يوم 31 آذار/ مارس 2018، انتقل الشاب التونسي، محبّ فريق كرة القدم، النادي الإفريقي، عمر العبيدي (18 عاماً)، إلى ملعب رادس لمتابعة مباراة فريقه، وهو ما اعتاد عليه.
حدثت بين شوطي المباراة مناوشات بين مجموعات ألتراس الفريق، وعناصر الأمن التي استعملت الغاز المسيل للدموع، ما دفع المشجعين إلى الهرب من المدارج، وكان عمر من بين الذين خرجوا ملاحَقين من قبل قوات الأمن حتى حدود وادي عميق، الذي يبعد مسافة كيلومترين اثنين عن الملعب.
وفق تصريحات شهود عيان، "فقد توسل حينها عمر بعض عناصر الأمن التي حاصرته ،بعد أن أنهكه التعب، قائلاً لهم إنه لا يعرف السباحة، غير أنهم أجبروه على النزول إلى الوادي آمرينه بـ’تعلّم العوم’، ومات عمر غرقاً".
تواتر الاعتداءات في حق المواطنين التونسيين، من قبل أمنيين، والتي نتجت عنها حالات وفاة، يطرح التساؤل عن أسباب تكرار هذه الانتهاكات ودلالاتها وعن الأطراف التي تتحمل المسؤولية
بعد خمس جلسات انعقدت أولاها بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير 2022، أصدرت محكمة بن عروس، مساء الخميس 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، حكماً بالسجن عامين اثنين ضد 12 عون أمن متهمين في القضية، بتهمة القتل غير العمد وعدم سماع الدعوى بحق اثنين آخرين وعدم سماع الدعوى بخصوص جريمة عدم الإنجاد وعدم الاستجابة للطلب الرئيسي المتمثل في التخلّي لأن القضية قتل عمد.
"عدالة عرجاء"
وفق ما نشره التومي بن فرحات، محامي عمر العبيدي، فإن هذا الحكم "من دون نفاذ عاجل، ما يعني بقاء المتهمين في حالة سراح إلى حين صدور الحكم الاستئنافي"، وعدّه "نكسةً جديدةً للعدالة العرجاء"، وأكد عدم الاستسلام والتراجع وملاحقة المتهمين داخل تونس وخارجها.
يوم الأربعاء 9 حزيران/ يونيو 2021، اهتز الرأي العام التونسي بسبب مقطع فيديو صادم يظهر بعض عناصر أمن تونسية في منطقة سيدي حسين السيجومي تعتدي بالضرب المبرح على طفل قاصر، وتجرّده كلياً من ملابسه وتقتاده عارياً إلى السيارة.
الحادثة وقعت خلال احتجاجات نفذها عدد من شبان المنطقة يوم 7 حزيران/ يونيو 2021، احتجاجاً على وفاة "مسترابة"، لأحد شبان منطقتهم في أحد مراكز الإيقاف، ما انبثقت عنه مواجهات بين الشبان وقوات الأمن.
وتعقيباً على الحادثة، أعلن الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية، خالد حيوني، يوم 11 حزيران/ يونيو 2021، فتح الوزارة تحقيقاً "حول ما رافق عملية التدخل من تجاوزات".
يوم الأربعاء 9 حزيران/ يونيو 2021، اهتز الرأي العام التونسي بسبب مقطع فيديو صادم يظهر بعض عناصر أمن تونسية في منطقة سيدي حسين السيجومي تعتدي بالضرب المبرح على طفل قاصر، وتجرّده كلياً من ملابسه وتقتاده عارياً إلى السيارة
ويبقى وصف هذا "الخطأ" بالسياسة الممنهجة وعدّه تصرفاً لا يمثل الوزارة، قائلاً إن إيقاف المذنبين "هو أكبر طريقة للاعتذار من قبل مصالح الوزارة".
وأصدر قاضي التحقيق في القضية، يوم الثلاثاء 29 حزيران/ يونيو 2021، بطاقة إيداع بالسجن في حق أحد عناصر الأمن المظنون فيهم، وإبقاء اثنين آخرين في حالة سراح.
ويوم 31 آب/ أغسطس 2022، تعرّض الشاب، ابن حي التضامن، مالك السليمي، لعنف من قبل بعض العناصر الأمنية، خلّفت له أضراراً جسيمةً جعلته يمكث في المستشفى ويتوفى فيها يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، ما أدى إلى وقوع مواجهات في المنطقة بين شباب الحي وقوات الأمن.
صدمة جديدة
لم يستفق الرأي العام التونسي بعد من آثار صدمة الحكم الصادر في قضية العبيدي، حتى استفاق مساء الجمعة 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، على خبر وفاة الشاب ربيع شيحاوي (22 سنةً)، بعد مرور 5 أيام على إيقافه في سجن المرناقية. وتداول رواد فيسبوك صوراً للفقيد تُظهر تعرّضه لتعذيب شديد.
في الأثناء، أذنت النيابة العمومية (العامة) في المحكمة الابتدائية في منوبة، بفتح بحث أمني للكشف عن ملابسات وفاة شيحاوي.
وقالت الناطقة الرسمية باسم المحكمة الابتدائية في منوبة، سندس النويوي، في تصريح إذاعي، إن السجين تعرّض لنوبتين قلبيتين، وتوفي قبل وصوله إلى المستشفى، فيما نفت الهيئة العامة للسجون والإصلاح تعرّضه لأي نوع من أنواع التعذيب أو الإهمال أو التقصير خلال فترة الإيداع التي قضاها في السجن.
تواتر الاعتداءات في حق المواطنين التونسيين، من قبل أمنيين، والتي نتجت عنها حالات وفاة، يطرح التساؤل عن أسباب تكرار هذه الانتهاكات ودلالاتها وعن الأطراف التي تتحمل المسؤولية.
وبين المنظمات الحقوقية التي تحمّل وزارة الداخلية مسؤولية إفلات منظوريها من العقاب، وبين النقابات الأمنية التي تنفي كل الاتهامات الموجهة إليها، يبقى المواطن التونسي البسيط "الضحية" في انتظار تحقيق العدالة والإنصاف.
سياسة ممنهجة
"حادثة وفاة ربيع تضاف إلى عديد حالات الموت المسترابة التي عرفتها مراكز الإيقاف والسجون التونسية خلال السنوات الأخيرة، ضمن المسار نفسه الذي يتكرر، إذ تسارع الجهات الرسمية إلى إصدار بلاغ لتحديد أسباب الوفاة من دون انتظار نتائج التحقيق"؛ يعلّق الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الناشط الحقوقي، رمضان بن عمر.
وأكد عمر، لرصيف22، ضرورة القطع مع مثل هذه الممارسات وكشف الحقيقة كاملةً حول ظروف وملابسات الوفاة وحق عائلة الضحية في متابعة كافة أطوار التحقيق بمعية محاميها لكشف حقيقة ما حدث.
حادثة وفاة ربيع تضاف إلى عديد حالات الموت المسترابة التي عرفتها مراكز الإيقاف والسجون التونسية خلال السنوات الأخيرة، ضمن المسار نفسه الذي يتكرر، إذ تسارع الجهات الرسمية إلى إصدار بلاغ لتحديد أسباب الوفاة من دون انتظار نتائج التحقيق
ويرى بن عمر أن الانتهاكات الأمنية موجودة في كل الدول، "لكن السياسة الممنهجة التي توجد حالياً في تونس هي سياسة التغطية على هذه الانتهاكات وتكريس الإفلات من العقاب بما يشكل دافعاً نحو مزيد من الانتهاكات التي بدأت تتصاعد ليس فقط في مراكز الإيقاف والسجون، بل كذلك في الفضاء العام".
وشدد على أن كل القضايا التي تكون فيها المؤسسة الأمنية طرفاً، تنتهي دائماً بالإفلات من العقاب، أو في أقصى الحالات بالتخفيف من الجريمة "كما وقع مع قضية عمر العبيدي"، وعلى أنها سياسة ممنهجة من وزارتي الداخلية والعدل للتغطية على الجرائم التي يكون أحد أعضاء المؤسسة الأمنية طرفاً فيها.
في المقابل، ينفي الناطق الرسمي للنقابة العامة للحرس الوطني أنيس السعدي، الرأي القائل بوجود سياسة ممنهجة للإفلات من العقاب من قبل المؤسسة الأمنية.
"ليست سياسةً ممنهجةً"
ويشدد على أن وزارة الداخلية هي أكثر مؤسسة عمومية تضم نسب عزل من الوظيفة، ولديها عدد من الأمنيين في السجون، وآخرون موقوفون عن العمل ومحل تتبعات وأبحاث إدارية، "ما يؤكد صرامتها في التعامل مع منظوريها"، يقول لرصيف22.
ويضيف أن الوزارة تحيل مباشرةً كل ما يتعلق بشبهات ارتكاب جرائم إلى القضاء، فيما تتعهد التفقديات والمؤسسات الرقابية داخل الوزارة بكل ما يتعلق بالأخطاء الصناعية والمهنية.
وأكد أن القضاء هو من يقرر ارتكاب أو عدم ارتكاب عون الأمن مخالفةً أو جريمةً أو اعتداءً وليست جمعيات حقوق الإنسان، وأن القضاء هو الوحيد الذي يحدد إن كان "التجاوز موجباً للعقوبة وربما لا يرتقي حتى إلى خطأ صناعي أو مهني".
ويقرّ أنيس السعدي، بحدوث تجاوزات وأخطاء وهفوات، "وهذا طبيعي وسيتواصل فالوزارة تعمل على مدار 24 ساعةً على كامل تراب الجمهورية، ولا يمكن لها ألا تقوم بأخطاء".
ويوضح أن جزءاً من هذه الأخطاء "هو نتيجة نقص التجهيزات وتكوين الأعوان وسوء تقدير الأمنيين في الميدان وربما بسبب خلفيات نفسية ومعنوية متعلقة بحياة الأمنيين المهنية وبظروف أسرهم الاجتماعية، لأن الأمنيين جزء من المجتمع ويعانون من صعوبات المواطنين العاديين نفسها".
ويؤكد أن هذه الأخطاء ليست سياسةً ممنهجةً وفق تعليمات وزارة الداخلية، وليست قياديةً ولا حتى جهويةً.
وفي شأن الأطراف التي تتحمل مسؤولية تكرر الانتهاكات الأمنية وتكريس سياسة الإفلات من العقاب، يحمّل بن عمر، وزارة الداخلية التي "يُفترض أن تبادر إلى كشف الحقيقة ومحاسبة المتهمين طبق تراتيبها الإدارية بالإضافة إلى المحاسبة القضائية"، المسؤولية.
"حبر على ورق"
وينتقد "حديث الوزارة منذ سنوات عن إصلاح الأمن والمقاربة بالحقوق، فيما أثبتت الوقائع أنه كان فقط حبراً على ورق"، ودعا إلى ضرورة مراجعة جذرية لمسألة تكوين الأمنيين والآليات الرقابية.
كما حمّل أيضاً وزارة العدل والقضاء المسؤولية، القضاء "الذي للأسف شارك في مسار الإفلات من العقاب من خلال المسارات القضائية المعقدة، والالتفاف على القوانين وتكييفها للتخفيف من حدة الجرائم المرتكبة وأصبح القضاء للأسف جزءاً من هذه السياسة"، وفق تعبيره.
وتحدث الناشط الحقوقي عن المسؤولية السياسية وعن أهمية وجود إرادة سياسية حقيقية لكشف كل الحقائق لإنهاء سياسة الإفلات من العقاب، "لأن هذه الجرائم تستفيد من غطاء سياسي يبررها، ولا يسعى إلى كشف الحقيقة، ومن غطاء وزارة الداخلية التي تسارع دائماً إلى تقديم رواية رسمية عكس الحقائق وتستفيد من تواطؤ جزء من القضاء".
أما أنيس السعدي، فشدد في المقابل على أن وزارة الداخلية ليست معفيةً من تحمل مسؤولية هذه الأخطاء، كونها الجهة المشرفة على قطاع الأمن والمسؤولة عن تكوين منظوريها وتوفير مستلزمات وتجهيزات العمل وعن الردع والمحاسبة، "وهو تقريباً الجزء الوحيد الذي تقوم به الوزارة وبشكل مفرط".
وأكد أن النقابات الأمنية، وعكس ما يشاع، هي أول من يندد في حال وقوع انتهاكات واضحة وتدعو إلى التكوين والمحاسبة، "لأن المؤسسة الأمنية مرفق عام ومن مصلحة الجميع أن تقدم خدمات ذات جودة عالية، وأن ترتكب أخطاءً أقل، حتى لا تكون عرضةً للانتقادات، "لأننا نعيش اليوم أوضاعاً سياسيةً واقتصاديةً واجتماعيةً صعبةً، وشيطنة المؤسسة الأمنية والأمنيين لا تحل المشكلة بل تعمقها".
حق طبيعي
ونفى السعدي اقتحام أمنيين للمحاكم، وأكد مطالبتهم بحقهم من خلال بيانات ووقفات احتجاجية خارج حرم المحاكم، "وهذا من حقهم الطبيعي في الاحتجاج الذي لا يحمل أي ضغط على قضاة التحقيق أو النيابة العمومية".
واستشهد باقتحام محامين جلسات محاكمة في صفاقس سنة 2013، وباقتحام صحافيين المحكمة الابتدائية في تونس 1، وباحتجاج بعض الأحزاب السياسية اليومي والمنظم ضد المحاكم وأمامها.
وبخصوص اتهام النقابات باقتحام محكمة بن عروس، قال أنيس السعدي، إن الأمنيين داخلها كانوا في مهمة تأمين روتيني لسير الجلسات وعرض المتهمين على قضاة التحقيق، وإن الأمنيين الذين تجمعوا كانوا خارج حرمة المحكمة، "مثلما يتجمع يومياً وبصفة طبيعية المحامون والمنظمات والجمعيات".
وأكد أن كل من قام بجريمة أو مخالفة من الأمنيين أو النقابات الأمنية، تم عرضه على المحاكم "وإذا أطلق القضاء سراحهم فهذا يعني أنهم أبرياء أو أنهم تحصلوا على عقوبة تتناسب مع المخالفة التي ارتكبوها".
ونفى أن تكون النقابات الأمنية جهازاً يحمي كل من تعلقت به جرائم أو صدرت في حقه أحكام وأوضح أن جهاز وزارة الداخلية هو من ينفّذ أحكام السجن وأن النقابات لم تتدخل إلا لحماية منظوريها من الظلم والتعسف عندما تكون مؤمنةً بأن العون يتعرض لمظلمة.
علاقة متوترة
من جهة ثانية، يصف رمضان بن عمر، علاقة المواطن التونسي بالأمني، بالمتوترة جداً، ويقول إن منسوب الثقة بأداء الأجهزة الأمنية في تراجع خطير جداً، وإن الصورة التي يحملها المواطن عن الأمني "هي صورة المنتهك والمرتشي والذي لا يطبّق القانون ولا ينضبط له وحتى إن طبّقه فيفعل ذلك بطريقة تعسفية".
وشدد على أن "هذه الصورة النمطية للأمني للأسف تتدعّم بمثل هذه الجرائم وأصبح المواطن اليوم يخشى طلب حقوقه عندما يكون الطرف المقابل أمنياً أو مؤسسةً أمنيةً، لأن أي تلاسن أو تجاوز أو مطالبة بالحقوق خلال حادثة مع أمني، يمكن أن يتحول إلى جريمة ويمكن أن يكيف الأمني عدم امتثال المواطن لأمور غير قانونية على أنه جريمة، وهذا خطر كبير لأن هؤلاء أصبحوا وكأنهم أعلى درجةً من المواطنين".
بخلاف ذلك، يرى الناطق الرسمي للنقابة العامة للحرس الوطني، أن هذه العلاقة تغيرت كثيراً من خلال الأجسام الوسيطة الموجودة اليوم في بنية المجتمع التونسي، وهي النقابات والجمعيات الأمنية والمجتمع المدني، ومن خلال عديد الحوارات بينهم والإقرار المشترك بوجود مشكلة جديرة بالدرس والتحليل.
وأشار إلى وجود مطالب مشتركة بين الأمنيين وممثلي المجتمع المدني، تتعلق بتنقيحات وتشريعات لا بد من مراجعتها، قائلاً إن مسار الإصلاح ما زال طويلاً، وهو مسؤولية جميع الأطراف وإن الحل لا يكون إلا بالحوار والفهم المشترك للمشكلة وبالتشخيص الجيد للأسباب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون