لروح أمي التي احترقت كي أنير...
لروح أخي الذي آمن بي دوماً...
لروح أبي الذي علمني حب الفن...
لروح عائلتي العزيزة…
تجربة العلاج النفسي مثيرة جداً للحس الأدبي. تجد نفسك - ككاتب محتوى أدبي - في منتصف جلسات العلاج النفسي تصيغ جملاً تقع في حبها من شدة بلاغتها الأدبية، أو ربما تلك هي شيم "نرجس" التي تظهر فجأة. على كل حال، وأياً تكن، فبالتأكيد لم ترض بسهولة بحقيقة أنها لم تكن علاقة أخوية إنما أبوية، لم ترض مطلقاً.
كيف أتقبل أنك لم تكن أخي؟
بعد دراستك لعلم النفس، وبعد التعمق به كعلم وتطبيقه على العالم المحيط بك، بعد أن يقودك الشغف لمعرفة الآخرين رغبةً في استكشاف أعمق ما يوجد في طيات شخص ما، أسوأ مخاوفه ونقاط ضعفه، تكون تجربة العلاج النفسي تحدياً صعباً لك ولطبيبك المعالج - كان الله في عونه. وفي حالة فقد مرير ممزوج بالعديد من العقد الشخصية والمشاكل الأسرية، كحالتي، تكون مهمة المعالج أصعب وأعقد بكثير. عندما صدمتني معالجتي النفسية بفكرة أن علاقتي بأخي، السيد إ، لم تكن في حقيقة الأمر علاقة أخوة، إنما - من جانبه - هي علاقة أبوة، توقف عقلي ورفض الفكرة، حتى صممت على إكمال الجلسة بالرغم من انتهاء وقتها المحدد لتؤكد هذا الرفض.
كانت تخبرني أمي دائماً، أن الشخصين الوحيدين اللذين تتمنى أن يكونا أفضل منها، وأن يحصلا على ما لم تحصل عليه هما أنا وأخي. كما أنني سمعت دائماً من المحيطين بي أن علاقتي أنا وأخي فريدة من نوعها ولا تشبه علاقات الأخوة العاديين، وأنني استثماره في الأرض، وأنه يسعى دائماً لأن أكون أفضل نسخة من نفسي، نسخة أفضل منه شخصياً. كل تلك الخيوط قد تؤدي إلى أن وجهة نظر الطبيبة تحمل جزءاً من الحقيقة!
الإنكار والرفض هما سلاحي، منذ حادثتي المريرة التي قلبت موازين حياتي رأساً على عقب وأنا لم أتسلح بشيء سوى الإنكار والرفض
الإنكار والرفض هما سلاحي، منذ حادثتي المريرة التي قلبت موازين حياتي رأساً على عقب وأنا لم أتسلح بشيء سوى الإنكار والرفض. وعليه، تعمد عقلي كذلك رفض فكرة الدكتورة عن علاقتي بأخي، حتى لو تحمل جزءاً من الحقيقة. تضايقت، حنقت، وفي النهاية انفجرت غاضبة واستنكرت كلام المعالجة. "ازاي تقولي على علاقتي انا واسلام مش سوية؟"
أين أنت يا أبي؟
فرويد؟ تبادل أدوار؟ تعويض؟ مثلث أوديبي؟ مصطلحات أنا على دراية تامة بها، تلك هي المشكلة الأزلية، أنني على أتم الدراية بها. هذا مصطلح فسرت به علاقة سامة بين صديقة وحبيبها وذاك مصطلح أقحمته على نص لنجيب محفوظ مفسرة به شخصية ذكورية غير ناضجة. أينقلب السحر على الساحر؟ هل أجد نفسي فجأة في موضع الدفاع عن نفسي – والأهم - أدافع عن صورة أخي الحبيب المتوفي أمام الطبيبة؟ أغضبني كثيراً أن يُفسر كل الأمان، الحنان، الحب، الحماية، التقبل والدعم المادي والمعنوي المقدم من أخي الملاك على أنه دلالات علاقة أبوية تحكمني به. "ظلم إنك تقولي على حد قدملي كل دا أنه غير سوي!!"
هل أجد نفسي فجأة في موضع الدفاع عن نفسي – والأهم - أدافع عن صورة أخي الحبيب المتوفي أمام الطبيبة؟
وبعد هدوء العاصفة والعاطفة، بدأ المنطق في التبلور. يبدو أن تلك السيدة على حق، وكم أغتاظ من أنها كذلك. لم يكن أخي، بل كان أبي! وقصصي المتكررة عن المشكلات تجاه الأب التي أعاني منها منذ بدايات مراهقتي لم تكن مكتملة، قص منها عقلي النصف الثاني المتعلق بتعويض أخي لهذا الدور. لم تكن علاقتي بأبي متوترة فقط، إنما - وبشكل لاشعوري - انتزع عقلي السيد إ. من عباءة الأخوة وألبسه عباءة الأبوة. تلك العباءة الكبيرة عليه للغاية، تلك العباءة التي استهلك كل طاقته، وأمواله، ووقته كي يناسبها. من وجهة النظر تلك، تبدو "نرجس" زهرة سامة ومؤذية مستغلة للآخرين لتعويض نقص لديها. لكن، من وجهة نظر أكثر واقعية، لم أجبر أخي على ارتداء تلك العباءة، بل وضعها بكل الرضا والتقبل الممكن، أو ربما كان يسعى لذلك. كان أخي الحبيب عاشقاً للدور الأبوي، حتى مع الآخرين، حتى مع من هم أكبر منه يمارس الدور الأبوي - بصورته الحسنة - بكل صدق وحب.
لماذا حُرمت منك يا أخي؟
في خضم تلك الصراعات الأسبوعية التي أخوضها مع معالجتي وتقبل فكرة أن أخي كانت تحكمني به "علاقة غير سوية" حسب تصنيفي الجامد كما تصفه الطبيبة، تصدمني قريبة لي بجملة لم تلق لها بالاً وقالتها وسط حديث طويل تحاول به مواساتي على فقد أخي الذي لم أكف عن النوح عليه:
"حاولي تبصيلها إن كان ابتلاؤك في الأرض هو الأذى المستمر اللي بيجيلك من أبوكي، فإسلام كان العوض عن الأذى دا، ولما الأذى اختفى، العوض اختفى معاه"
جملة بسيطة، مكونة من فكرة واحدة بسيطة منطقية للغاية كانت قادرة على خرق آخر طبقة من قماشة الإنكار الكثيفة التي ظللت أنسج بها أعواماً وأعواماً حول علاقتي بأخي. ففي لحظة واحدة مشؤومة، فقدت أبي - الذي لم يحبني يوماً - وأخي الذي عرفت بسببه ماذا تعني الأبوة وأحبني كما لم يحبني والدي.
تمزيق قماشة الإنكار تلك أخذ مني - ومن طبيبتي - وقتاً وجهداً وجلسات علاجية كثيرة لرؤية الحقيقة كما هي "مكنش أخوكي، كان أبوكي، ودا مش معناه انها علاقة مش سوية"
تمزيق قماشة الإنكار تلك أخذ مني - ومن طبيبتي - وقتاً وجهداً وجلسات علاجية كثيرة لرؤية الحقيقة كما هي "مكنش أخوكي، كان أبوكي، ودا مش معناه انها علاقة مش سوية". وبعد الوقوف على تلك الأرض، كان الانتقال للنقطة التالية محتوماً، ومؤلماً. أخي كان والدي - معي ومع الآخرين - لأنه هو نفسه لم يختبر وجود – فعلي - لأب في حياته. كثيراً ما تذمر أخي مثلي من غياب والدنا على كل الأصعدة. تمنى لو يشعر لمرة واحدة فقط ماذا يعني أن يكون للفرد أب، لذلك قرر أن يكون هو ذلك الأب للجميع.
لروحه أكتب... "كان لازم تجري عليا أنا"!
أخي العزيز، أبي العزيز، أياً يكن من أنت، وإن كان عليك أن تعدو لإنقاذ أحد فكان عليك أن تهرع لإنقاذي من الوحدة الموحشة التي تركتني بها بعد موتك، فما فائدة أن تعطيني فرصة جديدة للحياة وأنت لست بها؟ لو كنت أدري يا أبي أن هذه خاتمتي وخاتمتك، لما كنت ركضت إلا وأنت أمامي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...