الروائيون كثر، شائعون حد التخمة، فكل منا يملك حكايةً، أما الشعراء الحقيقيون، فنادرون، مهما زاد عددهم. يتساقطون من الذاكرة أسرع، لأن الحاجة إلى الشعر لا يمكن تزييفها، لم تسلّع بعد أو تدخل في ماكينة الرغبات، وتامر فتحي في رأيي هو الشاعر بألف ولام التعريف، رغم أن مسيرته كلها لا تتعدى ديوانين، كتبهما بكسل وتأنٍّ يشبهانه.
الفارق بين الديوانين يتخطى خمسة عشر عاماً؛ الأول "بالأمس فقدت زراً" الصادر عن دار شرقيات عام 2005، والثاني هو "سقوط... سيرة رائحة" الصادر في 2022 عن دار المرايا.
حقق الديوان الأول صدىً لافتاً عند نشره، ربما يكون من أشهر دواوين الشعر في تلك الفترة، ومنح تامر فتحي مكانته.
ورغم أن الديوان الثاني أقل صدىً نسبياً من "بالأمس فقدت زراً"، إلا أنه يظل داخل دائرة الشعر النادر، كما أنه لا يمثل خطوةً إلى الوراء، بل تحولاً، وقفةً بين جسرين، محاولةً للقبض على ما لا يُقبَض عليه. أهناك تمثيل أدق من محاولة الإمساك بالهواء أثناء السقوط من شرفة نافذة، والقبض على الروائح التي يحملها بكل أريجها الطيار الزائل؟
في ذلك الزائل غير الصامد، تكمن الحكمة كلها، لأن ربما ما هو صلب ويبدو لنا أساسي، هو الحماقة عينها، هو حجاب الرؤية، لأن لا شيء ثابت. ما نظنه اللغةَ التي تصنع الحكمة، قد لا تكون إلا مرضَ اللغة نفسها وهي تحاول تثبيت الزمن والمعنى تحت إغراء البحث عن الحقيقة.
ما أسهل إيجاد الحقيقة؛ كل ما علينا أن نفعله هو أن نتحلى بشجاعة زائفة لنبش أوّلِ قبر يصادفنا، والتحديق طيلة ساعات في جثة. هذا بعينه هو شُحّ النظر
ولكن ما أسهل إيجاد الحقيقة؛ كل ما علينا أن نفعله هو أن نتحلى بشجاعة زائفة لنبش أوّلِ قبر يصادفنا، والتحديق طيلة ساعات في جثة. هذا بعينه هو شُحّ النظر، تخدعنا الحياة ببقعة ضوء أسيرة داخل دائرة، وتعاقبنا بحرماننا من أنوار شاهقة وظلال مهيبة لسيولتِها المتدفقة المتحولة في كل آن.
يبدأ الديوان وينتهي في رحلة إدراك قصيرة، لكنها تنجح في تثبيت الزمن، من خلال لحظات سقوط رجلٍ من نافذة غرفته إلى الأرض، يخبرنا هايدغر أن لا شيء يحفز قدرتنا على الرؤية قدر إدراكنا أننا سنموت ونواجه العدم؛ "إذا قبلتُ الموت في حياتي واعترفتُ به وواجهته مباشرة، سأحرّر نفسي من قلق الموت وحقارة الحياة، وحينها فقط سأكون حرّاً في أن أصبح نفسي"، يقول هايدغر.
لا يمكن للإنسان أن يتعرف على نفسه، إلا بعد أن تتساوى لديه الحياةُ بالموت
ما بين قوسي السقوط والارتطام، يتقصى تامر أثرَ الروائح، الطبقات التي تخفي رائحته الحقيقية، كأنه بتنسُّمها واقتناص حقيقتها، يزيلها أيضاً عن أنفه لاكتشاف رائحته: رائحة الأب، الشقاء الصارم الذي يبني، رائحة الأم السلبية، لكنها التي ترعى وتمنح، الأخت التي هي مزيج من الأب والأم في القوة والعطاء، الولَّادة والبنَّاءة. رائحة التمرد، ورائحة العطن التي تمثل الثبات، رائحة تقليد روائح أخرى، وأخيراً رائحة الرغبة والدهشة واكتشاف العالم.
رحلة لاكتشاف الروائح وإسقاطها، حيث الإنسان عصارة تلك الروائح معبأة في قارورة أنفه، وفي تأكيدها تكمن كلُّ حقيقته، وفي نفيها تظهر حقيقة أكبر، حقيقة صفرية يصغر معها كلُّ شيء وكل حقيقة، حيث كل شيء معاد، مكرر، ولا أمل إلا في الخفة، الذوبان في الهواء، في مجاز السقوط من الشرفة، لا نحو الموت، بل نحو براح اللانهائي.
ينتهي الديوان بحوارٍ عاصف بين الروائح، يحاول إثناء الرائحة التي شكلتها، عن التحرر من سجنها، سجن الذات.
في القصيدة الأخيرة بالديوان، يحلل تامر نفسه إلى عناصر أولية تجريدية، بلغة مباشرة وجافة تتخلى عن الزخرفة في مقابل المعرفة من النقطة صفر، حيث يَظهر أخيراً صوتُ الشاعر فريداً، يائساً، خفيفاً، كنشوةٍ ورائحة، حيث لا يمكن للإنسان أن يتعرف على نفسه، إلا بعد أن تتساوى لديه الحياةُ بالموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع