نشرتُ قبل سنوات، منشوراً على فيسبوك، أستهجن فيه الممارسات العنصرية تجاه الموهوبين من لاعبي كرة القدم الأقباط، مثل حين يتجاوز اللاعب القبطي الناشئ كل الاختبارات لنادٍ معروف، ثم يسأله المدرب في نهاية الاختبارات عن اسمه، وحين يعرف المدرب من اسمه أنه قِبطيّ، يعتذر له عن قبوله. والأكثر وقاحةً من ذلك، أنه يقول له الرد الشهير: "روح غيّر اسمك وتعال". تناولت في المنشور أشياءً من هذا القبيل، وفاجأتني تعليقات العديد من الأصدقاء، الحسنة النية والتي بُذل فيها مجهود لتُكتب بنوع من اللطف، وفيها أن الأقباط لا يجيدون لعب كرة القدم فعلاً، ومن بينها تعليق قال نصّاً: "أنتم ما بتعرفوش تلعبوا كرة يا مينا"، وبعدها رسوم تعبيرية عدة تضحك بدموع!
لأنهم ضحايا للتراتبية الاجتماعية المتخيلة داخل المجتمع المصري التقليدي، الذي لا تزال تسيطر عليه الانتماءات الطائفية والدينية.
استعاد ذهني هذه الفكرة التي في الخيال الشعبي المصري، قبل أسابيع، بعد الحديث مرةً جديدةً عن التعنت الذي يواجه الأقباط حين نشر أخبار عن نية إحدى الأبرشيات التابعة للكنيسة الأرثوذكسية القبطية في وسط القاهرة، تدشين نادٍ باسم "عيون مصر"، يضم الأقباط لأنهم يواجهون تعنتاً وعنصريةً لقبولهم في الأندية المصرية، كما أن الفريق سوف يشارك في الدوري المصري، وهذا ما نفته وزارة الشباب والرياضة المصرية. قال أحدهم في منشور شهير (في أثناء التراند)، يدين فيه كل مظاهر التعنت ضد الأقباط، ولكنه لا ينفي عدم إجادة الأقباط لكرة القدم، إنه، وبالرغم من كونه على يقين بمشكلات أخرى تواجه الأقباط، ولكنه باليقين نفسه يرى أن الأقباط لا يجيدون لعب الكرة فعلاً. ربما يكون قد بدأ كلامه بتأييد حقوق الأقباط القديمة، ليبرّي ذمته من أي تهم عنصرية قد توجَّه إليه بسبب رأيه في مدى إجادة الأقباط للّعبة، ولكنه أيضاً وقع في الفخ.
الفكرة التي تُطرح من حين إلى آخر، عن إرجاع أسباب عدم مشاركة الأقباط في أندية كرة القدم المصرية إلى أن الأقباط أنفسهم غير مهتمين بكرة القدم، أو هم مهتمون فعلاً ولكنهم للأسف لا يجيدون لعب كرة القدم، من الواضح انتشارها وتعميمها والاتفاق عليها على الأقل بالقدر الذي لا يمكن تجاهله. فماذا لو فنّدناها وقسناها بهدوء وبشكل موضوعي وعقلاني؟ فلربما تكون فاسدةً.
الفكرة التي تُطرح من حين إلى آخر، عن إرجاع أسباب عدم مشاركة الأقباط في أندية كرة القدم المصرية إلى أن الأقباط أنفسهم غير مهتمين بكرة القدم، أو هم مهتمون فعلاً ولكنهم للأسف لا يجيدون لعب كرة القدم
من أين جاءت لهم هذه الفكرة؟
في تقديري، فكرة أن الأقباط كلهم لا يجيدون لعب كرة القدم، لا بد من أن تكون مستندةً إلى حجّتين لا ثالثة لهما؛ حجة بيولوجية، وحجة ثقافية، حتى لو أنهما غير واضحتين ومباشرتين في عقول أصحابهما والقائلين بهما، وإلا ما الذي يجعل جماعةً دينيةً لا تجيد لعبةً (إذا كانت حقيقةً لا تجيد اللعبة)، غير هذين السببين؟
السبب الأول: ربما الأقباط لا يجيدون لعب كرة القدم لأسباب بيولوجية ما، في تكوينهم الجسدي، وهذا يعيد إلى الأذهان، ولو من بعيد، توظيف الأسباب البيولوجية لخدمة أفكار عنصرية وفاسدة، مثل النازية ونقاء العرق، أو تفوّق لون على لون وعرق على حساب عرق آخر أقل منه في التراتبية البيولوجية، كما حدث من عنصرية ضد السود في أمريكا، وربما المعيار نفسه يمكن تطبيقه على الرياضة أيضاً؛ هناك عرق ما يمتاز بلياقة بدنية وعضلات معيّنة تساعد على احتراف مهارات كرة القدم، وعرق آخر يفتقر إلى الصفات البيولوجية المتفوقة نفسها، أو يمتاز بصفات بيولوجية أضعف مما لا يؤهل المتحدرين منه للالتحاق بأندية الدوري المصري بجلالة قدره. هذا المنطق عِلْمِيّاً فاسد، بجانب أن له تاريخاً شريراً مع الإنسانية، والأهم من كل ذلك أنه غير حقيقي، لأن جميع البشر، علمياً، لديهم الصفات البيولوجية نفسها؛ التمايزات البيولوجية بين مجموعات مختلفة من الناس العاقلين، هي في الواقع ضئيلة جداً، كما أن هذا المنطق يغذّي فكرةً تُطرح من آن إلى آخر ترمي إلى أن الأقباط في مصر جنس والمسلمين جنس آخر، وهذا غير حقيقي تاريخيّاً وعلميّاً. إذاً، فكرة أن الأقباط لا يجيدون لعب كرة القدم بينما المسلمون يجيدونها لأسباب بيولوجية، منطق فاسد وغير حقيقي، منطق تجاوزه العالم أجمع بل واحتقره وجرّم حتى سيرته.
فكرة أن الأقباط كلهم لا يجيدون لعب كرة القدم، لا بد من أن تكون مستندةً إلى حجّتين لا ثالثة لهما؛ حجة بيولوجية، وحجة ثقافية، حتى لو أنهما غير واضحتين ومباشرتين
السبب الثاني: ربما يكون هو الأَقرب والأوضح في أذهان أصحاب فكرة أن الأقباط لا يجيدون لعب كرة القدم، ومفاده أن ذلك يعود لأسباب ثقافية مكتسبة تبثها جماعة الأقباط في أبنائها، ولها علاقة بالتعاليم المسيحية؛ يمكننا بنظرة أوسع إلى كرة القدم الحقيقية، وأنديتها العملاقة، ونجومها الكبار في الدوري الإنكليزي، والدوري الإسباني، وكرة القدم البرازيلية وغيرها من الأمثلة، سنجد أنها تعجّ بأصحاب الديانة المسيحية، أي بنظرة عالمية إلى تاريخ كرة القدم وحاضرها، ليست المشكلة في الثقافة المسيحية إطلاقاً. ولكن ربما تكون ثقافة النسخة المصرية الأرثوذكسية من الديانة المسيحية، هي السبب في عدم اهتمام الأقباط بكرة القدم. هذا أيضاً إصدار سطحي وساذج للأحكام، ونظرة لا تلمّ بالأقباط في مصر إلماماً حقيقيّاً، لأن الأقباط في مصر ينتمون إلى طوائف عديدة، منها ما انتشر في مصر في القرن أو القرنين الماضيين، حتى قبل تأسيس أول نادٍ في مصر، كالكاثوليكية مذهب الغالبية العظمى في أوروبا، والبروتستنية مذهب الغالبية العظمى في أمريكا. إذاً، الأقباط في مصر ليسوا جميعاً أبناء كنيسة مصرية واحدة يمكن أن نُرجِع التهمة إلى انغلاقها مثلاً، أو زهدها في نجومية من عالم زائل، بل منهم من ينتمون، أجيالاً وأجيالاً، إلى الكنائس نفسها التي ينتمي إليها لاعبو كرة القدم الكبار في أوروبا والعالم، ومع ذلك لا نجدهم في الأندية المصرية. إذاً، أيضاً فكرة أن الأقباط لا يجيدون لعب كرة القدم لأسباب ثقافية أو دينية هي أيضاً منطق غير واقعي أو غير موضوعي وغير حقيقي.
التراتبية المتخيلة في المجتمعات التقليدية
الأقباط يحبّون لعبة كرة القدم، ويتابعون مبارياتها ويشجعون أنديةً ويتعصبون لها، ومنهم من يجيدون اللعبة وهم موهوبون فيها، ويحلمون، جيلاً تلو جيل، بأن يصيروا لاعبين ونجوماً، وليسوا أبداً كما يقال عنهم، ولكنهم يعانون من الممارسات العنصرية والتمييز الديني الطويل من منظومة كرة القدم في مصر، التمييز الذي ربما يكون قد أدى إلى يأسهم، وإلى عزوفهم، أو عزوف أغلبهم عن حلم المشاركة في اللعبة كنتيجة واقعية ومفهومة لعقود طويلة من التجارب السيئة لمحاولات الانضمام إلى الأندية المصرية التي تقابَل برفض الموهوبين منهم، لأنهم فقط مسيحيين. الحقيقة التي ربما تكون مزعجةً للضمائر، هي أن الأقباط لا يشاركون في اللعب في الأندية المصرية، ليس لأنهم لا يجيدون لعب الكرة أو غير مهتمين بها، بل لأنهم ضحايا للتراتبية الاجتماعية المتخيلة داخل المجتمع المصري التقليدي، الذي لا تزال تسيطر عليه الانتماءات الطائفية والدينية.
الأقباط يحبّون لعبة كرة القدم، ومنهم من يجيدون اللعبة وهم موهوبون فيها... ولكنهم يعانون من الممارسات العنصرية والتمييز الديني الطويل من منظومة كرة القدم في مصر
يفتتح الكاتب يوفال نوح هراري، فصل "حلقة مفرغة"، من كتابه الرائع "العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري"، بأن جميع المجتمعات (التقليدية) تستند إلى تراتبية متخيلة، ولكن ليس بالضرورة إلى التراتبية نفسها. صنّف المجتمع الهندي التقليدي الناس وفقاً للطبقة، وصُنّف المجتمع العثماني القديم وفقاً للدين، والمجتمع الأمريكي العنصري وفقاً للعرق، وفي معظم الحالات نشأت التراتبية نتيجةً لمجموعة من الظروف التاريخية العرضية، ثم كُررت وَحَسُنْت على مدى أجيال عديدة حين أبدت مجموعات مختلفة اهتماماً راسخاً بها، والتراتبية هي النظام المتخيّل الذي يسمح لطائفة ما بأن تحجز لنفسها امتيازات، وتبرر تراتبيتها (امتيازاتها) هذه بأسباب موضوعية، ولنرَ كيف سُخّرت الأساطير الدينية والعلمية لتبرير هذا التقسيم في أمريكا. فمثلاً بحث اللاهوتيون في أمريكا عن أسباب دينية لتبرير العنصرية ضد السود، ومنها أن الأفارقة انحدروا من نسل حام بن نوح، الذي لعنه أبوه وأصبحت ذريته من العبيد، ولم يتأخر عدد من علماء البيولوجيا في إثبات أن السود أقل ذكاءً من البيض وأكسل، ومعدل الجريمة لديهم أعلى بكثير، وأن حسهم الأخلاقي أقل تطوراً، وقدّم الأطباء ما يرضي شعور التراتبية والتفوق عند البيض، بما يفيد بأن السود يعيشون في القذارة وينشرون الأمراض، أو هم مصدر نجاسة، وتجاهلت هذه المساهمات حقيقة أن هذه النتائج كلها من تأخّر للسود في العديد من المجالات، كانت بسبب التمييز الطويل ضدهم في الأساس، وحين تعادلت الامتيازات، حكم الولايات المتحدة الأمريكية بعدها بسنوات رئيس أسود من أولئك الذين كانوا من نسل حام... إلخ.
من يحاول أن يختلق أو يردد بلا تفكير أسباباً يُنظر إليها على أنها حجج عادلة وموضوعية، هو بذلك يتستر خلف منطق مزعوم، كاذب، مريح للضمائر ربما، لتبرير تهميش الأقباط من مناصب السلطة، والأجهزة السيادية، وَفُرَص الشهرة
جماعة تخشى أن تفقد امتيازاتها في التراتبية
من يحاول أن يختلق أو يردد بلا تفكير أسباباً يُنظر إليها على أنها حجج عادلة وموضوعية لعدم مشاركة الأقباط في أندية كرة القدم المصرية، هو بذلك، وقبل كل شيء، يتستر خلف منطق مزعوم، كاذب، مريح للضمائر ربما، لتبرير تهميش الأقباط من مناصب السلطة، والأجهزة السيادية، وَفُرَص الشهرة، وملايين جنيهات كرة القدم، كي لا يفقد وضعه المتميز ومكانته الفريدة في التراتبية الاجتماعية التي ورثها عن ظروف اجتماعية وتاريخية ماضية، يحرص أن يبقيها لأطول قدر ممكن من الزمن، بل يورثها لأبنائه بالامتيازات نفسها من دون نقصان. ولن تستمر امتيازات التراتبية المتخيلة في المجتمع المصري، التي ينعم بها المستفيدون وأصحاب المصلحة، إلا بمواجهة كل جماعة تتذكر حقوقها وترغب في المنافسة على الامتيازات واقتسامها، من خلال إفقادها حقوقها بترويج الأكاذيب، وتوظيف الخرافات، فيصبح تصديق أن الأقباط حقاً أقل شأناً على مستوى اللعبة (على أقل تقدير)، أو هم من الأساس عازفون عن اللعبة، أسهل من الاعتراف بالمشكلة الحقيقية، لأن إصلاح الأوضاع ربما سيقلل من فرصة تمتع المستفيد بالامتيازات الناتجة عن وجوده بالصدفة ضمن طائفة تنعم بالعديد من الامتيازات نتيجة تراتبية دينية متخيلة وتقليدية، بل رجعية في كثير من الأحيان، لا تزال تسيطر على المجتمع المصري.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه