تم إنتاج هذا المقال ضمن ملف "الفضاء العام والجسد"، من إعداد مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات، فريق برنامج "جندر رادار"؛ بهدف إنتاج محتوى نسوي تقاطعي. حُرر ونُشر بالتعاون بين رصيف22، وشبكة الصحفيات السوريات.
كنت في الثّالثة عشر، عندما تعلّمت صنع المعكرونة في المدرسة. يومها، عدتُ إلى البيت سعيدةً، وعلى عجلٍ، لكي أعدّ هذا الطبق، وأبهر عائلتي بما تعلّمت. علّمتني ذلك معلّمة "حصّة التّدبير المنزلي"، أنا وصديقاتي، وفي الوقت عينه كان أصدقائي الصّبيان يلعبون كرة القدم في ساحة المدرسة، ولا شكّ في أنّهم عادوا إلى منازلهم ليجدوا المعكرونة جاهزة.
تبدو لي المنهجية الذكورية واضحةً، في تشييء النساء أولاً، ومراقبة أجسادهنّ وتعبيراتها وحركاتها، إلى درجة جعلهن يراقبنها ذاتياً.
لم أحبّ الرّياضة يوماً، ولم تغرني ممارستها خلال حصصها المدرسية، إلّا أنّي لم أكفّ أيضاً عن المطالبة بجزءٍ من ساحة اللّعب الّتي يحتلّها أولاد الصفّ، بمباركة معلّم الرياضة، لألعب كرة السلّة التي لا أجيدها أصلاً. لم أفهم لماذا اعتدتُ على فعل ذلك، ولكنّي كنتُ أشعر بالظّلم، وأردتُ رفضه. أمّا الأهمّ الآن، فهو أنّي بتُّ متأكّدةً من سبب عدم حبّي لممارسة الرّياضة. ببساطةٍ، لأنّي لم أتقنها، وكان ذلك يشعرني بالعار، خاصةً وأنّ جميع الأولاد ماهرون، أو متفاوتو المهارة في كرة القدم، والسّلّة، والكرة الطائرة، وفي الرّكض، وفي القفز. لم أفهم حينها أيضاً، لماذا هم أمهر منّي، ومن بنات الصفّ جميعهن، إلا أنّني فهمت الآن، وها أنا أكتب هذه المقالة لأشارك ما تمّ تجهيلي إياه، طوال سنوات.
تقول سيمون دي بوفوار، في كتابها "الجنس الآخر": "لا تولد المرأة امرأةً، ولكنّها تصبح كذلك". معها حق. لا أعتقد أنّ الأعضاء التّناسلية الذّكرية لأصدقائي كانت كفيلةً بتفوّقهم عليّ في ممارسة الرياضة. بل أجزم أنّ نظام التربية في الأسرة، والمدرسة، هو من حصرني في الأنشطة التي لا تتطلّب من جسدي الحركة، أو استهلاك مساحة أكبر من مساحته الأساسية. في حين تُطلَق أمامهم المساحات الخاصّة والعامّة كلها، وحتى مساحات النساء والفتيات الشخصية أيضاً، ليفعلوا بها ما يشاؤون. بالطبع سيجيدون الرياضة، وسأعتقد أنا أنّي لا أحبّها!
هكذا جرت الأمور، فلم أجد الفرصة في بداية حياتي للتّعرف إلى اهتماماتي، ورغباتي، وهواياتي، وهوياتي، وماذا أريد أن أصبح في المستقبل. ولم يكن من السهل أن أستكشف طريقي في الحياة، إلا أنني اليوم سعيدة لكوني أصبحتُ صحافيةً، ويشغل مقالي الحالي مساحةً من فضاء الإنترنت، المحتلّ بدوره أيضاً.
يتحدّث الدكتور مصطفى حجازي، في كتابه "التخلّف الاجتماعي"، عن وضعية قهر المرأة، ويشير تحديداً إلى ما أسماه الاستلاب الجنسي، الذي شرحه بأنّه "اختزالٌ للمرأة إلى حدود جسدها، واختزالٌ لهذا الجسد إلى بعده الجنسي"، و"يقابل التركيز الجنسي المفرط، والاختزال لجسد المرأة، قمع له يبلغ أقصى درجات الشّطط والقسوة. فالممنوعات التي تُفرَض على جسد المرأة، دينياً ومدنياً، أشهر من أن تُعرَّف".
لم أحبّ الرّياضة يوماً، ولم تغرني ممارستها خلال حصصها المدرسية، إلّا أنّي لم أكفّ أيضاً عن المطالبة بجزءٍ من ساحة اللّعب الّتي يحتلّها أولاد الصفّ، بمباركة معلّم الرياضة، لألعب كرة السلّة التي لا أجيدها أصلاً
يظهر هذا الاختزال جلياً في مظاهر عامّة وخاصّة عدة. أحد الأمثلة الصارخة من تجربتي الشخصية على ذلك، هو حين انتقلتُ للعيش في الأردن، والتحقت مباشرةً في المدرسة الثانوية هناك. أخبروني في المدرسة، أنّه عليّ شراء زيٍّ مدرسي يمكنني العثور عليه في جميع محال الألبسة في سوق الحيّ. توجّهتُ إلى السوق فعلاً، وعثرتُ على الزّي! أو (المريول)، وهو رداء طويل إلى حد الركبة، أو ما فوقها بقليل (المهم أن يغطّي المؤخرة والأفخاذ)، وبالطبع علينا أن نرتدي تحته بنطالاً غير ممزّع، أو مبرقع، أو ملّون. في يومي الأول في المدرسة (للبنات فحسب)، كانت لدي الفرصة في رؤية أولاد المدرسة المجاورة على الطريق، وكان لدي فضول للتعرّف إلى زيّهم، فكنتُ متأكدةً من أنه مختلف عن زيّنا. بحثت عن الزيّ في أرجاء الشارع المليء بالطلبة والطالبات... ولم أجد زيّهم. ليس لديهم زيّ! بل يختارون ما يشاؤون من ثيابهم (التي لا تغطّي المؤخرة)، ويذهبون إلى مدرستهم، بهذه البساطة.
يرى مصطفى أن السيطرة على الجسد، هي أحد أسلحة المتسلّط، والذي هو الرجل، لامتلاك جسد المرأة، وكيانها: "من المعروف أن أقصى درجات السيطرة تتم من خلال الجسد، والتحكّم به. عندما يفلت الجسد، ويعبّر عن طاقاته، ورغباته، بحريّة، يفلت الإنسان من التسلّط والقهر. ولذلك، فالمرأة حين تتمرد، فإنها تفعل ذلك أساساً من خلال إعطاء نفسها حرية التصرّف بجسدها جنسياً في المقام الأول".
تبدو لي المنهجية الذكورية واضحةً، في تشييء النساء أولاً، ومراقبة أجسادهنّ وتعبيراتها وحركاتها، إلى درجة جعلهن يراقبنها ذاتياً. وثانياً، إقصاء تلك الأجساد التي تشرّبت الشعور بالعار والنقص، عن المساحات العامة التي يمكن أن يصلن من خلالها إلى السياسية، والاقتصاد، والتعليم، وغيرها. وفي المقابل، فتحها على مصراعيها أمام الرجال الذين وصلوا وسيطروا واحتلّوا، ثم احتكروا تلك المساحات كلها التي من المفترض أن تكون متاحةً للجميع.
إقصاء فتيات المدرسة عن ممارسة الرياضة، على الرغم من أنه لم يكن مباشراً، كان أحد أشكال القمع والاستلاب
في مقابل مبدأ العزل والفصل الذي يفترض استقلالية مستويات القمع عن بعضها، يأتي مبدأ التقاطعية الذي يؤكد على تفاعلها معاً، كالطرق المتقاطعة التي تؤدي جميعها إلى السيطرة الكلية. فتقاطعت دائماً السيطرة على جسدي، مع السيطرة على بقية أبعادي، وتفاعلت كلها لتحدّ من إمكان وصولي إلى المجال العام، وتقييد وجودي في المجال الخاص في الوقت نفسه، وكان من الملاحَظ أن كل مجتمع أحاط بي، كان متفرّداً بتطبيق المنهجية، ومبتكراً لإستراتيجياته الخاصة. ولم يكن من الممكن بالنسبة إليّ العمل ضد تلك الإستراتيجيات، بمعزلٍ عن تلك المتسلّطة على جسدي، بل كان وما زال ضرورياً الانطلاق من هنا. ولذلك، لطالما أثارت إعجابي النساء والنسويات اللواتي ناضلن ويناضلن من أجل الحرية الجسدية والجنسية، غير المعزولة عن بقية الحريات، ولطالما شجعتني قدرتهنّ على الصمود والاستمرار.
إقصاء فتيات المدرسة عن ممارسة الرياضة، على الرغم من أنه لم يكن مباشراً، كان أحد أشكال القمع والاستلاب. كذلك المريول، وغيرهما الكثير من تكتيكات ذكورية مغروزة في المجتمعات بإحكام، إلى درجة أنه يمكن عدم ملاحظتها، لا بل تصديق شرعيتها لتلعب دورها بحرية في تشكيل المجتمع، وأنظمته، ومؤسساته، بما يراعي المصلحة الأبوية القائمة على التفرقة والتمييز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون