هذه ليست قصتي، إنها قصّة نرجس الحلواني التي سامحت أمها وأباها، وأكتبها هُنا على لسانها.
لروح أمي التي احترقت كي أنير...
لروح أخي الذي آمن بي دوماً...
لروح أبي الذي علّمني حب الفن...
لروح عائلتي العزيزة...
"وإن لم أنصف نفسي، وإن لم أقاوم، لن أشعر بأني أستحق الحياة. وهذا شعور لن أحتمله مرةً أخرى".
الاسم: نرجس الحلواني.
السنّ: أكبر مما يبدو عليها شكلاً وأصغر مما يبدو فكراً.
المهنة: ماكينة أفكار لا تبلى.
محل الإقامة: على سفح النهر الذي عشق نرجس به نفسه حتى فنى.
الغريزة؟ همممم... كلمة فضفاضة استُخدمت لقرون عدة لتبرير أطنان وأطنان من الإساءات والتحكمات.
برّ الوالدين؟ الفكرة نفسها مبدأ استُخدم لقمع أفكار ورغبات أجيال تتعارض مع رغبات آبائهم لتنتج في النهاية أجيالاً جديدةً من المسوخ، يقررون استخدام الحجة نفسها لقمع أبنائهم في دائرة مفرغة من الإساءة التي لا تنتهي.
وماذا عني؟ أنا نرجس الحلواني، أنا الزهرة الفريدة ذات الأشواك الحادة، أنا الفتاة التي قالت لا، لا لكل شيء، وأول تلك اللاءات كانت لفكرة الحب الغريزي للوالدين. رفضت نرجس أن تعترف بأن حبها لوالدها حب غريزي، وأصرّت على أن تصل إلى هذا الحب بنفسها، أو ألا تصل. المهم أن تختار بنفسها.
برّ الوالدين؟ الفكرة نفسها مبدأ استُخدم لقمع أفكار ورغبات أجيال تتعارض مع رغبات آبائهم لتنتج في النهاية أجيالاً جديدةً من المسوخ، يقررون استخدام الحجة نفسها لقمع أبنائهم في دائرة مفرغة من الإساءة التي لا تنتهي
ماذا خلق الحب المشروط منك يا نرجس؟
الحب المشروط؟ بالطبع خلق مني شخصاً عانى لليالٍ وسنوات من إحساس "عدم الكفاية". ربّتني أمي على الحب المشروط منذ نعومة أظافري، وليس ذلك الحب المشروط المتعارف من نوعية "أشرب اللبن علشان أحبك وربنا يحبك"، بل أقرب إلى "اعمل أي حاجة وكل حاجة وفي كل وقت علشان نحبك". يجب أن تقدّم للآخرين باستمرار. أن تحاول إرضاء الآخرين باستمرار. أن تختار سعادة الآخرين وراحتهم على حساب راحتك وسعادتك باستمرار، حتى تحصل على الحب والتقبل. في العادة، تنسخ الطفلة تصرفات وشخصية والدتها، لكونها النموذج الأول الذي تتعرف عليه الطفلة لشخص راشد مقبول اجتماعياً. فإن كانت الأم تضحّي بنفسها في سبيل سعادة الآخرين، بالتبعية تعتقد الطفلة بأن هذا هو الطريق الوحيد المناسب لتكون جزءاً -محبوباً- من أي جماعة. وكانت أمي، السيدة أ، سيدة الشمعات التي تحترق في سبيل الآخرين، وعليه سلكت أنا الطريق نفسه.
الحب المشروط؟ بالطبع خلق مني شخصاً عانى لليالٍ وسنوات من إحساس "عدم الكفاية".
طويلة تلك الليالي التي قضيتها أنوح في سريري بسبب إحساسي المستمر بأنني لست كافيةً، وبأنني بالرغم من كل الحب واللطف والتقبل والدعم الذي أقدمه للآخرين، لا أستحق مقابلاً مهما كان قدره من الآخرين.
بالتأكيد أنا السبب. أنا صاحبة الشخصية الكريهة التي لا تستحق أي محبة، لأنها لم تقدّم بشكل كافٍ، لتبدأ دائرة جديدة من العطاء بأمل زائف بأنني سأحب هذه المرة بالتأكيد، وأفشل بالطبع في كل مرة. اسمي نرجس وأنا نرجس بالفعل. لُعنت بحب نفسي المبالغ فيه كما لُعنت نرجس، لكن المختلف أنني اكتسبت هذا الحب الذاتي، واستحققته، ودفعت ثمنه ليالي طويلةً من كره الذات والألم والبكاء. طريق طويل مرصع بالأشواك عدوت فيه ذهاباً وإياباً حافية القدمين. وفي نهاية هذا الطريق، كانت المحطة الصادمة أن "أمي معلمتنيش أحب نفسي، لأنها متعرفش يعني إيه حد يحب نفسه أصلاً".
لكم حنقت على أمي! لكم تمنيت الصراخ في وجهها مراراً في كل الأهوال التي مررت بها، بسبب عدم قدرتي على حب نفسي! إنها القاعدة الذهبية: "كلما كرهت نفسك، كلما تلقيت من العالم أذى بالغاً، اعتقاداً منك بأنك تستحقه". في النهاية، وقبل انتهاء فصل أمي من حياتي بشهور قليلة، وبعد توقف الأذى المتأتي منها عن طريق قدرتي على التواصل مع نفسي وحبها، وحينما علّمت نفسي ما لم تعلمني أمي إياه، وجدت طريقي لمسامحتها عن كل الأذى الذي قدّمته لي من دون قصد. عرف قلبي نوعاً جديداً من الحب تجاه أمي. حب حقيقي إرادي اخترته، حب عميق يمكّنني من العيش بقية عمري من دونها. حب غير مشروط...
