تحاصرني أخبار العمال والعاملات الأجانب المهددين بالإخلاء من بيوتهم في لبنان في نفس الوقت الذي يمتلئ فيه حائط فيسبوك بتعليقات وحملات تضامن مع ما يحصل في الولايات المتحدة الأمريكية.
أشعر أنني عاجزة وغير قادرة على فهم ما يحصل هناك ولست بوارد التعبير عن تضامني على وسائل التواصل الاجتماعي، ليس لأن القضية لا تعنيني بل لأنني فعلاً قاصرة عن فهمها ولأن هناك تاريخاً من المعاناة والعنصرية والظلم الذي لا أعرف عنه إلا القليل وأشعر بالصغر أمامه، فأسكت وأحاول أن أفهم، فقط.
أعود إلى الواقع هنا وأشعر بعجز حقيقي. أقول سأكتب على الأقل، ولكنني لا أعرف من أين أبدأ. أحاول العودة إلى البداية، متى بدأ العمال والعاملات الأجانب يأتون إلى لبنان تحت نظام الكفالة؟ ربما بعد الحرب الأهلية؟ ثم أفكر ماذا سيغيّر ذلك؟ نظام الكفالة عنصري وظالم. مئات الآلاف من العاملات والعمال لا يشملهم قانون العمل ويعملون تحت قانون يسمح باستغلالهم وإيذائهم، كان هذا قبل الأزمة الاقتصادية وقبل وباء كورونا.
عقد عمل يخنقهم/ن أضف إليه عنصرية أصحاب العمل في التعاطي معهم/ن ما يجعل الكثيرين/ات منهم يهربون منه ويجدون أنفسهم/ن دون أوراق قانونية ويصبح وجودهم غير شرعي دون الكفيل.
لسنوات طويلة، يعمل الكثيرون من العمال والعاملات المهاجرين دون عقود كفالة وكذلك دون مستندات إقامة قانونية. يفضّلون المخاطرة بالقبض عليهم وسجنهم أو ترحيلهم على العمل في ظروف لاإنسانية.
عاملات أجنبيات كثيرات يفضلن العمل في تنظيف المنازل وحدهن، يستأجرن شقة معاً ويتقاضين بدلاً عن ساعات العمل في بيوت أشخاص لا يريدون عاملة منزلية مقيمة معهم بشكل دائم. يكسبن القليل من الحرية في التحرك، يحافظن على علاقات إنسانية ويقررن متى يحصلن على أوقات راحة. يعشن في الضواحي المهمشة البعيدة. هناك كلفة السكن أقل وكذلك تواجد الدولة.
بعض العمال والعاملات الأجانب استطاع الحصول على عقود عمل مع شركات تنظيفات أو شركات جمع النفايات. بهذا، تصير إقامتهم قانونية، ولكن ذلك لا يعني أنهم يحصلون على حقوقهم.
مؤخراً، مع الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر صرف العملة واختفاء الدولار من الأسواق، تفاقم الاستغلال. أن يقبض عمال شركة جمع النفايات رواتبهم بالليرة اللبنانية كما حصل مع عمال شركة رامكو مؤخراً يعني أنهم خسروا أكثر من نصف قيمتها وهي أساساً رواتب متدنية. يحصل الأمر نفسه مع عاملات المنازل، يقبضن، إنْ قبضن، ما يعادل رواتبهن بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الرسمي ما يعني عملياً مبلغاً يقارب ثلث المبلغ الهزيل الذي كنّ يحصلن عليه سابقاً. وحجة صاحب العمل أنه يقبض بالعملة المحلية وأن الوضع صعب عليه أيضاً.
"تبدو انتفاضة السود التي انطلقت في منيابوليس واشتعلت في عدة ولايات أمريكية حلماً لمَن يراها من بعيد، ما زلت لا أدعي فهم ما يحدث هناك ولا حتى فهم ما يحدث هنا في هذه البلاد، أعرف فقط أن هناك نظاماً عنصرياً نعيش معه وضمنه وفيه وما زلنا ساكتين وراضين"
إضافة إلى مآسيهم هذه، جاء وباء كورونا. بالنسبة للعاملات في المنازل جاء ليزيد الاستغلال. بتواجد العائلة كل الوقت في المنزل تزداد ساعات العمل وتختفي تماماً ساعات الراحة. يصبح مطلوباً من العاملة الاهتمام بتفاصيل مضاعفة مع تواجد الجميع في المنزل، وتتضاعف مع ذلك احتمالات ممارسة العنف اللفظي والجسدي عليها.
ماذا عن العمال والعاملات الذين كانوا يعملون بالساعة؟ أو حتى الذين كان لديهم عقد عمل مع شركة أو مؤسسة والآن توقفت مداخيلهم/ن بسبب الاضطرار للبقاء في المنازل؟
آلاف المهاجرين والمهاجرات غير قادرين/ات على تأمين طعامهم وأدويتهم ناهيك عن بدل إيجارات بيوتهم. لا إمكانية للعمل. لا سهولة في التنقل. بالنسبة لأشخاص يعتمدون في تنقلاتهم على باصات النقل العام هي حالياً بالكاد متوفرة. كيف يزورون الطبيب إنْ مرضوا؟ كيف يشترون الأدوية إن كانوا بالكاد يستطيعون شراء ما يأكلونه.
"أنا فعلاً قاصرة عن فهم ما يجري في الولايات المتحدة فهناك تاريخ من المعاناة والعنصرية والظلم الذي لا أعرف عنه إلا القليل وأشعر بالصغر أمامه. أسكت وأحاول أن أفهم، فقط. وأعود إلى الواقع هنا في بلدي وأشعر بعجز حقيقي"
ينطبق الوضع بالطبع على المقيمين في هذا البلد بأغلبيتهم، ولكنه يبدو مأساوياً أكثر بكثير بالنسبة لأشخاص كانوا يعملون منذ سنوات في ظروف لاإنسانية ليؤمنوا مئتي دولار يرسلونها إلى عائلاتهم.
يهددهم أصحاب الشقق والمساكن بالإخلاء. يريد صاحب الملك "حقه" بالإيجار، ولا يبدو أن أحداً يفكر بحقوقهم/ن في السكن في هذه الظروف. كالعادة، حقوق هؤلاء يمكن أن تُنتهك بسهولة. علّقت الحكومة اللبنانية مهل الدفع بسبب الظروف الحالية، تقول ذلك لمالكي الشقق فيقولون "للبنانيين فقط" توضح لهم "للمستأجرين كلهم" فيجيبون "مش مشكلتي، الدولة ما بتسأل عني لتسأل عنهم".
لا يرى أصحاب الملك مانعاً في إخلاء المستأجرين من بيوتهم إنْ لم يدفعوا ما عليهم. بدل الإيجار مصدر دخل بالنسبة لهم لا يريدون التخلي عنه أو حتى تأجيله. احتمالات أن تصبح عائلات ورجال ونساء في الشارع لا تعنيهم ولا يفكرون بها. المطار مقفل وقد تأخذ إجراءات عودة مئات آلاف المهاجرين والمهاجرات الأجانب إلى بلادهم/ن شهوراً ولا أحد يعرف كيف سيعيشون حتى ذلك الوقت.
تبدو انتفاضة السود التي انطلقت في منيابوليس واشتعلت في عدة ولايات حلماً لمَن يراها من بعيد، ما زلت لا أدّعي فهم ما يحدث هناك ولا حتى فهم ما يحدث هنا في هذه البلاد، أعرف فقط أن هناك نظاماً عنصرياً نعيش معه وضمنه وفيه وما زلنا ساكتين وراضين. يبدو أسهل التضامن من بعيد رفضاً للعنصرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...