زيدان ومبروك عطية بجدّ. لم أصدق الأوّل عام 2014، ولا الثاني عام 2022. كلاهما "دكتور" وعد بالاعتزال، وأعجزه الوفاء، إخلاصاً لطبيعة خاصة كشفتها التجربة. كلاهما أعلن قراراً اختياراً، وتراجع عنه. لم يخضع القرار ونقض القرار لسطوةِ مؤسسةٍ ما، على العكس من نجوم تصنعهم مؤسسات ضخمة تتعهد بصناعتهم وتشييئهم، وبيعهم للجمهور.
في فيلم "الشقراء" لأندرو دومينيك، تتمنى فاتنة السينما الملاحقة بالأضواء أن تنجو من هوليوود، أن تذهب إلى عوالم أخرى، عوالم تشيخوف، أن تنتقل إلى نيويورك لدراسة التمثيل، "التمثيل الحقيقي". ضاقت "الشقراء" بدور وظيفي تجاري لحساب الأستوديو والمنتجين الذين يعتبرونها بضاعة. وقالت نورماجين: "أنا عبدة مارلين مونرو هذه".
هناك ما هو أخطر من العبودية القهرية لكيانات أكبر من قدرة الإنسان على تحدّيها. هذا الأخطر "هنا"، داخل الإنسان نفسه. يصير عبداً لذات تستأسد عليه وتهزمه، وبمضيّ الوقت يستعذب العبودية، في شعور أعمق من المازوخية المرضية. لذة الأضواء والتصفيق. في رواية الكاتبة الكوبية آنا ميناندس "في عشق جيفارا"، تقول كربالو، أستاذة التاريخ الكوبي بجامعة ميامي إن جيفارا "أشهر كوبي في العالم بعد فيدل... أشهر كوبي لدينا مولَع بذاته. أما ثاني أشهرهم فهو أجنبي"، وهو تشي الذي نجا من غواية السلطة، واحتفظ بنقائه الثوري. وفي الرواية يطلّ المصور جاكنتو كازار، المحارب السابق مع جيفارا وكاسترو، ويراقب نموّ عشبة التحوّل لدى كاسترو.
كان كازار رفيقاً لكاسترو، على الطريق من مدينة إلى أخرى، بعد أول أيام النصر، واصطفت الجماهير المستبشرة: "كنت أركب خلف فيدل على دبابة ونلوح للحشود... من أول الطريق لآخره يصرخ الناس على فيدل. فيدل يا منقذَنا. فيدل، هذا وطنك. شكراً يا فيدل. فيدل، يا مخلصنا. ووقت وصلنا بيامو لاحظت على فيدل لأول مرة تغيراً. وأظنه مذ ذاك اليوم بدأ يصدق نفسه هكذا. قبل، كنت أظنه مخلصاً للشعب والديمقراطية. وبعد، رأيته يتلذذ بالترحيب الملائم للملك الإله، وغيّر ذلك حتماً منه في العمق". لا أقارن بين كاسترو ويوسف زيدان ومبروك عطية. من رأى الأول، ولو في فيلم عن مارادونا، فهل يحتمل هذيْن؟
لم تدهشني هستيريا الاعتزال ولا التراجع عنه.
بيان سرعان ما انتهى مفعوله
يوم السبت 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2014 تم تعيين مدير مكتبة الإسكندرية إسماعيل سراج الدين مستشاراً لرئيس مجلس الوزراء لشؤون الثقافة والعلوم والمتاحف. في اليوم التالي، الأحد، فكر زيدان وقدّر. وفجر اليوم الثاني، الاثنين، نشر بياناً يعترض فيه على قرار الوزراء. عمل سراج الدين وزيدان معاً في مكتبة الإسكندرية سبعة عشر عاماً، رجل أول ورجل ثان، بينهما ما هو أكثر من العيش والملح. زيدان هدد بالتوقف عن العمل الثقافي تماماً: الكتابة في الصحف، والمشاركة في الصالونات والندوات واللقاءات الفكرية التي يقيمها في القاهرة والإسكندرية: "ولن أشارك من الآن فصاعداً، في أي حدث عام، ثقافي أو غير ثقافي، في مصر أو في غيرها".
لا آخذ يوسف زيدان ومبروك عطية بجدّ. لم أصدق الأول عام 2014، ولا الثاني عام 2022. كلاهما "دكتور" وعد بالاعتزال، وأعجزه الوفاء، إخلاصاً لطبيعة خاصة كشفتها التجربة. كلاهما أعلن قراراً اختياراً، وتراجع عنه
البعض من جمهور زيدان، كعادة الجمهور، صدق تلك الحمية، وخدعته النبرة الختامية للبيان: "لن أعود في قراري هذا، ما دام إسماعيل سراج الدين باقياً في مكانه كمدير لمكتبة الإسكندرية (أو تُعلن المحكمة براءته من القضايا التي يُحاكم فيها، بسبب أعماله في المكتبة)، وما دام الرئيس السيسي الذي بحكم منصبه كرئيس للجمهورية، هو بحكم القانون الخاص بالمكتبة رئيس مكتبة الإسكندرية، لم يتدخّل شخصياً في هذا الأمر الذي أراه دليلاً دامغاً، على أنه لا فائدة تُرجى من أيّ جهد ثقافي يُبذل في هذا الوطن المنكوب المسمّى مصر". انتهى البيان، وسرعان ما انتهى مفعوله. ولم يعدل رئيس الوزراء عن قراره، لكن زيدان عدل.
في الأدبيات الصحافية نكتة لعلّ لها أصلاً. بطلها الخواجة كوهين الذي نشر نعياً من ثلاث كلمات: "كوهين ينعى ولده". قد يكون عزَّ عليه غلاء سعر الإعلان، فقرر الدعاية لنفسه. ولعله أراد استغلالَ الفراغ الباقي في السطر، فأضاف: "ويصلح ساعات". وفي "حالة" زيدان، طرق حديداً ظنه ساخناً، فنشر في اليوم الثالث، الثلاثاء، استقالته من اتحاد كتاب مصر، بحجة شراء الاتحاد أسهماً في مشروع تطوير قناة السويس، وكذلك "تقاعس الاتحاد، ولا أقول خنوعه، عن مواجهة القرارات الحكومية الخاصة بالمناصب الثقافية واختيار مَن لا يصلحون لها، دون اعتداد بالمصلحة العامة، الطاعنون في السن، العراة عن الإسهام الثقافي، رموز النظام القديم الذين ثبت فسادهم".
زيدان يعلم ألا وصاية للاتحاد على مكتبة الإسكندرية، أو مكتبة قرية شبرا اليمن. زيدان، الرجل الثاني في مكتبةٍ رئيسها هو رئيس الجمهورية، يتكلم عن رموز نظام حسني مبارك! لا عجب أن يصمت طوال الثورة على مبارك، وبعد خلعه تأمّل المشهد، وكان مقامَ ثورةٍ حتى لمن يثورون ـوينظّرون للثورةـ بعد الثورة. فكّر وكتب "فقه الثورة". وبعودة نظام مبارك صار "فقه الثورة" مجرّدَ تراث. وما هكذا يفكر مبروك عطية الذي حسم أمره مبكراً، وربّى جمهوره على مهل، بعيداً عن وجع الدماغ والاستقطاب السياسي. حالة شعبوية بطلها يعرف متى يتكلم الفصحى، ومتى يهبط بالعامية ويتدنى بأدائها، ليعجب جمهوراً مقهوراً، ويواسيه بضحكة.
حسم مبروك عطية أمره مبكرا، وربّى جمهوره على مهل، بعيدا عن وجع الدماغ والاستقطاب السياسي. حالة شعبوية بطلها يعرف متى يتكلم الفصحى، ومتى يهبط بالعامية ويتدنى بأدائها، ليعجب جمهورا مقهورا، ويواسيه بضحكة
في حزيران/يونيو 2022 قَتل طالبٌ بجامعة المنصورة زميلته. المشايخ الرأسماليون محترفون، جاهزون بعدّة الشعل في السوق. ولا تفوتهم فرصة إلا أسهموا فيها بفتوى، ولو على طريقة الخواجة كوهين: "ويصلح ساعات". سارع مبروك عطية إلى لوم الضحية، واختزل الأخلاق في قطعة قماش تغطي شعر المرأة، زاعماً أن غطاء الشعر يقي المرأة شرورَ المرضى النفسيين، متناسياً أن كثيرات من المحجبات تعرضن أيضاً للقتل. قال: "حياتك غالية عليكِ، اخرجي من بيتكم قفة... لا متفصلة ولا بنطلون ولا شعر على الخدود. هيشوفك اللي ريقه بيجري ومعهوش فلوس هيدبحك". الخيار المبروكي: الحجاب أو القتل. وأمام عاصفة الهجوم أعلن اعتزال الظهور الإعلامي، والتوقف عن بث فيديوهاته.
أثبتت التجربة قدرةَ يوسف زيدان على احتمال الصيام الإعلامي أسبوعاً أو أسبوعين، وأمكن له التعويض بتكثيف الأنشطة. أما مبروك عطية فلم يصمد إلا ثلاثة أيام، ليلتين بالحساب الفندقي. وفي الشهر التالي أغضبه امتداح موعظة الجبل للسيد المسيح، وقال: "بلا السيد المسيح بلا السيد المريخ". وقع في المحظور. والأمان العلوي ليس مجانياً. إذا صدقتَ نفسك فعليك تقدير العواقب، ومواجهة مصيرك. أي إساءة إلى الإسلام، ونبيه العظيم، إذا امتدح مسلمٌ موعظة الجبل أو غيرها من مأثورات الأنبياء والفلاسفة والحكماء السابقين على الأديان الإبراهيمية؟ الجمهور ربما تضحكه فقرة كوميدية، لشيخٍ يظنّ الفجاجةَ وثقلَ الظلِّ فكاهةً. هذا الجمهور لا يتسامح مع الإساءة إلى العقائد.
جوع الشهرة
الجوع إلى الشهرة، وما تثمره من مكاسب مادية، سببٌ كافٍ للضعف البشري. معركة ضارية بين عبودية مختارة وحظوظِ الإنسان مما يعصمه من القواصم. هناك متحققون يفوزون بالاستغناء. والبعض يتخلى عن الوقار، فيسعى وراء الرائج، ويختلق قضايا للإلهاء العمومي، وربما تُفرَض عليه ضمن أدوارٌ مطلوبة، ولا يتورّع عن الفتوى الدينية والتاريخية. تمنّـيت أن يطلب أحدهم، ولو مرة، إرجاءَ الإجابة، حتى يراجع معلوماته، ويتثبت من شيء. يفتي مبروك عطية بتسميم قطط الشوارع، لأنها تزعج السكان على سلالم العمارات. وقصَدَه أحدُ المشاهدين في مشوار صلح، فسأله: "هاتدفع لي كام؟". وأحسن كورونا بحجْبه فترة، فأطلّ بفيديوهات منزلية، ليرينا جمال الستائر والجلباب وطاقية بابا نويل.
إذا كان لا بدّ من نقضِ أسطورة صلاح الدين الأيوبي، ففي الدراسات التاريخية وحلقات البحث، لا في برنامج إلهائي يقدّمه مذيع تافه، فينفعل زيدان قائلاً: "صلاح الدين واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ"
أشفق على الدكتور مبروك عطية، وليس بيننا معرفة. وبيني وبين يوسف عيش وملح يدعوني إلى الأسف على فقرات يظنها كوميدية. لا يليق بباحث استمراء إطلاق الكلام الشوارعي. لا مجال لأفعل التفضيل في البحث العلمي. لماذا استهداف رمز شعبي صنعته أخيلة الأجيال على صورة تمنّوا أن يكونها؟ إذا كان لا بدّ من نقضِ أسطورة صلاح الدين الأيوبي، ففي الدراسات التاريخية وحلقات البحث، لا في برنامج إلهائي يقدّمه مذيع تافه، فينفعل زيدان قائلاً: "صلاح الدين واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ". لم يدّخر الصفة لبن غوريون. خطايا صلاح الدين لا تقارن ببضعة مجرمين أزهقوا أرواحَ أكثر من 60 مليوناً في حربين عالميتين.
كنت موظفاً عند غلاف روايتي "2067"
مناسبة هذا كله أنني نشرت في صفحتي على الفيسبوك، في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2022، غلاف روايتي "2067". وتوالت التهاني والمباركات. بضع مئات من إعجابات وتعليقات لطيفة، فلم تكن الرواية قد نشرت. وفوجئت بضياع ذلك اليوم، مراعاةً لآداب ردّ التحية، وعدم إهمال تعليق ولو برمز استحسان مماثل. تساءلت: ماذا يفعل النجوم غزيرو المنشورات، والتعليقات عندهم بالآلاف؟ هم مضطرون إلى التجاوب، لكيلا يفقدوا متابعين يبحثون عن يقينٍ يسهل أن يجدوه لدى مصدر آخر رائج ومطيع. عبدة الأضواء يتملقون المتابعين، شعارهم "الزبون دائماً على حق". الرأسماليون لا يضحّون بأي مستهلك، مثل ناشري الكتب الأكثر مبيعاً، ومنتجي "الفن النظيف"، استرضاءً لجمهورٍ أصابته لوثةُ النفاقِ الاجتماعي.
في هذا السياق أستدعي اثنين من الأذكياء. أولهما عبد الوهاب المسيري العائد من بعثته الأمريكية ليواجه "ذئب الشهرة". كان مسؤولاً عن وحدة الفكر الصهيوني بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في مؤسسة الأهرام. وفي سيرته "رحلتي الفكرية" يقول إنه، بسبب موقفه من السّلام مع "العدو الصهيوني"، وجد صعوبة في دخول الأهرام، ومنع من الاستضافة في الإذاعة والتلفزيون: "وجدت نفسي نكرة، ومن ثم بدأ جوع ذئب الشهرة ونهمه يتزايدان". ردُّ فعلِه على الصدمة اتخذ "شكلاً فريداً"، بالاهتمام بالعمارة الداخلية لبيته، واستكمال مشروعاته الفكرية. أما الثاني فهو نجيب محفوظ. عقب فوزه بجائزة نوبل قال إنه أصبح موظفاً عند السيد نوبل. لكن إرادة محفوظ غلبت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع