"يا رب، يا عدرا، يا أم النور، يا رب"؛ كان هذا أشهر دعاء لمشجّع مصري في المباراة التاريخية لمنتخب مصر أمام هولندا في كأس العالم 90، حين "نزلت عدالة السماء على ستاد باليرمو"، وتعادلت مصر مع هولندا يومها بركلة الجزاء الشهيرة للّاعب مجدي عبد الغني. الدعاء خرج تلقائياً في أثناء تسديد ضربة الجزاء، من فم وقلب المخرج الراحل "فايز الزمر"، المسؤول عن بعثة التلفزيون المصري لتغطية مشاركة "المنتخب القومي" في كأس العالم. دعاء سمعته مصر كلها، وأنا منهم وكنت في التاسعة من عمري، أنتظر ككل من حولي في بيتنا، وكل المسيحيين في مصر، مشاهدة اللاعب الناشئ الموهوب، هاني رمزي، الذي يتحدث عنه المسيحيون على أنه الممثل الوحيد لهم في المنتخب وقتها، وعلى امتداد جيل كامل، وحتى اليوم. لذلك لم يكن مفاجئاً أبداً أن نسمع اليوم عن تدشين الكنيسة لأول نادٍ لكرة القدم تابع لها للمشاركة في البطولات الرسمية باسم عيون مصر، استكمالاً لدور الكنيسة في حياة رعاياها وخدمتهم، طالما عجزت الدولة عن تأدية هذا الدور وإدماج جميع أطياف المجتمع لتحقيق العدالة والمساواة من دون تمييز.
جيل كامل من المصريين، منذ كأس العالم 90، لم يشاهد هاني رمزي، ولا أي لاعب مسيحي مصري آخر من بعده يلعب لصالح أحد الأندية المصرية، ومن ثم يظهر مع منتخب بلاده
جيل كامل من المصريين، منذ كأس العالم 90، لم يشاهد هاني رمزي، ولا أي لاعب مسيحي مصري آخر من بعده يلعب لصالح أحد الأندية المصرية، ومن ثم يظهر مع منتخب بلاده. جيل كامل عاش تغيير لقب المنتخب من "القومي" إلى "الوطني"، ومن "الفراعنة" إلى "منتخب الساجدين"، ولم يلحظ تغييراً حقيقياً في اللعبة على أي مستوى. وانضمت كرة القدم إلى المهن المحرّمة على المسيحيين في مصر، بجانب القضاء ورئاسة الجامعات ومنصب المحافظ، وغيرها. ولم يجد الشباب المسيحي سوى أندية الكنائس وملاعبها لإبراز مواهبه أو قتلها في اللعب في "دوري الكنائس" بالنسبة إلى الشاب المسيحي الصغير، قبل أن ينسى الحلم تماماً ويتزوج وينجب ابناً يعلّمه أن المسيحي لا مكان له في كرة القدم، بالرغم من امتلاء الأندية وتصارعها على اللاعبين المسيحيين الأفارقة الذين يسعون إلى الاحتراف في مصر، وكذلك على المدربين الأجانب. مفارقة قد تراها عجيبةً لو كنت في مكان غير مصر.
عند سؤال اللاعب "هاني رمزي"، بعد اعتزاله اللعب، إن كان قد تعرّض للتمييز الطائفي في النادي الأهلي أو المنتخب، نفى الرجل بكل كياسة وأدب ذلك، بالرغم من عدم لعبه لصالح النادي الأهلي أو في مصر عموماً سوى لمدة ستة أشهر، قبل أن يشارك مع المنتخب في كأس العالم في إيطاليا، ومنه يحترف مباشرةً في أوروبا، بينما كانت قد انتشرت شائعات تفيد بتعرّض اللاعب للتحرش من قبل بعض زملائه المتشددين في المنتخب، وأشهرهم لاعب الزمالك إسماعيل يوسف. تواطأ الجميع، ولم يجرؤ أحد، إلا قليلين، على أن يتحدث عن ظاهرة اختفاء المسيحيين من الساحة الرياضية، لا سيما ساحة كرة القدم في مصر، ومنهم اللاعب المسيحي الذي سبق هاني في الملاعب، وهو "محسن عبد المسيح"، لاعب الإسماعيلي في سبعينيات القرن الماضي، الذي قال إنه لم يشارك في منتخب مصر بسبب اسمه، ونصحه "الجوهري" بأن يغيّر اسمه.
لم يجد الشباب المسيحي سوى أندية الكنائس وملاعبها لإبراز مواهبه أو قتلها في اللعب في "دوري الكنائس" بالنسبة إلى الشاب المسيحي الصغير، قبل أن ينسى الحلم تماماً ويتزوج وينجب ابناً يعلّمه أن المسيحي لا مكان له في كرة القدم
اللحظة التي تذكّر فيها الجميع الطائفية في الرياضة المصرية، كانت بعد ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، وهي لحظة المكاشفة والمصارحة وطرح كل القضايا للنقاش. لكن المواجهة الحقيقية جاءت بعد ظهور الطفل "مينا عصام"، ليتصدر المشهد الإعلامي في مصر عام 2016، بعد أن حكى قصة استبعاده من ناشئي الأهلي بسبب ديانته، وقام المشرف على الحرّاس في الأكاديمية واللاعب المعتزل "إكرامي الشحات"، بطرده من النادي هو وزميله المسيحي أيضاً.
اللحظة التي تذكّر فيها الجميع الطائفية في الرياضة المصرية، كانت بعد ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، وهي لحظة المكاشفة والمصارحة وطرح كل القضايا للنقاش.
الجميع اكتشفوا يومها وجود هذه الظاهرة، لكنهم اختلفوا في أسبابها بالرغم من ذلك، محاولين بشتى الطرق طمس الحقيقة التي يراها الأعمى، والبحث عن أسباب أخرى غير الطائفية والتمييز اللذين يزعجان مصر دائماً ويحرجانها أمام العالم. البعض ألقى باللوم على المسيحيين أنفسهم؛ فهم السبب في ذلك لعزوفهم عن المشاركة في الرياضة وتفضيلهم التفوق في التعليم ومجالات أخرى غير الرياضة، حسب رأي وزير الرياضة المصري. وقد ردّ عليه اللاعب المصري المعتزل "أحمد حسام ميدو"، وأكّد وجود تمييز طائفي ضد المسيحيين في الملاعب المصرية، وهو أمر يعرفه أي متابع عاقل، سواء كان مسيحياً أو مسلماً أو حتى ممن يعبدون نجيل الملاعب.
البعض الآخر تجاوز فكرة عدم رغبة المسيحيين في المشاركة، إلى وجود عيب جيني في المسيحيين أنفسهم، بسبب زواج الأقارب المنتشر بينهم منذ قرون، ما يجعل أجسادهم وبنيتهم ضعيفةً لا تصلح لممارسة الرياضة. هذا العبث كتبه شخص في منتهى الجهل والعنصرية يتابعه الآلاف، ويجد من يصدّقه ويؤيد كلامه، ويضيف عليه أن المسيحيين غير موهوبين في الرياضة، بالرغم من امتلاء ملاعب الكنائس بالمواهب الشابة. ولا يوجد مسيحي في مصر لا يعرف على الأقل موهبتين أو ثلاثاً من هذه المواهب، ولو حصلوا على فرصة متساوية مع غيرهم، فسيحققون النجاح ويحجزون أماكن في أهم الأندية المصرية على الأقل. وسط هذا النقاش العقيم، جاء خبر قبول "مينا" الذي تم رفضه في النادي الأهلي في مصر في أكاديمية ناشئ، أحد أكبر الأندية في السويد، ليعلّق أحدهم على الخبر: "هي يعني السويد فيها كورة!".
لذلك، ليس عجباً أن تجد أغلبية المسيحيين في مصر يؤيدون فكرة وجود فريق كرة قدم "مسيحي"، بعد كل ما عانوه من تمييز في كل مناحي الحياة
لذلك، ليس عجباً أن تجد أغلبية المسيحيين في مصر يؤيدون فكرة وجود فريق كرة قدم "مسيحي"، بعد كل ما عانوه من تمييز في كل مناحي الحياة، جدّها وهزلها ولعبها وكوارثها. اللوم كله يقع على الدولة التي ساهمت، بسكوتها أحياناً وتأييدها للأصوات الرجعية أحياناً أخرى، في التأكيد على فكرة التمييز وعدم المساواة. ولم تعاقب بالقانون كل من مارس العنصرية والتمييز على أساس اللون أو العرق أو الدين، كما ينص الدستور. ولا يكفي أن يخرج أحد المتحدثين باسم وزارة الرياضة المصرية، معلقاً بأن القانون يمنع قيام أندية رياضية على أساس ديني فقط، من دون أن يتكلم في المشكلة الحقيقية وأسبابها وطرائق الدولة لعلاجها، لأن الرد جاء سريعاً من إدارة النادي، بالتأكيد على أن "عيون مصر"، نادٍ لكل المصريين وليس للمسيحيين فحسب، كما يروّج مؤيدو الفكرة الذين نسوا أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تقول عن نفسها إنها جماعة لكل المصريين أيضاً، وعيّنت "وفيق حبيب" المسيحي نائباً للمرشد. وكذلك حزب النور السلفي يؤكد دائماً على أنه حزب لكل المصريين. الجميع يعلمون ويتفقون ضمنياً على أن ما يقال هو لتوفيق الشكل القانوني لوضعية النادي في المستقبل، فهو شكلياً يضم مؤسسين وإداريين ومدرّبين من المسلمين والمسيحيين، ومؤكد أن اللاعبين سيكونون كذلك، لكن هذا لا يمنع أنه سيُعدّ البوابة المفتوحة دون غيرها، للمواهب الشابة بين مسيحيي مصر، للعبور إلى الاحتراف الخارجي أو اللعب في الدوري المصري، مع ناديها الذي تربّت فيه ولن تُطرد منه لأن ديانتها مختلفة عن ديانة الغالبية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com