عقب أربعة أشهر فقط على انتخابه رئيساً لفرنسا لولاية ثانية بعدما فاز على منافسته من اليمين المتطرف مارين لوبان، يحل إيمانويل ماكرون ضيفاً على العاصمة الجزائرية صباح الخميس، 25 أغسطس/ آب، في زيارة تستغرق يوماً واحداً، تأتي استجابة إلى الدعوة التي وجهها إليه نظيره الجزائري عبد المجيد تبون في 25 أبريل/ نيسان الماضي لمناسبة إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية.
لقاء تبون بماكرون سيكون الأول من نوعه بين الرئيسين، لكن الزيارة تعد الثانية للأخير إلى الجزائر كرئيس لفرنسا، إذ سبق له زيارة الدولة الواقعة جنوب المتوسط مرة واحدة فقط في بداية ولايته الرئاسية الأولى في ديسمبر/ كانون الأول 2017، وجاءت بعد أشهر من زيارته لها كمرشح للرئاسة أطلق خلالها تصريحات أثارت غضب اليمين المتطرف، قال فيها إن "الاستعمار ارتكب جرائم ضد الإنسانية".
"الجزائر دائماً في موقع قوة، خصوصاً هذه الأيام فبإمكانها أن تلعب دوراً كبيراً في إنقاذ القارة العجوز من الغرق وتحقيق الكثير من الأهداف الإستراتيجية التي طالما سعت إلى تحقيقها خصوصاً مع فرنسا"
ما الذي تريده فرنسا من الجزائر؟
"هذه الزيارة مُهمة جداً بالنسبة للجزائر وفرنسا معاً" بحسب ما كشفه الباحث في الشؤون الأمنية والسياسية مبروك كاهي لرصيف 22، ويشرح: "الزيارة تأتي لإعطاء تصور جديد للعلاقات الفرنسية الجزائرية يختلف كلية عن التصور السابق، فهي تجيء بعد الانزلاق الدبلوماسي الخطير بسبب تصريحات ماكرون المسيئة للتاريخ والأمة الجزائرية، والتي أثارت غضب الجزائريين وتسببت في ردود فعل غاضبة وقوية من الأحزاب السياسية في البلاد"، ويواصل: "كما أنها تأتي في ظل التراجع الكبير للنفوذ الاقتصادي الفرنسي بالجزائر أمام الشريك الصيني التركي والإيطالي وحتى الأمريكي".
ولقد كانت فرنسا القوة المستحوذة الأولى حتى نهاية عام 2012، لكن وقع ما لم يكن في الحسبان وانقلبت المعادلة بعد صعود الصين إلى صدارة الشركاء التجاريين للجزائر، وظفرها بمشاريع ضخمة في مجالات النقل والطرق والأنفاق آخرها منجم "غار جبيلات"، الذي يعد واحداً من أضخم المناجم النائمة، بقيمة وصلت إلى حدود الملياري دولار، وقبلها ظفرت بصفقة إنجاز المسجد الأعظم في الجزائر (ثالث أكبر مسجد في العالم) بقيمة 1.5 مليار دولار، كما ساهمت في إنجاز أجزاء واسعة من الطريق السريع شرق_غرب، بالإضافة إلى عدة اتفاقيات تعاون وشراكة، آخرها صفقة التنقيب عن الذهب الأسود التي وقعت بين شركة النفط والغاز الجزائرية المعروفة بـ"سونطراك"، وشركة "سينوبك"، بهدف إنتاج مشترك تقدر قيمته بـ 490 مليون دولار أمريكي.
ونقلت صحيفة "لوبينيون"الفرنسية المقربة من أوساط المال والأعمال في باريس، أن الرئيسين الجزائري والفرنسي يستهدفان من وراء هذه الزيارة التأسيس لعلاقات جديدة بعد أشهر من الاضطرابات، تقوم على أساس الاحترام المتبادل في جو من التهدئة وتبادل المصالح وفتح صفحة جديدة.
كانت فرنسا القوة المستحوذة الأولى حتى نهاية عام 2012، لكن وقع ما لم يكن في الحسبان وانقلبت المعادلة بعد صعود الصين إلى صدارة الشركاء التجاريين للجزائر، وظفرها بمشاريع ضخمة في مجالات النقل والطرق والأنفاق
وتوحي الزيارة بإدراك الإدارة الفرنسية بتغيير النخب الحاكمة في الجزائر ومطالبة هذه الأخيرة بإعادة ضبط العلاقات الثنائية بين البلدين على أساس الاحترام، وحول هذه النقطة يقول مبروك كاهي إن "الجزائر تسعى لإقامة شراكات بصيغة رابح_رابح ومعالجة القضايا العالقة بإرادة حقيقية ومسؤولية أخلاقية بعيداً عن التجاذبات والمصالح الضيقة من قبل نخب فرنسية تعمل على تعطيل أي تقارب يكون لصالح البلاد".
وتختلف زيارة ماكرون إلى الجزائر عن سابقتها، فهي على الصعيد الدبلوماسي تأتي في ظل ظروف دولية معقدة على مستويات مختلفة، ويقول أبو العز بوعزة، الأستاذ في كلية الحقوق والعلوم السياسية لرصيف22: "الزيارة تندرجُ في إطار البحث عن حلول للورطة التي تتخبط فيها فرنسا جراء الغزو الروسي لأوكرانيا، وقد تصبح الأوضاع أكثر سوءاً إذا لم يسوَّ الملف النووي الإيراني".
ويضيف: "والجانب الأهم في هذه الزيارة بالنسبة لإيمانويل ماكرون هو ضمان إمداد بلاده بالغاز، فهي مهددة بشتاء عصيب، بالأخص إذا تحققت المخاوف بقطع روسيا جزئياً أو كلياً إمدادات الغاز عنها".
ويدقق لمكي محمد المكي الخبير الطاقوي أكثر في هذا الجانب بالقول إنه: "من بين الملفات الحرجة التي سيتطرق إليها الجانبان ستكون كيفية وآلية نقل الغاز بصفته الغازية من الجزائر إلى فرنسا قبل حلول منتصف الخريف لأنه يصعب التكهن بما سيحدث بين الجانب الروسي والاتحاد الأوروبي".
ويتابع: "وقد تصبح الوضعية حرجة لأن تمويل أوروبا بما فيها فرنسا بالغاز الروسي عبر البلطيق عن طريق السيل الشمالي 1 يعمل حالياً بأدنى حد له على الإطلاق حيث لا يتعدى 20 بالمائة من طاقته، وهذا ما يجعل طريقة ملء المخازن المخصصة بالغاز قبل حلول نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل شبه مستحيل".
ومن العوامل التي تزيد الوضع العام تعقيداً، يذكر الخبير الطاقوي "صعوبة الاعتماد على الغاز المسال في أوروبا في الظروف الحالية بسبب نقص حاد في البنية التحتية وعدد المحطات التي تعمل على تحويل الغاز المسال إلى طبيعته الغازية والتي لا تتجاوز 26 محطة في الاتحاد الأوروبي كله، ومن أجل تشييد هذا النوع من المنشآت يتطلب الأمر سنتين إلى ثلاث سنوات لما لها من تعقيد في هندستها وتصميمها، ولهذا تراهن فرنسا على الغاز الجزائري".
أما عن العامل الثاني الذي أصبح يقلق فرنسا ويشكل هاجساً بالنسبة لها، فيقول المكي لرصيف 22: "بروز فاعلين جدد بوزن ثقيل ورغبة الجزائر في الانضمام إلى مجموعة البريكس، كواحد من الأهداف المستقبلية التي يعتقد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أنها أكثر قابلية للتحقيق والتي تضم كل من الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا".
إضافة إلى ذلك، يذكر المكي "ظهور الشريك الإستراتيجي الجديد أو بالأحرى عودته إلى الساحة الجزائرية وولوجه إلى كل الميادين آلا وهو إيطاليا كما جاء على لسان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون نفسه".
ما الذي يمكن أن يتنازل عنه ماكرون؟
لكن ما الذي ستطلبه الجزائر بالمقابل؟ فالزيارة الفرنسية تحيط بها العديد من الملفات التقليدية، إذ يتفاوض البلدين يشأن أربعة ملفات بارزة أولها الأرشيف الجزائري واعتذار فرنسا للجزائر عن جرائم الحرب واستكمال عملية استرجاع جماجم قادة الثورات الشعبية وتعويض ضحايا التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء بين عامي 1960 و1966 والملف الأخير يتمثل في ملف المفقودين في حرب التحرير وتسليم خرائط دفن النفايات النووية.
يقول الدكتور أبو العز بوعزة: "الجزائر دائماً في موقع قوة، خصوصاً هذه الأيام فبإمكانها أن تلعب دوراً كبيراً في إنقاذ القارة العجوز من الغرق وتحقيق الكثير من الأهداف الإستراتيجية التي طالما سعت إلى تحقيقها خصوصاً مع فرنسا".
ولا يستبعد محدثنا "إمكانية تنازل ماكرون عن بعض المطالب إذ استغل الساسة الجزائريون الفرصة التي بين أيديهم في سبيل تأمين الغاز لفرنسا، وقد يضع هذا الأخير الإيديولوجية القوية التي تسيطر على المشهد السياسية الفرنسي جانباً لأن العلاقات الدولية تقوم اليوم على المصالح وكل طرف يحاول تحقيق أعلى قدر من مصالحه وإن على حساب الآخر".
ويضيف: "وربما قد تسوى القضية ودياً لأن ما اقترفته فرنسا في حق الجزائريين يستحيل تعويضه، بمعنى قد يكون التعويض الحالي معنوياً أكثر منه مادياً، رغم أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أكد في وقت سابق عدم التنازل عن تعويض ضحايا التجارب والتفجيرات النووية في الجنوب الجزائري والتي لا تزال تبعاتها وتأثيراتها على الحياة وعلى البشر إلى اليوم".
وعلى رأس الملفات التي سيتم تباحثها، يذكر الأستاذ في كلية الحقوق والعلوم السياسية "ملف التأشيرات بالنسبة للجزائريين، والتي تراجعت إلى ما دون خمسين بالمائة وفق تصريحات سابقة للمسؤولين الفرنسيين وهي القضية التي أثارت غضباً شعبياً ورسمياً، تطلب إصدار الخارجية الجزائرية بياناً شددت فيه على ضرورة احترام الاتفاقيات الثنائية بين البلدين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون