"أين هو الله؟ هل يراني؟ كيف هو شكله؟ كيف يحميني وهو غير موجود؟"؛ هذه نبذة من أسئلة أطفالنا الصغار المتعلّقة بالله. تتكاثر هذه الأسئلة كلّما كانت الإجابات نمطيةً وخاليةً من المنطق، فالطفل لا يقتنع بسهولة، ولا نستطيع أن نملأ عقله بجمل نقتنع بها نحن، ولكن يصعب عليه فهمها.
"الله في كل مكان. يراك لكنك لا تراه. موجود في السماء. يسمعك طوال الوقت"؛ هكذا نجيب على أسئلتهم، وهكذا قال لنا أهالينا، وهكذا قال لهم أهاليهم. إجاباتٌ تجعل الطفل يعيد السؤال بشكل آخر، فيملّ الوالدان من تكرار الأسئلة، ويقولان: "لا تسأل كثيراً".
فضول الصغار "المحرّم"
كنت طفوليةً جداً في صغري، مثل أي طفل صغير، ولكن والدتي كانت تقول لي إنّي كنت أسأل كثيراً عمّا لا يخصّني في ذلك السن. كان يأكلني الفضول لمعرفة مكان الله وشكله، وإلى الآن ينتابني الفضول. قال أبي إنّ الله موجود في السماء، فصعدتُ إلى سطح المنزل، أعلى مكان استطعتُ الوصول إليه حينها، لأقترب من السماء. نظرت لأرى الله، ولكنّي لم أرَه. عدت إلى الأسفل قائلةً: "لقد نظرت إلى السماء ولم أجده". ملّت أمّي من أسئلتي المتكررة، بينما ردّت أختي الكبرى: "لا تستطيعين رؤيته بعينيك هاتين"، فازدادت حيرتي.
في المدرسة، أخبرتُ زميلتي في الفصل عمّا حدث فضحكت، وقالت: "الله ليس في السماء بل معنا، هكذا قالت أمي لي"، فأجبتها: "وكيف لا نراه؟"، فردّت زميلتنا الثالثة: "لا تقولي ذلك وإلّا ستدخلين النار"، فصمتُّ إلى الأبد.
لم أسأل بعد ذلك، ولكن ظلّ الفضول يتغذى على خلايا عقلي الصغير مع كل جديد أتعلمه: "نحن مؤمنون بالله. من يصلّي يدخل الجنة. يجب أن تحبّي الله أكثر من نفسك". كيف أحبّه وأنا لا أراه؟... لا أعرف.
"أين هو الله؟ هل يراني؟ كيف هو شكله؟ كيف يحميني وهو غير موجود؟"؛ هذه نبذة من أسئلة أطفالنا الصغار المتعلّقة بالله
كيف أشرح لابنتي عن الله؟
كبرتُ، وباتت الآية: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، تُشبعني وتجعلني أبتلع كلّ أسئلتي الفضولية عن الله، والتي عرفت في ما بعد أنّ لا إجابة واضحة عليها، وأنّ ما يقوله الأهل، جمل ثابتة ومكرّرة عبر أجيال متتالية، لأنهم لا يعرفون أجوبةً بديلة. ولم أعرف حينها أنّ ابنتي قادمة وستحمل معها قائمة أسئلة جديدة.
كنت أعدّ نفسي لهذه الأسئلة، وكنتُ أبحث عن إجابات أكثر منطقيةً، وقرّرت ألّا أعاتب ابنتي مهما سألت، وأن أحاول شرح طبيعة الموضوع بطريقة مبسطّة تتناسب مع سنّها الصغيرة.
مرضت ابنتي وأصابها سعال شديد، وفي أثناء حديثي معها، قلت: "قولي الحمد لله". نظرت إليّ، وسألت: "ما معنى الحمد لله؟". أجبتها: أنّك تخبرين الله بأنّك راضية بمرضك وبقضائه وقدره. قالت ابنتي: "أنا لست راضيةً، ولا أعرف الله، والله لا يعرف أنّي مريضة بسبب البرد".
جدال طويل دار بيني وبين ابنتي، ولم أعرف كيف أشرح لها أنّها مرضت بسبب البرد، نعم، ولكن الله يعرف بمرضها. ومع الوقت، بدأت تتكاثر الأسئلة حول الله وشكله: "ماما هل ينام الله؟ ألا تؤلمه عيناه بسبب عدم النوم؟ كيف هو صوته؟ هل يعرف اسمي؟ كيف يعرفه؟".
أجوبتي كلّها لم تكن مقنعةً كثيراً بالنسبة إليها. وشعرتُ بأنّني أورّط الله في ما أقول، وكأنّني أبعدها عنه بهذه الإجابات، التي بالرغم من بساطتها، لا يستوعبها منطق الصغار. وسألت نفسي: "ماذا يريدنا الله أن نقول عنه؟".
كانت جارتي تملك تلك الكلمة السحرية التي تجعلها تنهي النقاش مع ابنها بسرعة كبيرة. لم تكن تدخل في كل تلك النقاشات المتواصلة، ولم تشغل عقلها لتبحث عن إجابات ترضي فضول ابنها. كانت ترد ّعليه عندما تزداد أسئلته: "لا تتحدث هكذا عن الله، حرام". وعندما يسأل ابنها عن معنى كلمة حرام، تردّ: "يعني ربنا سيغضب منك وتدخل النار".
جدال طويل دار بيني وبين ابنتي، ولم أعرف كيف أشرح لها أنّها مرضت بسبب البرد، نعم، ولكن الله يعرف بمرضها. ومع الوقت، بدأت تتكاثر الأسئلة حول الله وشكله: "ماما هل ينام الله؟ ألا تؤلمه عيناه بسبب عدم النوم؟ كيف هو صوته؟ هل يعرف اسمي؟ كيف يعرفه؟"
ألا يمكن لله أنْ يكون خالقي وصديقي؟
يعرف الله طبيعتنا، ويدرك تماماً أنّنا نخاف ممّا نجهل، وأنّ الفضول من طبيعة أولاد آدم. وهذا الفضول هو الذي جعل آدم يأكل من الشجرة المحرّمة ويخرج من الجنة. ويعرف الله طبيعة الأطفال، وكيفية إلحاحهم في الأسئلة، وخاصةً عن الأشياء غير الملموسة، فهل يغضب الخالق مما يفعله المخلوق وهو يعلم منذ البداية أنه سيفعله؟
هل يخلقنا الله كائناتٍ فضوليةً ثم يعاقبنا بسبب ذلك؟ المنطق يقول لا. عقلنا، الذي أمرنا الله أن نتدبر به ونتفكر، يقول إنّ الله لا يغضب من أسئلة الأطفال. لذلك، ليس علينا نحن الأهل، أن نغضب على الطفل الذي يكثر من الأسئلة، بل علينا أن نجتهد أكثر، لنردّ على أسئلته المتواصلة. وعلى هذه الردود أن تتناسب مع طبيعة الطفل وعمره.
منذ مئات السنين وكلامنا عن الله لم يتغير. نقول كلمات الإيمان التي حفظناها: "راضون بكل شيء وصابرون". ألا يعلم الله أنّنا نكذب؟ لم نعرف قول غير تلك الكلمات.
نظلّ نعيد هذه الجمل، وعندما نعجز عن الإجابة عن أسئلة أطفالنا، نطلب منهم الكفّ عن السؤال، وتنتج عن ذلك أجيال تؤمن بالله بالوراثة، وتجهل الكثير عن رحمته، وتخاف من ناره، بينما الأهم من هذا كلّه هو أنْ يحبوه. وقبل هذا، عليهم أن يعرفوه أولاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...