في صيف 2008 وعقب فوز الأستاذ بهاء طاهر بجائزة بوكر العربية عن روايته البديعة (واحة الغروب)، أقامت دار الشروق احتفالاً بالمناسبة، ودعيت لإلقاء كلمة أضعها هنا بين يديك بعد كل هذه السنين التي تغير فيها الكثير، إلى الأحسن والأجمل كما تعلم:
" أحب بهاء طاهر. ولا ينغص محبتي له سوى أن كل الذين أكرههم يحبون بهاء طاهر مثل ما أحبه. قليلون هم الذين يمكن أن تتفق أنت ومن تكره على حبهم: بهاء طاهر، نجيب محفوظ، محمد المخزنجي، علاء الديب، بالنسبة لي خلق الله هذه الكائنات الجميلة ليثبت لعباده أنهم يمكن أن يتفقوا على شيء. لا أعلم أحداً أحبه أو أكرهه لا يحبهم، فإن علمتَ أنت أحداً لا يحبهم فاعلم أن الله خلقه لكي يثبت "إن الإنسان لفي خسر".
في الأول من نيسان/ إبريل الماضي شاركت في احتفال ببهاء طاهر نظّمته جماعة (ورقة وقلم) للأدباء الشبان في نقابة الصحفيين، فبدأت كلمتي بأن زففت خبراً للحاضرين بأن الحكومة المصرية أعلنت رسمياً منح بهاء طاهر قلادة النيل العظمى وإطلاق اسمه على ميدان، حتى لو كان ميدان ابن سندر، وقررت تقرير رواياته في مناهج التعليم بدلا من رواية (طموح جارية) التي يتجرّعها الطلبة كل عام، ولم يتنبه الحاضرون أنني كنت أمارس طقس كذبة إبريل إلا عندما قلت إن الحكومة قررت أيضاً التوقف عن حبس الصحفيين وجرجرة الكتاب المستقلين في المحاكم.
في صيف 2008 وعقب فوز الأستاذ بهاء طاهر بجائزة بوكر العربية عن روايته البديعة (واحة الغروب)، أقامت دار الشروق احتفالاً بالمناسبة، ودعيت لإلقاء كلمة أضعها هنا بين يديك بعد كل هذه السنين التي تغير فيها الكثير، إلى الأحسن والأجمل كما تعلم...
حتى في صوره القديمة وهو في ريعان الصبا، يبدو بهاء طاهر وقوراً مندهشاً ومسكوناً بالشجن والأسئلة، كلما شاهدت صوره القديمة ذكرني بالفنان القدير عبد الوارث عسر الذي كان في عز شبابه يؤدي دور الأب الحكيم، لكن بهاء طاهر عندما يكتب يفقد وقاره، لكنه لا يفقد أبداً اندهاشه وشجنه وحبه الدائم للأسئلة التي يمني نفسه بأن يكون أشطر من غيره فيجيب عليها.
كنت أظن أن بهاء طاهر بعد هذه التجربة العريضة في الحياة قد أوتي من الحكمة خيراً كثيراً يجعله لا يسأل في الحوارات التي أجراها بعد فوزه بالجائزة عن سر تجاهل حكومة الحزب الوطني للثقافة والمثقفين، وعن سر تغييب الأعمال الأدبية المهمة عن مناهج التعليم. كان عم بهاء يسأل باندهاش أحسده عليه، وكنت أظنه يعلم أن الأدب في بلادنا صار عورة لابد من أن نتحاشاها لكيلا تجلب لنا الفوضى التي تهدد الاستقرار الذي نرفل فيه، وأن الشيء الذي يعرفه كبار مسؤولينا عن الأدب هو أن الأدب فضلوه على العلم، ولذلك فهم لا يهتمون بالعلم فضلا عن أنهم لا يمارسون الأدب إلا في حضرة الأعلى منهم مسؤولية.
لنا صديق عابث اقترح حلاً يدفع إعلامنا ومسؤولينا للاهتمام ببهاء طاهر وأدبه، وهو أن يهرب عم بهاء إلى سويسرا بقيمة جائزة البوكر، ليحظى بربع الاهتمام الذي ناله حارس النادي الأهلي عصام الحضري حين هرب إلى سويسرا. أعشق العبث لكنني وجدت الفكرة غير مجدية، لأن عم بهاء نزح إلى سويسرا من قبل وعاش فيها واتخذها مسرحاً لواحدة من أجمل الروايات العربية على الإطلاق، (الحب في المنفى)، ولم تنفعه سويسرا كثيراً، قلت ذلك لصديقي، فقال بعد تفكير: لم يعد هناك سوى حل وحيد هو أن يستغل بهاء طاهر علاقات المهندس إبراهيم المعلم ويوقّع للنادي الأهلي ليصبح عندها حديث البلد.
كنت أظن أن بهاء طاهر بعد هذه التجربة العريضة في الحياة قد أوتي من الحكمة خيراً كثيراً يجعله لا يسأل في الحوارات التي أجراها بعد فوزه بالجائزة عن سر تجاهل حكومة الحزب الوطني للثقافة والمثقفين، وعن سر تغييب الأعمال الأدبية المهمة عن مناهج التعليم
عندما أصدر عم بهاء تحفته (نقطة النور) التي ساهمت في تغيير حياتي، للأحسن كما أظن، أخذت على عاتقي أن أقوم بتحويلها إلى فيلم سينمائي أحاول فيه تخريبها كما يحدث لأغلب الأفلام المأخوذة عن أعمال أدبية، مرت أعوام كثيرة حتى بدأ الحلم يتحقق منذ أشهر ووقّع عم بهاء عقد الرواية التي نأمل أنا والمخرجة هالة جلال والمنتج يحيى شنب أن ننجح في تحويلها إلى فيلم هذا العام، بعدها بأشهر تم ترشيح عم بهاء للبوكر ثم فاز بها، ولذلك تفسيران إما أن وجهنا كان حلواً عليه، أو أن الله أراد أن يعوضه خيراً عما سيحدث للرواية على أيدينا.
المعاناة التي شهدتها وعاشها معي الأستاذ بهاء وأنا أحاول الحصول على منتج سينمائي يتحمس لإنتاج (نقطة النور)، جعلتني بعد صدور (واحة الغروب) أقول له مداعباً: لا تتوقع مني أن أفاتحك في تحويلها إلى فيلم، فإذا كان المنتجون قد هربوا من مشهد انهيار البيت في نقطة النور، فمن أين لنا بمنتج يصور انهيار المعبد، إلا إذا كنا سنبني المعبد في مدينة الإنتاج الإعلامي ليرفض الأمن بعدها التصريح لنا بهدمه إلا بعد أن نأخذ موافقة هيئة الآثار على هدم المعبد.
حسناً. لن تخفف هذه التعليقات من مرارة حقيقة أن السينما المصرية لم تقدم حتى الآن عملاً مأخوذاً عن رواية لبهاء طاهر، سنكون جميعاً محظوظين لو شهد هذا العام تصوير (نقطة النور) وعمل آخر هو (خالتي صفية والدير) للسيناريست ناصر عبد الرحمن والمخرجة أسماء البكري، وسنكون محظوظين أكثر لو تحققت المساعي التي تبذلها دار الشروق لتحويل واحة الغروب إلى عمل سينمائي عالمي.
عندما أصدر عم بهاء تحفته (نقطة النور) التي ساهمت في تغيير حياتي، للأحسن كما أظن، أخذت على عاتقي أن أقوم بتحويلها إلى فيلم سينمائي أحاول فيه تخريبها كما يحدث لأغلب الأفلام المأخوذة عن أعمال أدبية
بعد أن صدرت (واحة الغروب) مباشرة كتبت عنها مقالاً أحبه الأستاذ بهاء، اخترت له عنوان (خديعة بهاء طاهر الجديدة)، قلت فيه الآتي:
"هل قرأت رواية بهاء طاهر الجديدة؟ في العادة كنت سأعذرك تماماً لو أجبتني "وهل صدرت لبهاء طاهر رواية جديدة؟"، فقد تعودنا بوصفنا بلاداً لا تحترم مبدعيها ولا نفسها بأن تصدر روايات أدباءنا الكبار في صمت مخجل، لكن لا حجة لك هذه المرة، وقد قطع الله عادتنا، فشهدنا في أكثر من صحيفة ومجلة احتفاءً لا بأس به بـ "واحة الغروب" التي صدرت عن سلسلة روايات الهلال قبل شهر، صحيح أن أغلب ما نشر عنها، جاء من أناس يعرفون قيمة بهاء طاهر ويقدرونه حق قدره، وصحيح أن كل ما تم نشره لا يقارن أبدا بما يحدث في البلاد التي تحترم نفسها عندما تصدر رواية جديدة لأديب كبير ومهم وتصبح حدثا يستحق الاحتفاء والاحتفال، تماما كمهرجانات السينما وحفلات افتتاح الأفلام الكبرى ومباريات الكرة المهمة وأحدث الاكتشافات العلمية المذهلة ومسابقات ملكات الجمال,
في تلك البلاد، الرواية الجديدة للأديب المهم حدث مهم تماما كعيد ميلاد السيد الرئيس لدينا، بمجرد نزولها يعيش كاتبها أجواء فرح تخفف عنه آلام مخاض الكتابة، تقام له حفلات التوقيع التي ترد تقارير عنها في نشرات الأخبار، وتكلف الصحف نقادها المتخصصين بقراءة روايته وعرضها كخدمة للقارئ، وتتسابق البرامج التلفزيونية المهمة يومية كانت أو أسبوعية للحديث عن الرواية والالتقاء بكاتبها وبأهم نقاد البلاد، لكن ذلك لم يحدث لنجيب محفوظ بجلالة قدره قبل حصوله على نوبل حتى نطلبه لبهاء طاهر أو لخيري شلبي أو لإبراهيم أصلان أو لأي من أدباءنا الكبار الذين حصلوا على جائزة الدولة التقديرية بشق الأنفس.
لعلك زهقت من الحديث عن ضرورة تكريم المبدعين الكبار في مصر وخطورة تجاهلهم، معك حق، هذا كلام أمسى معادا مكررا لدرجة أن الأريح لنا ولهم أن نعتبر تجاهلهم قدرا لا فكاك منه تماماً كصفوت الشريف
لعلك زهقت من الحديث عن ضرورة تكريم المبدعين الكبار في مصر وخطورة تجاهلهم، معك حق، هذا كلام أمسى معادا مكررا لدرجة أن الأريح لنا ولهم أن نعتبر تجاهلهم قدرا لا فكاك منه تماماً كصفوت الشريف. فليكن. تعال إذن نفكّنا من هذا الكلام ونتحدث عن " واحة الغروب" التي جاءت بمثابة خديعة كاملة الأبعاد مارسها علي العم بهاء طيلة الأعوام الماضية التي أعقبت صدور روايته التحفة "نقطة النور" التي لم تنل بعد ما تستحقه من الحفاوة والتقدير. كنت كلما التقيت بعم بهاء صدفة أو بميعاد يسألني عن أخبار مشروع تحويل (نقطة النور) إلى فيلم، فأجد نفسي في نصف هدومي، وأبادره مغلوشاً وسائلاً "ما فيش رواية جديدة"، فيشكو لي من متاعبه الصحية وآلام عينيه التي منعته من القراءة والكتابة لفترة، ثم يهز رأسه بتواضعه الآسر ويقول:، "بس يعني، باحاول أخلّص حاجة كده"، هكذا كان يقول كلما ألححت في سؤاله عن عمل جديد، لذلك شعرت بالخديعة عندما اتضح أن "الحاجة كده" هي رائعة (واحة الغروب) بكل ما فيها من جهد مُضنٍ في الكتابة، ستدركه وأنت تقرأ الرواية التي ستسأل نفسك وأنت تقرأها عن الخطوط الفاصلة بين الحقيقة والخيال فيها، لتعرف عند وصولك إلى نهايتها أن بهاء طاهر استأنس في كتابتها بعدد من الكتب والدراسات أثبتها في نهاية الرواية للقارئ المهتم بمقارنة الحقيقة بالخيال.
ربك والحق، لم أكن أتوقع أن يقدم بهاء طاهر في روايته عالماً كالذي قدمه.
وبصفتي قارئاً مهتماً بالخيال فقط، لأن بيني وبين الحقيقة ضدّيات كثيرة، لم أهتم بالاطلاع على الكتب التي ذكرها عم بهاء، واكتفيت بالاستماع بقدرته على بناء عمل روائي شديد الثراء استلهمه من واقعة سجلت فيها كتب التاريخ تهدّم معبد في واحة سيوه في أواخر سنوات القرن التاسع عشر، خلال ولاية مأمور للواحة اسمه محمود عزمي لا تذكر المراجع شيئاً عنه سوى اسمه، وإن كانت تذكر أن حجارة المعبد بعد تهدمه استخدمت لبناء سلم جديد لقسم الشرطة وترميم سكن مأمور الواحة.
من هذه السطور القليلة نسج بهاء طاهر عالماً روائياً، بطله مأمور شرطة منقول من الإسكندرية إلى واحة سيوه أيام كان السفر إليها ارتحالا إلى الموت، لكنه يسافر هارباً من مرارة مكابدته لهزيمة ثورة عرابي على يد الإنجليز، ويواجه هزيمة نفسه التي يمضّها الشعور بالذنب والحنين إلى حب ضائع ومحاولة إحياء علاقة تموت بزوجته الأيرلندية التي تجري وراء خيالات تاريخية عن الإسكندر الأكبر، هاربة هي الأخرى من هزائم روحية تطاردها حتى الواحة بمجيئ أختها المريضة إليها طمعا في الاستشفاء بدفء الشرق.
ربك والحق، لم أكن أتوقع أن يقدم بهاء طاهر في روايته عالماً كالذي قدمه، كثيرون من أدبائنا أصبح لديهم مساحات روائية محفوظة يتحركون فيها، يمتعوننا بها أحيانا ويخيبون أملنا أحيانا، لا تجد لدى الكثيرين منهم قدرة نجيب محفوظ الخلابة على تقديم صدمة إبداعية في كل مرحلة من مراحله الروائية، لكن بهاء طاهر فعلها في روايته الجديدة مثبتاً أن الخيال لا يشيخ، وأن هناك فرقاً بين أن تكون لديك تجربة حياة تعيش على روايتها سنين يتوقف عددها على غزارتها ثم على شطارتك، وبين أن يكون لديك خيال محلق يستطيع أن ينتقل من السيدة زينب وعالم الطبقة المتوسطة في نقطة النور إلى واحة سيوه ويتخذ من الإسكندر الأكبر بطلا من أبطال روايته.
وإذا كان بهاء طاهر قد كتب (نقطة النور) بروح مثقلة بمرارة السنين تلامس أعتاب التصوف، فإنه في (واحة الغروب) يكتب بروح مغامرة وراغبة في اكتشاف المجهول الذي تخبئه الصحراء، لكن تلك المغامرة الشكلية والموضوعية لا تجعله ينسلخ أبداً عن مسيرته الروائية التي ارتبط بها محبوه، ربما ستجد في رحلات الصحراء وأروقة المعابد ظلالاً من (أنا الملك جئت)، وربما ستجد في إحساس المأمور بالهزيمة وصراعه مع روحه المعذبة توحداً مع هزيمة بطل (الحب في المنفى) أشهر المهزومين في تاريخ الرواية العربية، وربما ستجد في علاقة محمود بزوجته كاثرين تواصلاً مع أسئلته الدائبة في أكثر من عمل عن علاقة الشرق بالغرب، لكن كل تلك الظلال ستشعرك بحميمية أكثر وأنت تقرأ الرواية التي بدا فيها إحكام الصنعة الروائية وهو ما أقيسه أنا كمدمن لقراءة الرواية بصراعي مع نفسي لكي ألزمها بعدم استراق النظر إلى الفصل التالي لمعرفة ما حدث قبل أن أكمل الفصل الذي أنا فيه، ولعلك ستكتشف ذلك بنفسك عندما تقرأ الرواية.
سيلفت انتباهك وأنت تنهي قراءة الرواية أن بهاء طاهر اختار أن تخلو الرواية من أي مساحات للبهجة كالتي حفلت بها روايته السابقة (نقطة النور)، والتي برغم قسوة الواقع الذي روته، كانت حافلة بمساحات من السخرية من تناقضات هذا الواقع، انظر مثلاً شخصية بواب العمارة البديعة التي كان لها إطلالات قليلة ولكن شديدة الجمال، لكنه هذه المرة لا يبدو راغباً في فعل ذلك، بدليل أنه يمر على تفاصيل مثيرة للسخرية بكل تجهم وصرامة، فضلاً عن اختياره تقديم نهاية متشائمة تخلو من أي أمل، وهذا حقه الذي لا أنكره عليه، لكنني سأقول وأجري على الله إنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الشعور بتناقض بين ما قدمه العم بهاء في روايته الجميلة الحزينة وبين ما أنكره في أكثر من موضع على الصحف المعارضة والمستقلة من أنها لا تقدم أي بارقة أمل ولا تدل الناس على السبيل ولا تزيدهم إلا كآبة وتشاؤماً، فإذا به يختار في روايته أن يغلق كل أبواب الأمل في وجوه أبطاله المعذبين.
لكنني سأقول وأجري على الله إنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الشعور بتناقض بين ما قدمه العم بهاء في روايته الجميلة الحزينة وبين ما أنكره في أكثر من موضع على الصحف المعارضة والمستقلة من أنها لا تقدم أي بارقة أمل
وإذا كان عم بهاء في رسالته الشهيرة إلى صحيفة (العربي) المعارضة، والتي أعلن فيها اعتزاله قراءة الصحف المعارضة والمستقلة أن يظلم مجهودات صحفيين شرفاء ليس ذنبهم أن الواقع الذي يكتبون عنه شديد المرارة والسواد، وبدلاً من تقدير مجهودهم، قد اختار أن يعيد ولو بحسن نية إنتاج ما تكتبه صحف الحكومة عن أن الصحف المعارضة والمستقلة صارت مرآة لتصدير الواقع الأسود وأن من يقرأها لابد أن يفكر في الهجرة من مصر، وكان الأولى بالعم بهاء أن يتذكر أن دور الصحافة في العالم كله نقد الواقع بالدرجة الأولى وليس تقديم حلول له، وإلا فما هو دور الحكام إذن؟ ثم ما العمل إذا جاء متطاول مثلي أو أكثر مني تطاولاً، واتهم العم بهاء بأنه بينما يدعو إلى نشر الأمل، يكتب رواية تعلن أن الطريق الوحيد في واقع كواقعها هو الانفجار.
ستقول لي: لكن وما شأن تشاؤم العم بهاء في روايته واحة الغروب وزمنها البعيد بأوضاعنا الآن في مصر، والحقيقة أن هذا يجرني للحديث عن الخديعة الأساسية التي يمارسها بهاء طاهر عليك في بداية الرواية، وما أجملها من خديعة، عندما يوهمك في بداية الرواية أنه هارب من كل ما تعيشه مصر الآن إلى عصور تاريخية سحيقة، وربما غضبت منه للحظات لأنه لم يواصل اشتباكه مع الواقع المصري المباركي الكئيب والذي وصل إلى أعتابه في (نقطة النور) راصداً بداية الشرخ في البنيان المصري، ومنذراً بالانهيار الوشيك بعد أن أصبحت مصر محاصرة بين جيل شيخ لا يزال راغباً في تذوق لذة الحياة، وجيل وسيط مغيب لا تكاد تحس بوجوده، وجيل شاب مصاب بنوبات من الصرع العقلي والنفسي تجعله غير قادر على الحلم فضلا عن التأثير.
بوصولك إلى نهاية (واحة الغروب) ستكتشف أن بهاء طاهر كان طيلة روايته غارقاً في رصد وتأمل الأسئلة الكبرى التي تحاصرنا الآن: من نحن حقاً وكيف ننظر إلى تراثنا وكيف ينظر إليه الغرب وكيف ننظر نحن إلى الغرب وهل ثمة تلاقٍ بيننا وبينه مهما حاول أن يقترب منا؟
بوصولك إلى نهاية (واحة الغروب) ستكتشف أن بهاء طاهر كان طيلة روايته غارقاً في رصد وتأمل الأسئلة الكبرى التي تحاصرنا الآن: من نحن حقاً وكيف ننظر إلى تراثنا وكيف ينظر إليه الغرب وكيف ننظر نحن إلى الغرب وهل ثمة تلاقٍ بيننا وبينه مهما حاول أن يقترب منا؟ لماذا انهارت أحلامنا الكبرى وإلى أي حد كنا سببا في هذا الانهيار؟ وكيف تأثرت حياتنا بفهمنا الخاطئ للشريعة وأعرافنا البالية التي قمعنا بها حرياتنا وقدرتنا على التعاطي مع ما نعيشه من تحديات ومخاطر؟ وهل نستحق التراث الذي ورثناه عن أجدادنا أم أننا أصبحنا عبئاً عليه، وصار لابد من نسف كل ما يربطنا به حتى نتحرر أو حتى نحرره من كوننا عبئا عليه؟ بالطبع يمكن لك أن تذكرني بأن بهاء طاهر ليس مسئولاً عن إحساسي بكل هذه الأسئلة التي أورط روايته بها، وأنه مثلاً لم يكن ينوي سوى تقديم عمل ممتع ومتماسك تدور أحداثه في واحة سيوه، لكنني لن أصدقك، فأنا لم أجد في أبطال الرواية إلا أرواحنا المعذبة ولم أجد في أحداثها المتلاحقة إلا حياتنا الخربة المليئة بأسئلة لم نقترب بعد من فهمها، فضلا عن الإجابة عليها، ولم أجد في واحة الغروب إلا مصر.
يا عم بهاء كنت سأقول لك في ختام حديثي: سلمت أقلامك التي كتبت بها هذه الرواية، لكنني تذكرت أنك تكتب بالقلم الرصاص، لذلك سأقول: سلمت يمينك وعيناك ودماغك وأعصابك وحواسك الخمس أو الست إن كنت تمتلك حاسة سادسة، ولا حرمنا الله من خداعك الجميل وتواضعك الآسر ومن قراءتك للصحف المعارضة والمستقلة ودعمك لها، وأتمنى ألا يصل حديثي عن روايتك وفهمي لها إلى أسماع أي مسئول في هذه البلاد، لأن ذلك سيجعلهم يلغون أي تفكير مستقبلي في الاحتفاء بواحة غروبك أو إدخال نقطة نورك إلى مناهج التعليم، لتبقى نقطة النور المسموح بتداولها في مدارسنا وجامعاتنا هي الموجودة في شعارهم المفضل: "الجهل نور".
لكن الأستاذ بهاء على الأقل لم يتشنّع في تأييده أو في هجومه على المعارضين للسيسي كما فعل آخرون، وبعد أن انكشفت كثير من أكاذيب السيسي اختار الصمت والابتعاد
بعد 14 سنة من إلقائي لهذه الكلمة، رحل الأستاذ بهاء طاهر إلى جوار الله بعد أعوام من العزلة والصمت ومقاومة المرض، كنت أتمنى أن أسمع منه في السنوات الماضية تعليقاً على ما يجري في البلاد من مظالم وجرائم، خاصة أنه كان من المتحمسين لعبد الفتاح السيسي والمراهنين عليه، ولم يكن في ذلك وحده، بل شاركه الكثير من كبار مثقفينا الذين خذلوا أنفسهم ومحبيهم وتنكروا لما عاشوا يكتبونه ويدافعون عنه طيلة أعمارهم، لكن الأستاذ بهاء على الأقل لم يتشنّع في تأييده أو في هجومه على المعارضين للسيسي كما فعل آخرون، وبعد أن انكشفت كثير من أكاذيب السيسي اختار الصمت والابتعاد، وحين توفاه الله رثاه بحزن بالغ وحب جارف جميع قرائه الذين كان من بينهم كثير من الذين يتهمهم نظام السيسي بالخيانة والعمالة، وعدد من المعتقلين السياسيين الذين تحدثوا عن رواياته الجميلة التي خفّفت وطأة أوقاتهم في السجون.
حين قرأت تدوينة لمثقف جبان يلوم علاء عبد الفتاح على قراره بدلاً من أن يلوم الجلادين والظلمة الذين يخنقون أرواح آلاف المعتقلين السياسيين ويدمرون حياة أسرهم، تذكرت رواية بهاء طاهر البديعة (قالت ضحى)
حين تبارى الكثير من الأصدقاء في الاستشهاد بمقاطع من روايات العم بهاء، كان علاء عبد الفتاح قد أعلن عن تصعيده للإضراب عن الطعام والشراب طلباً للعدل الذي يحرمونه منه منذ سنين هو وأسرته، وحين قرأت تدوينة لمثقف جبان يلوم علاء على قراره بدلاً من أن يلوم الجلادين والظلمة الذين يخنقون أرواح آلاف المعتقلين السياسيين ويدمرون حياة أسرهم، تذكرت رواية بهاء طاهر البديعة (قالت ضحى) التي يدور حوار بين اثنين من أبطالها عن وهم الظلم المؤقت الذي يدفع البعض من المثقفين لتأييد الاستبداد أملاً في انصلاح الأحوال، بينما يرفض صديقهما سيد القناوي أن يتخلى عن الوقوف ضد الظلم، وحين يتساءل أحدهما عن جدوى ذلك إذا كان لن ينقذ العالم، يرد عليه الآخر: "قد لا ينقذ من يطلب العدل العالم، وقد لا يقضي على تلك الحية، لكنه ينقذ نفسه.. أنا أعرف أن طلب العدل مرضٌ، لكنه المرض الوحيد الذي لا يصيب الحيوانات، كل ما في الأمر أننا، أنا وأنت، شفينا من هذا المرض، فأصبحنا نرى أعراضه على الآخرين".
غفر الله لبهاء طاهر ولنا، وحفظ علاء عبد الفتاح وكل الذين لا يرغبون في التخلي أبداً عن طلب العدل أياً كان الثمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...