"حسابياً، القطرة الواحدة من هذا الدواء تصل إلى 2.1 مليون دولار، لكي يستطيع هذا الطفل الاستمرار في الحياة"؛ بهذه الكلمات الاستعطافية، وجّهت نهاد بنعكيدة، وهي إعلامية مغربية، طلب جمع التبرعات لإنقاذ ابن مدينة مراكش في جنوب المغرب، الطفل جاد، الذي لم يكمل عامه الثاني، ويعاني من حالة مرضية نادرة تُسمّى "ضمور العضلات الشوكي"، وتؤدي إلى شلل حركة المصاب وقد تسبب الوفاة إذا لم يتم علاجها.
أكبر عمليات التبرع
حملة التبرع التي تحمل عنوان "أنقذوا جاد"، وُصفت بالأكبر في تاريخ المغرب، إذ يحتاج إلى حقنات دواء "ZOLGENSMA"، الذي يعدُّ أغلى دواء في العالم، ويصل ثمنه إلى مليونين ومئة ألف دولار؛ الأمر الذي جعلها تعبر حدود المغرب، ليصل صداها إلى جل أنحاء العالم، عبر جملة من المنشورات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر مقتطفات من حملة جمع التبرعات، المنطلقة من برنامج نهاد، المتخصص في جمع التبرعات لعلاج المصابين بأمراض ذات كلفة علاج مرتفعة، لتوفير الأموال اللازمة لإنقاذ حياة الطفل المهددة.
هذه الحملة التبرعية الكبرى، أتت عقب فشل مساعي أسرة الطفل جاد، في تأمين العلاج داخل مستشفيات المملكة، إذ لا يتوفر هذا الدواء في المغرب، ويجب حصول الطفل على الحقنة في غضون ثلاثة أشهر فقط، لإعطاء فعاليتها، وإصلاح العطب الجيني. كانت الحملة، باسم الجمعية الخيرية التي ترأسها بنعكيدة، وهي حاصلة على "ترخيص الإحسان العمومي"، من الأمانة العامة للحكومة، وسبق لها أن جمعت تبرعات تصل قيمتها إلى مئات آلاف الدولارات، آخرها، كانت خلال السنة المنصرمة، بنجاحها في جمع مبلغ 500 ألف دولار، لإجراء عملية زراعة قلب لطفل مغربي في مستشفى فرنسي.
الحملة التبرعية الكبرى، أتت عقب فشل مساعي أسرة الطفل جاد، في تأمين العلاج داخل مستشفيات المملكة
على هذا المنوال، في مزاد علني افتراضي، عبر خاصية "story"، وفي ظرف 24 ساعةً فقط، بيعت "زربيّة" (سجّادة) صغيرة الحجم بمبلغ 2 مليون سنتيم (2،000 دولار)، وكيلو "سلو" (أكلة مغربية تقليدية) بـ5 ملايين سنتيم (5 آلاف دولار)، ثم 150 غراماً من "الزعفران" بـ15 مليون سنتيم (15 ألف دولار)؛ ليكشف جلال عويطة، فاعل جمعوي ومؤثر على مواقع التواصل الاجتماعي، أن "الزربية" لفتاة يتيمة حلمت ببيعها مقابل 250 درهماً، أما كيلوغرام الـ"سلو" فقد أعدّته سيدة لمساعدة زوجها المصاب بمرض السرطان، والـ150 غراماً من الزعفران، كانت لأجل مساعدة سيدة تُدعى سعيدة، لتطوير مشروعها الخاص بالزعفران.
بعد كورونا... تناسل جمع التبرعات
كورونا والجفاف وارتفاع الأسعار في المغرب، أسباب رئيسة لعدد من التداعيات الاقتصادية تضررت منها الآلاف من الأسر المغربية، إذ تسببت في فقدان أكثر من 430 ألف وظيفة في 2020، وساهمت في ارتفاع عدد العاطلين عن العمل، إلى نحو مليون ونصف مليون شخص، وفق تقرير رسمي للمندوبية السامية للتخطيط عن عام 2021، الأمر الذي أدّى إلى رفع منسوب جمع التبرعات والإحسان من قبل بعض المنظمات غير القانونية، خاصّةً في كلٍّ من عيد الأضحى وشهر رمضان، حيث تتكاثر مُبادرات "وجبات الإفطار" (تبلغ قيمتها 32 درهماً)، و"السلّات الغذائية" (تبلغ 400 درهم مغربي)، فضلاً عن توفير الملابس والألعاب للأطفال "اليتامى" في العديد من المناطق.
يشهد المغرب حملة تبرعات لجمع مليوني دولار لشراء دواء لفائدة طفل. حملات التضامن تنتشر في السنوات الأخيرة لكن تطرح تساؤلات حول الإحسان العمومي وضرورة تقنينه لسد الباب أمام من يتاجرون بمآسي الناس
في هذا السياق، قالت أسماء مهديوي، الباحثة في العلوم السياسية، "إن عمل الخير والإحسان والكرم من بين الشيم والقيم المميزة للمغاربة، والتي تُعدّ جزءاً أصيلاً من التربية والهوية المغربيتين، إذ إن التبرع بالقليل، كما الكثير، يُعدّ من أبرز المبادئ التي تقوم عليها التربية الحسنة للشعب المغربي"، مؤكدةً أن "هذا مما يُعرف عن المملكة على مر العصور، لكن الأمر فتح الباب أمام المستغلين لمآسي المواطنات والمواطنين، ممّن لا يفوّتون أي فرصة للحالات التي تشهد تعاطفاً، من دون استغلالها من أجل جلب الدعم المادي، ولو استعمل البعض منهم التدليس والكذب".
"غير أن الأمر قد يُظهر للبعض أنه يُقدّم صورةً سيئةً عن الخدمات العمومية في المغرب، خاصةً في المجال الصحي، حيث التكلفة مرتفعة جداً بالنسبة إلى متطلبات علاج جُملةٍ من الأمراض السرطانية وأمراض القلب وغيرها"، تردف مهديوي في حديثها إلى رصيف22، مفسّرةً أن ذلك ما يحفز "ظهور المناشدات للمحسنين والمتبرعين لإنقاذ الأرواح في ظل انعدام وجود الدولة، فنجد في هذه الحالات، كما يُقال، أن الناس للناس، أو تواري فعل الدولة مقابل فعل المحسنين والأقارب".
استغلال التبرعات لـ"تجارة المآسي"
لكونها الوسيلة الأسرع لجلب الكثير من المساعدات، أضحى آلاف من المواطنين يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي لإطلاق حملات من أجل جمع التبرعات لـ"الأشخاص الذين في وضعية صعبة"، ولو وصل الأمر بالبعض منهم إلى الانطلاق في "حملات تبرع وهمية"، كما حين استغلال حادثة وفاة "الطفل ريان"، إثر سقوطه في بئر في ضواحي مدينة شفشاون في شمال المغرب، بالإعلان عن جمع "الأموال" لأسرته، لتخرج هذه الأخيرة نافيةً تسلّمها التبرعات المُعلن عن جمعها.
كذلك، أثار اعتقال الحسن التازي، جرّاح التجميل الأكثر شهرةً في البلاد والذي يُلقَّب بـ"طبيب الفقراء" الجدل، إذ اشتهر بأعمال الخير وعلاج المحتاجين والمعوزين بالتعاون مع "زوجته وشقيقه وبعض العاملين في المركز الصحي الخاص الذي يملكه في مدينة الدار البيضاء"، قبل أن يتم إيقافه بشبهة الاحتيال لاستغلال أموال التبرعات، أثارت القضية جدلا كبيراً في الوسط الاجتماعي المغربي، بعد اتهامه بـ"التورط في إنشاء عصابة تهدف إلى جمع مبالغ مالية من متبرعين بهدف تغطية تكاليف علاجه، وبدلاً من ذلك، يستولي هو والعاملون معه على المال"، بحسب بيان أصدرته المديرية العامة للأمن.
يرى عبد العالي الرامي، رئيس جمعية "منتدى الطفولة"، أنه "بالرغم من وجود قوانين ضابطة وحاكمة لجمع التبرعات في المغرب، إلا أنه يتم استغلالها من قبل عديمي الضمير لضرب عمل الخير والتكافل الاجتماعي في المجتمع"، داعياً إلى أن يكون "القانون رادعاً لمجموعة من المبادرات غير الجادّة التي تشكّل وسيلةً من وسائل الاستغلال البشع لمجموعة من المشكلات الإنسانية، وخلق دراما لاستغلال نبل وحسن إنسانية المواطن المغربي، خاصةً في ما يتعلق باستغلال وضعية الأطفال الاجتماعية".
"بالرغم من وجود قوانين ضابطة وحاكمة لجمع التبرعات في المغرب، إلا أنه يتم استغلالها من قبل عديمي الضمير لضرب عمل الخير والتكافل الاجتماعي في المجتمع"
"ربما وضع إطار قانوني هو ما سوف يحدّ من هذه التصرفات، ويفتح آفاقاً جديدةً للتعامل"؛ يؤكد الرامي في حديثه إلى رصيف22، عادّاً أن "العمل الإنساني جزء من ثقافة المغاربة، وكذلك يحثّ عليه الدين الإسلامي. وهناك مجموعة من المظاهر، وجُملة من الخصوصيات التي تميّز مبادرةً عن غيرها، لكن يتوجب فعلاً استحضار المراقبة والضرب بيد من حديد ضد كل من سوّلت له نفسه استغلال العمل الإنساني خارج القانون، وكذلك يتوجب تعزيز ثقة فاعل الخير وتنمية هذا الحس وتشجيع الناس على البذل والعطاء".
وختم الفاعل الاجتماعي حديثه بالقول: "تتوجب على فاعل الخير، إن استطاع، معاينة الشخص المحتاج بنفسه، وعدم الثقة في أي مبادرة لجمع الأموال، إلا بعد التأكد من الحساب البنكي، والاطّلاع على تاريخ المنظمة غير الحكومية، إذ إن الثورة الرقمية قرّبت العلاقات البشرية، لكن هناك عدداً من ضعاف النفوس ممن يستغلونها بشكل بشع، أتى القانون ليحدّ من تصرفاتهم".
"الإحسان المقنّن"
منذ سنة 1971، تم تقنين عمليات "جمع التبرعات في المغرب"، إذ اشترط القانون على أي شخص الحصول المسبق على إذن من الأمين العام للحكومة، غير أن هذا القانون لم يعد يساير التغييرات التي يعرفها مجال جمع التبرعات في المغرب، خاصةً بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي؛ ولعل حادث مدينة "الصويرة" الأليم الذي ذهبت ضحيته 15 سيدةً، بسبب التدافع للحصول على مساعدات غذائية، دفع العاهل المغربي الملك محمد السادس، آنذاك، إلى توجيه تعليماته للحكومة لسَنّ قانون يعيد تنظيم عملية الإحسان العمومي، وليُصادق مجلس النواب، بتاريخ 18 تموز/ يوليو 2022، على قانون 18.18، المتعلق بتنظيم عمليات جمع التبرعات من العموم وتوزيع المساعدات لأغراض خيرية.
يهدف هذا القانون إلى إخضاع جميع عمليات دعوة العموم إلى جمع التبرعات لمسطرة الترخيص المسبق لدى الإدارة، كيفما كانت الوسيلة المستعملة، إذ يحصر القيام بعمليات دعوة العموم إلى التبرّع في جمعيات المجتمع المدني دون غيرها، باستثناء إذا كان الهدف هو تقديم مساعدات عاجلة في حالة الاستغاثة، حيث يمكن القيام بذلك من قبل الأشخاص غير المنضوين في إطار جمعيات، ويلزم القانون المذكور، الجمعيات، بإيداع الأموال النقدية المتحصل عليها من العموم في حساب بنكي مخصص لهذه العملية، مع منع الاستمرار في تلقّي التبرعات عبر الحساب البنكي المذكور خارج المدة المخصصة لجمعها.
ووفق مشروع القانون، فإنه يعاقَب بغرامة من 50 ألف إلى 100 ألف درهم، كل شخص دعا العموم إلى التبرع خارج إطار جمعية أو جمعيات مؤسسة بصفة قانونية عدة ومسيَّرة طبقاً لأنظمتها الأساسية، كما تُعاقَب بغرامة من 100 ألف إلى 500 ألف درهم، المؤسسة الصحافية أو الإعلامية أو أي مؤسسة أو جهة أخرى كيفما كانت طبيعتها، تنشر أو تبث إعلانات تدعو العموم إلى التبرع وجمع التبرعات خلافاً لأحكام هذا القانون.
وبعد المصادقة على هذا القانون ودخوله حيز التنفيذ، حذّر ائتلاف مبادرة المجتمع المدني من خطورة مشروع القانون 18.18، وقرر تقديم مذكرة للفرق البرلمانية تتضمن أهم ملاحظاتهم ومطالبهم من أجل تعديل مقتضيات مشروع هذا القانون، عادّين أن المشروع "أرهق الجمعيات بتقديم تقارير تفصيلية عن كل عمليات التوزيع، ومن دون مراعاة لاستقلال قرارات الجمعيات"، وأوصوا بـ"حذف الأشخاص المدينين لأسباب اجتماعية وإنسانية من المحرومين من الاستفادة من دعوة العموم للتبرع، وكذا الاستفادة من المساعدات الخيرية، مع السماح للجمعيات بتخصيص جزء من التبرعات لتسييرها الإداري"؛ ليظل موضوع "جمع التبرعات لأهداف إنسانية" يفتح باب الجدل بخصوص من الأحق في جمعها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين