يحكي الروائي المصري يوسف زيدان في روايته فردقان- اعتقال الشيخ الرئيس، الصادرة عن دار الشروق "القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية، 2020"، جوانب من سيرة الطبيب والعالم والفيلسوف ابن سينا، انطلاقاً من مركز اعتقاله في قلعة فردقان التابعة لولاية همذان، في زمن حكم السامانيّين والبويهيّين لنواحي من الهضبة الإيرانية، في أواخر القرن الرابع للهجرة ومطلع القرن الخامس.
يحكي الروائي المصري يوسف زيدان في روايته فردقان- اعتقال الشيخ الرئيس، الصادرة عن دار الشروق "القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية، 2020"، جوانب من سيرة الطبيب والعالم والفيلسوف ابن سينا، انطلاقاً من مركز اعتقاله في قلعة فردقان التابعة لولاية همذان، في زمن حكم السامانيّين والبويهيّين
تفتح الرواية على وصف القلعة وصفاً دقيقاً، وعلى انهماك قائدها منصور المزدوج، استعداداً لاستقبال السجين البالغ الأهميّة، الذي وصلها متأخّراً يرفل بقيوده وأغلاله. ولا يلبث الكاتب أن يثير فضول القارئ عبر وصف الاهتمام الذي أحاط به القائد المزدوج سجينه والإكرام الذي عامله به، بما يتعارض مع مشهد وصوله ذليلاً على بغلته، وسرعان ما يكتشف القارئ أن السجين ليس معتقلاً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل هو مُبعَد أو منفيّ بالمعنى السياسي للكلمة، وذلك بناء على ما أسرّ له "الزَّعّاق" مساعد المزدوج، إذ أخبره أن هذا الأخير استلم "رقعة"، من الأمير سماء الدولة، الذي سمح باعتقاله ليخلّصه من القتل، يوصيه فيها بأنْ "أكرِمْه ولا تُهِنْه"، وقد شكّلت هذه التوصية مدخلاً إلى علاقة إنسانية وثيقة نشأت بينه وبين المزدوج وسائر المقيمين في القلعة، ومعظمهم سمع به من قبل وعرف أخباره. ويتحوّل ابن سينا إلى محور اهتمام كطبيب القلعة، يداوي ويعالج القائد وعائلته والجند وحتى السجناء، ناهيك عن دوره كمستشار ومرشد في خلال فترة الأربعة أشهر تقريباً التي أمضاها في القلعة.
يُخيَّل للقارئ أن هذا المدخل إضافة إلى العنوان الأساسي والفرعي يُهيِّئ لجعل القلعة بناسها ونظامها "بؤرة" تدور فيها وحولها أحداث الرواية الأساسية، متوقِّعاً أن يشهد عبرها معاملات وتفاعلات بين السجين وسجّانيه، تشكل محوراً أساسياً تظهر من خلاله معاناته، أو على الأقل مفاجآت مجهولة ومستجدة، واقعية أو من صنع مخيلة الروائي، تؤلف مادة لـ"عقدة" الرواية، وما تستتبعه من تشويق أو إمتاع فني عبر بنية روائية مشدودة ومتماسكة. والحال أنّ القارئ لن يجد شيئاً من هذا، بل سرعان ما نكتشف أن يوسف زيدان قد اتخذ من ظروف الاعتقال والقلعة منصة ينطلق منها ليروي أحداثاً ووقائع، هي مجرّد تكرار لمحطات من سيرة حياة ابن سينا، ولشذرات من علومه الطبية والعلمية والفكرية الفلسفية المُقتَبسة، حرفياً أحياناً كثيرة، والمعلومة تماماً عند المثقف العربي العادي، إضافة إلى أخبار سريعة عن أحوال السياسة والصراعات العسكرية في تلك الحقبة، وذلك عبر حبكة قصصية بسيطة وشبكة علاقات إنسانية سطحية ليس فيها ما يزيد ويغني.
