جارتي "الحشرية" لم تصدق عينيها عندما صرخت في وجهها لأمنعها من التدخل في شؤوني. قالت لي: "لم أتوقع أنك تفكرين بهذه الطريقة... أنت غريبة". فكرت للحظات في كلمة "غريبة" واكتشفت أنها تقصد أنني بعيدة عن الصورة التي توقعتها ورسمتها لي في خيالها.
مسرحية هزلية لا تنتهي. يتوقع الجميع منك أن تسير على منهج وضعوه لك وفقاً لهواهم، وعندما تخرج عنه تُفتح أفواههم كالحمقى وينتظرون منك اعتذاراً سريعاً ويردد لسانهم: "كنا فاكرينك حاجة تانية".
لماذا نتوقع؟، ولماذا نرسم للآخرين باستمرار صوراً لهم؟ ثم نرجوهم خفية أن تتماشى حقيقتهم مع تخيلاتنا. وعندما يحدث العكس نشعر بالصدمة. من الذي أعطانا هذا الحق؟ وما سر هذا الشعور الفظيع بالخذلان من الآخر عندما يمزق هذه الرسمة كحق طبيعي؟
لماذا نتوقع؟ ولماذا نرسم للآخرين باستمرار صوراً لهم؟ ثم نرجوهم خفية أن تتماشى حقيقتهم مع تخيلاتنا.
الصدمة الأولى
كان المقربون مني هم أول من وقعوا في هذا الخطأ. العائلة رأتني بعد التخرج فتاة شابة. ومن المؤكد أنها تحلم بالعريس وتنتظر الزواج بفارغ الصبر، ومن ثم انهالت العروض والأفكار. وعندما قلت "لا"، كانت صدمة بالنسبة لهم ورد غير متوقع من فتاة كسرت الصورة المعتادة عن هدوئها.قريبة لي اعتدت أن أتعامل معها بشكل جيد. لم يوجد من قبل مبرر يجعلني أظهر طبيعتي المتمردة أمامها، وجدت أنني سأكون صيداً ثميناً لابنها "غير المتعلم". وفاتحتني في موضوع زواجي منه ولم يكن في مخيلتها أنني سأرفض. المرأة كانت تتحدث وتنتظر من فتاتها الطيبة الهادئة القنوعة المتخيلة أن توافق بمنتهى السهولة. وعندما قلت "لا" لابنها صالت وجالت بين نساء العائلة. ورددت جملتها الشهيرة: "كنا فاكرينها غلبانة". عزيزتي لم أمنحك يوماً ما يجعلك تظنين أنني فتاة لا أقدر نفسي وأنني أقبل بأي شيء، ثم من طلب منك تقييمي وتصنيفي وفقاً لهواك؟
العائلة رأتني بعد التخرج فتاة شابة. ومن المؤكد أنها تحلم بالعريس وتنتظر الزواج بفارغ الصبر، ومن ثم انهالت العروض والأفكار
تقول زميلة لي: "الناس تظن أنني امرأة متدينة وسعيدة بالنقاب الذي يخنق رقبتي ولا يعرفون أنني أفكر كل يوم في خلعه. أشعر أنني محبوسة في عقلهم بهذه الصورة". قبل شهور، خلعت زميلتي النقاب وكان المقربون منها مصدومين وظن بعضهم أن بها خللاً عقلياً لأنها ترتديه منذ 10 سنوات. ولم يفكر أي منهم في احتمال أن هذا ما تصوره لهم عقولهم.
جريئة أم متدينة؟
لا أمل في أن يتخلى الآخر عن حصرك في صورة محددة، وهذا ما يفعله من حولي باستمرار. دخولي مجال العمل جعلهم يقولون إنها فتاة "غاوية شغل" ولكن مع قراءتهم لما أكتب والكشف عن بواطن أفكاري باستمرار من خلال قلمي، دفعهم لمحاصرتي مجدداً والتساؤل: "أنت جريئة إحنا كنا فاكرينك متدينة".لم أفهم هل كلامي عن أمور الدين يجعلني متدينة؟ وهل كتاباتي بحرية تجعل مني العكس؟
مقالات أكتبها من وقت إلى آخر، وقصص أعبر من خلالها بحرية عما يجول بخاطري، وكلمات تحمل متنفساً كبيراً لضغط نعيش فيه باستمرار، فرصة جديدة للحياة والتعبير. كلها لم تمنع من حولي من التساؤل والدهشة "لا نصدق أنك تكتبين ذلك؟ كيف تناقشين هذه النقطة الحساسة؟ أين حياؤك؟"، ثم تأتي الجملة الصاروخية التي تجعلني أضحك كثيراً: "كنا نظنك فتاة خجولة".
تقول زميلة لي: "الناس تظن أنني امرأة متدينة وسعيدة بالنقاب الذي يخنق رقبتي ولا يعرفون أنني أفكر كل يوم في خلعه. أشعر أنني محبوسة في عقلهم بهذه الصورة"
زميلة لي صدمتني بردة فعلها عندما كتبتُ مقالاً بعنوان: "شعرت بأنني أورط الله بأجوبتي لابنتي". ثم دخلت على الخاص لتكتب لي رسالة تطلب فيها أو تنصحني أن أقوم بتغيير العنوان، وقالت بثقة: "أعلم أنه ليس عنوانك وأن من في الموقع اختاروه للفت النظر"، والحقيقة أنني عندما أخبرتها أنني كتبت هذا الكلام في متن الموضوع، تبخرت.
جمل كثيرة تتكرر: "أنت بتكتبي الكلام دا ازاي... احنا مكناش فاكرينك كده... أنت جريئة... أنا اتصدمت لما سمعتك بتكلمي المدير بالجرأة دي... تغيرت كثيراً". وعندما أرد على الاتهام الأخير وأقسم أنني لم أتغير لا يصدق من أمامي. وكأنهم يعرفون حقيقتي أكثر مني، وكأن الصورة الوهمية التي في خيالهم أصدق من الصورة التي أعرفها عن نفسي.
آخر شخصية ثقافية تعرفت عليها بعد تبادل لكتابات متنوعة قال لي: "كنت فاكرك غير كده يعني أكبر في السن ومخضرمة وغير محجبة. لم أتوقعك كذلك". هذه الجمل جعلتني أقع ثانية في خندق التصور الذي بت أكرهه كثيراً ولا أعرف رداً مناسباً لمن يقوم بحفره لي.
تعبيرك الحر يعطيهم الحق باتهامك "بالمجون"، موضوعاتك المتحررة تجعلهم يتصورون أنك غير محجبة ولا تمانعين القيام بأي شيء للوصول لهدفك. وجودك وحيدة مغتربة في مكان بعيد عن أهلك يدفعهم للظن أنك صيد سهل. هدوءُك أو مراقبتك للعالم من حولك يضعك في صورة القانع الرزين الذي لا موقف له. ثم تأتي فعلتك لتخرجك من هذه الصورة فيقام عليك الحد دون أي تفكير أو تردد.
اكسر الإطار بنفسك
بعدما تعرضت للكثير من المواقف من الآخرين المصرين على حصري في صورة محددة، قررت أن أقوم بكسر هذه الصورة أولاً بأول دون تأجيل أو مماطلة.كنت أظن في بعض الأحيان أن الآخر يجب أن يفهمني على حقيقتي وحده، وأن الفهم الخطأ مسؤوليتهم، ولكن مع الوقت أظن أنها قد تكون مسؤوليتي أيضاً. فلم أعد أسكت على الجمل التي أشمئز منها مثل: "لن تستطيعي القيام بذلك، ليس من طبيعتك"، فبت أرد بشكل سريع وغير مسالم: "وما أدراك بطبيعتي".
والأهم من ذلك أنني أصبحت أقترب أكثر من الأشخاص الأكثر مرونة الذين يعرفون أن للشخص أكثر من صورة وأكثر من وجه. هؤلاء الأشخاص المريحون في التعامل، الذين يشجعونك على كسر براويزك الوهمية باستمرار وعلى الخلق والابتكار.
تعبيرك الحر يعطيهم الحق باتهامك "بالمجون"، موضوعاتك المتحررة تجعلهم يتصورون أنك غير محجبة ولا تمانعين القيام بأي شيء للوصول لهدفك
وقد يحدث ذلك في بعض الأوقات بتلقائية شديدة ودون حساب، نضع الآخر في هذا الإطار الذي صنعناه، ولا نكتشف ما فعلناه إلا عندما نحاسبه على خروجه من هذا الإطار الذي لم يطلب أن يتم وضعه داخله، هذا الفعل يحدث كثيراً. نفعله جميعاً، ولا نشعر بمدى تأثيره على الآخر إلا عندما نكون نحن داخل الإطار.
في النهاية، أنت الوحيد القادر على رسم نفسك بشكل حقيقي، لا تلتفت لرسام كاذب يضعك في قالب يبرر فشله في الفهم والحياة. ولا تقرب منك إلا من يحترم حقيقتك ويقدسها أياً كانت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...