فسيرة الطبيب معروفة، من البيت الذي ولِد فيه وتعلّمه على كبار المعلّمين ونباهته وذكائه المبكّرين، إلى ارتحاله عن بخارى مع أهله، ثم تنقلاته وحده إلى جرجان والريّ وهمذان وأصفهان، وهي الأماكن التي كانت مسرحاً لنشاط سياسي وعسكري محتدم بين أمراء وولاة تلك الحقبة، مع كل ما مرَّ به من ظروف أوصلته إلى الوزارة، سبب علو شأنه وانحطاط أحواله في آن معاً. فإذا أحداث الرواية تجري في مكان آخر قلَّما نجدها على علاقة بأحوال السجين في القلعة.
جوانب الخلل في رواية "فردقان" ليوسف زيدان، صاحب رواية "عزازيل" الفائزة بجائزة بوكر العربية للعام 2009، يحمل تساؤل عن المعايير التي تعتمدها لجان جائزة بوكر العربية في تقييمها الأعمال الروائية المرشحة لها
رواية بعيدة عن صفة الفن الروائي
كلّ ذلك أبعد الرواية عن صفة الفن الروائي بما يتطلّبه من بنية فنية وحبكة مدروسة متماسكة ومشوقة، تتطور فيها الشخصيات بحسب الطريقة التي يفترض بالروائي أن يديرها بها، فالمزدوج والزعّاق وماهيار، وحتى النساء اللواتي دخلن حياة ابن سينا، كلهم مجرّد شخوص باهتة مواكبة للحدث، وما حضورهم إلا ذريعة يستغلّها الكاتب للاستغراق في سرد الحكايات واستعادة الأحداث واستعراض فكر ابن سينا وعلومه وتجاربه وأعماله الطبّية، مُبعِدة الرواية عن محور أحداثها الأصلي، أي المعتقل.
وقد أثقلت هذه الاستعادات على الرواية، تاركة فجوات واسعة في سياق تطوّر الحبكة الأساسية، ناهيك عما تخللها من استباقات سريعة ذكّرت بما تبع الأحداث المروية من نتائج تاريخيّة معلومة في الزمن الحقيقي لوقوعها، من دون أن تزيد في إغناء العمل، كونها لا تمتّ بصلة إلى زمن الحكاية. وبذلك يكون زيدان قد وقع فيما حذّر منه الكثير من دارسي الفن الروائي ومنظّريه، ومنهم الباحث ابراهيم خليل، الذي يقول في كتابه "بنية النصّ الروائي"، نقلاً عن جيرار جينيت (Gérard Genette)" "... تتصف هذه الاسترجاعات بالخطورة، لأنها قد تؤدي في الرواية لمزيد من الحشو الذي يُفسِد السرد ويؤدي إلى الاضطراب...".
في روايته فردقان، سخّر زيدان الفن الروائي لبسط وتبسيط علوم ومعارف عزيزة عليه من الثقافة العربيّة والحضارة الإسلامية، وإلا كيف يمكن تفسير هذا الكمّ الهائل من الإسقاطات المجانية والعادية في متن عمله، حتى طغى عليه النفَس التعليمي والوعظي والتوجيهي
يحمل ذلك على الاعتقاد أن زيدان سخّر الفن الروائي لبسط وتبسيط علوم ومعارف عزيزة عليه من الثقافة العربيّة والحضارة الإسلامية، وإلا كيف يمكن تفسير هذا الكمّ الهائل من الإسقاطات المجانية والعادية في متن عمله، حتى طغى عليه النفَس التعليمي والوعظي والتوجيهي، من آراء منسوبة إلى ابن سينا في نشر الدين، وفي المذاهب وتناحرها بسبب الجهل، ومن تكرار لآرائه في النفْس والبدن والقيامة، ومن نقد مباشر لنظام الرقّ والعبيد، ومن آراء الجند ودورهم وطريقة معاملتهم، ومن كلام عن جدوى الكتابة وإبداء الشكّ في غايات الحياة والنفس البشرية، ومن رصف معلومات حول الكتب الشهيرة ومواضيعها، وذلك في عملية نقل حرفية في الكثير من الأحيان لما نطالعه في طيّات الكتب والمراجع.
الدور الطاغي الحضور، لا بل المتسلِّط، للروائي-الراوي الكلّي العلم
أيضاً، كيف يمكن أن نفسِّر هذا الدور الطاغي الحضور، لا بل المتسلِّط، للروائي-الراوي الكلّي العلم. نراه مثلاً يستدرج بطله ابن سينا عبر حواراته مع سائر الشخصيات إلى الكلام على حدث معيّن وقع له، أو لظروف تأليف كتاب أو ابتكار علاج، وإذا به يقطع سريعاً ويُصادر كلام البطل، ليتولّى هو نفسه رواية القصة بصيغة الغائب، في أسلوب سردي تقليدي رتيب، وكذلك قل عن مصادراته كلام سائر الشخصيات، وكأنّما يتنبّه إلى أسلوبه الرتيب هذا، فيعمد إلى تنميقه ببعض الأساليب البيانية (تشبيهات واستعارات مصطنَعة غالباً) والبديعية (موازنات وسجع)، تبدو لوهلة محشورة حشراً في سياق الكلام. لكن ما لا يتنبَّه له الروائي هو هذا الشرود بعيداً عن محور الرواية والحدث الأساسي الذي يدور حوله.
ولنا على ذلك مثل واحد من عدة أمثلة يمكن سَوْقها من روايته، ففي الفصل المخصّص لـ"سندس"، المرأة الأولى التي دخلت حياة ابن سينا في شبابه، والبالغ عدد صفحاته أربعاً وخمسين، يأتي على ذكر سندس عرضاً في أوله، ليغيب ذكرها وهي شخصية رئيسة في الرواية، ثلاث عشرة صفحة، ثم يستغرق خبر زيارته لها في بيتها لتطبيبها حيث باحت له بحبها في ثلاث صفحات فقط، ليغيب ذكرها مجدداً ثلاث عشرة صفحة أخرى، قبل أن تكتمل قصته معها في نهاية الفصل، ودوماً بشكل متقطع بسبب استطرادات واستعادات لا تأثير لها البتة في طبيعة علاقته بها وتطوّرها الدرامي، وهذا ما ينطبق على سائر فصول الرواية.
رواية السيرة
هذه الاستعادات والاستطرادات أضفت على الرواية طابعين، طابع رواية السيرة، وطابع الرواية التاريخية. بالنسبة إلى السيرة، رأينا أن الكاتب لم يضف الكثير إلى سيرة ابن سينا، باستثناء ما تخيّله من مشاعر وأحاسيس وانفعالات في حكاياته عن علاقاته الغراميّة الثلاث، والتي لم تتعمّق كثيراً في الكشف عمّا تركه ذلك من أثر في تطوّر شخصيّة ابن سينا وتبدّلها، لا بل ساق لنا ما هو معروف عنه من ميل جارف إلى الانغماس في الملذات وتلبية الشهوات الجسدية، وإن حاول أن يخفّف من حدّة هذه الفكرة المعروفة عنه، كأن يصوره متروياً كثيراً قبل أن يشرع في علاقته الجسدية بـ"روان"، الجارية التي أُهديت إليه وأحبها، وكأن زيدان أراد برواية وقائع هذه العلاقات الثلاث، أن يبين حرمان ابن سينا من السعادة الدائمة التي تتوق نفسه إليها خارج إطار العلاقات الجنسية التي لم يُحرَم منها، فسندس، المرأة الأولى في حياته، هي مثال الإثم الذي صُدِم به وجعله ينفر منها، ويأنف الزواج بها توخياً لسعادة يسعى إليها، ولم يسق الروائي هذه القصة إلا ليكشف، بناء على طلب ماهتاب وإلحاحها، عن السبب الذي دفعه إلى تأليف كتابه "البرّ والإثم"، من دون أن نجد تعمّقاً في مفهوم الفيلسوف لهذين الموضوعين. أما روان فقد مثّلت البراءة والطيبة مع ما تمتعت به من صبا وجمال، وقد خسرها أيضاً يوم اضطر إلى الفرار، عندما هاجم الجند بيته فوقعت أسيرة في أيديهم وسيقت جارية عبدة، وحاول بعدها كثيراً العثور عليها لاستعادتها إنما دون فائدة، ليخسر طيب العيش وهناءته معها، فيما مثلت ماهتاب الرائعة الجمال، مِثالَ المرأة المتعلمة والمثقفة والمرفهة وطالبة العلم حيثما تسنّى لها ذلك، أحبّها ليس لجمالها وحسب، بل لرقي فكرها وذكائها الثاقب وتعطّشها إلى المعرفة ومقارعة العلماء ومضاهاتهم، هي أيضاً غابت في النهاية على أمل لقاء لاحق لن يتحقق بعدها، لينقطع مجدداً حبل السعادة الذي كان يمنّي النفس بتواصله.
الرواية التاريخية
أما طابع الرواية التاريخي فنجده في سرد يوسف زيدان أحوال تلك الحقبة السياسية في الهضبة الإيرانية، وتناحر الولاة والحكام وصراعهم على الثروات والنفوذ، وقد يكون نجح في جانب ما في تبيان أثر ذلك على حياة الناس والعلماء والمفكرين من أمثال ابن سينا، وما سببه من انقلاب أحوالهم، علماً أن هذا الجانب معروف تاريخياً ومروي في غير مكان، فالرواية التاريخية ترمي أساساً إلى أهداف أعمق من مجرد السرد التأريخي، لتغوص في تفاصيل الحياة اليومية والاجتماعية للناس العاديين، هم عادة أبطال الرواية والشخصيات التي يختارها الكاتب، ولتبرز الجانب الإنساني في خضم الأحداث السياسية والعسكرية الكبرى. والحال أن زيدان وظّف هذه الأحداث بشكلها السطحي المعلوم، ليستكمل سيرة حياة ابن سينا ومغامراته النسائية، ملمّحاً إلى دور سياسي بسيط له في مجرى الأحداث.
كما أن الرواية التاريخية توظّف الأحداث، حقيقية كانت أم متخيلة، بغية تفسير نشوء أوضاع جديدة تؤدي إلى مصير جديد ما بعد الحدث التاريخيّ وصولاً إلى عصر الكاتب. وهذا ما لا نلمسه في الرواية، اللهم إلا في بعض التلميحات العابرة إلى بعض العلل الاجتماعية والسياسية التي أضعفت العالم الإسلامي ومجتمعاته، وما زالت تعصف به حتى اليوم.
فالكاتب يلمح مثلاً، ودونما تعمق في الأسباب والدوافع، في بعض تلك العلل، إلى المذهبية السائدة آنذاك، وما يقترن بها من تعصب وصراعات نتيجة الجهل، مقترحاً لها حلولاً مثل المحبّة عموماً، والشريعة للعوام، والعقل والمنطق للخواص، فهذه "أطواق النجاة" في نظر ابن سينا، والتي لم يشرح الروائي أبداً كيفية تطبيقها، ومنها الكلام على انقسام البويهيّين وتناحرهم فيما بينهم، فيما يبدو كإشارة إلى أحوال العرب في العصر الحديث، ناهيك عن الوعظ والتوجيه الإنساني في ما يتعلّق بالتمييز بين الطوائف، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الأحرار والعبيد. كل ذلك جاء في إشارات سريعة وعابرة، ليس لخدمة قضية كبرى، بل للإضاءة وحسب على شخصية بطل الرواية، وليظل هذا العمل الروائي بعيداً نوعاً ما عما تتصف به الرواية التاريخية وترمي إليه.
هذه بعض جوانب الخلل في رواية "فردقان" ليوسف زيدان، صاحب رواية "عزازيل" الفائزة بجائزة بوكر العربية للعام 2009، إضافة إلى حصدها جوائز أخرى والتي نالت إعجاب القراء وثناءهم في حينه، وهذا ما يحمل على التساؤل عن المعايير التي تعتمدها لجان جائزة بوكر العربية في تقييمها الأعمال الروائية المرشحة لها، فهل ينظر في الأعمال الروائية المرشحة على أساس موضوعها التاريخي الذي يبدو أن القيمين على الجائزة يؤثرونه، أم وفقاً للشروط التقنية التي تجعل منه أثراً فنياً إبداعياً، أم أن التقييمات تتقيد بالتوزيع الجغرافي على مستوى العالم العربي، أو بسمعة دور النشر وشهرتها أو بشهرة الكاتب واسمه الطاغي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...