"أبوكِ مبيعرفش يعبّر عن حبه"؛ كلمات رُددت على مسامعي منذ طفولتي، من أمي وسائر عائلتي
ماذا خلق الجفاء منك يا نرجس؟
"أبوكِ مبيعرفش يعبّر عن حبه"؛ كلمات رُددت على مسامعي منذ طفولتي، من أمي وسائر عائلتي. فالسيد أ.س.، معروف بالعديد من الصفات ومنها عدم الاكتراث المبالغ فيه، وفقدان القدرة على التعبير عن الحب بالطريقة اللفظية أو الجسدية، وأخيراً الغلظة. بالإضافة إلى تلك الخصال، كان أبي متغيباً عن معظم طفولتي. لم يكن يدري -ولا يكترث لأن يدري- أبسط التفاصيل عن حياتي أنا وأخي الحبيب. ظلت أمي تبرر وتصبّرنا وتصبّر نفسها بأنه مشغول في عمله. ظلّت تخبرنا بأنه أبونا، ويحبنا، وأنه فقط لا يحسن التعبير عن هذا الحب إلا عن طريق الأمور المادية مثل توفير مستوى دراسي أفضل من أقراننا في العائلة مثلاً.
كبرت وأنا أشعر بالفضول الشديد تجاه ذلك الصندوق المغلق الذي يعيش معنا ولا نعرف عنه الكثير. لا يتحدث معي مطلقاً، ولا يشاركنا أفكاره ومشاعره. حتى حينما توفّي أخوه الحبيب الذي كان يمثّل له العائلة والأمان، لم يذرف دمعةً واحدة. وفي سنوات مراهقتي، أي في الوقت الذي تحتاج فيه الفتاة إلى أبيها ليكون المثال الذي تحتذي به في اختيار الفتى الذي ستقع في حبه، اكتشفت أن الأمر أكبر من كونه أباً لا يحسن التعبير عن مشاعره. فهو لا يكنّ لي أي مشاعر على الإطلاق. لا يفخر بي، ولا يحبني، ولا يهتم لأمري ولا لسعادتي، ولا تمثّل دموعي وانهياراتي الفجرية أي شيء له. يمرّ بجواري وأنا أبكي ولا يتأثر. حتى آلمي الجسدي لم يكن يهمه كثيراً، ولم يكن يسعى إلى تخفيفه عني بأي طريقة. تلك النرجس القديمة توقعت بالطبع أنها السبب، لأنها لم تكن شخصاً يستحق الحب، ولا حتى من والدها، لامت نفسها في صمت وقررت الابتعاد عنه.
كبرت وأنا أشعر بالفضول الشديد تجاه ذلك الصندوق المغلق الذي يعيش معنا ولا نعرف عنه الكثير. لا يتحدث معي مطلقاً، ولا يشاركنا أفكاره ومشاعره
وبعد ميلاد نرجس الجديدة، أول ما استوقفها هو سؤال لماذا لم يحبها هذا الرجل؟ لماذا نفر منها دائماً وابتعد عنها؟ لماذا لم يحاول أن يقدّم لها أي دعم وحنان كذلك الذي تقرأ عنه أو تراه من آباء صديقاتها؟ ظلّت تلك الأسئلة توسّع الفجوة بيني وبين أبي حتى أصبح لا يملؤها ولو حب والد يوسف له الذي ابيضّت عيناه من الحزن عليه. بل مع مرور الوقت، تحول الأمر إلى إحساس مستمر بالأذى لمجرد وجودنا في الغرفة نفسها؛ كلما رأيت وجهه تذكرت أن هذا الرجل الذي لم يحبّني مهما فعلت، ومن المفترض أن يحبّني حتى لو لم أفعل. رحل أبي وصدري ملؤه الغضب، لأنه رحل من دون أن يجيبني عن أسئلتي، ومن دون أن أعرف لماذا لم يحبني! وبعد الفراق بوقت غير قصير، وبعد أن وجدت جروحي فرصةً لتطيب، وبعد العديد من جلسات العلاج النفسي وكلام المعالجة المستمر عن نظرية اليين واليانج في الشخصيات، وأنه لا وجود للخير الخالص أو الشر الخالص في الأشخاص، وجدت طريقهً أحب بها أبي، حتى لو لم يكن الحب الخالص نفسه الذي أكنّه لأمي، وحتى لو كان حب عن طريق الامتنان على أبسط التفاصيل اللطيفة التي قدّمها لي، مثل مناقشة طويلة عن الفن وتأثيره على سياسات المجتمعات، أو نزهة ليلة في وسط البلد لتأمّل معمارها الفريد، فهو بالتأكيد حب أكبر مما أغدق عليّ منه طوال عمره، حب أعبّر عنه بالغفران.
الراحة بالتأكيد. بعد الغفران والسماح وتسوية الأمور نفسياً تأتي الراحة والقدرة على الاستمرار في الحياة
وماذا بعد وضوح الرؤية يا نرجس؟
الراحة بالتأكيد. بعد الغفران والسماح وتسوية الأمور نفسياً تأتي الراحة والقدرة على الاستمرار في الحياة. فإن عانيت طوال عمرك من مشكلات مع أمك وأبيك، تحتاج في مرحلة ما إلى وقت مستقطع من كل ذلك الألم والشفقة على الذات الذي تجرّه خلفك ويثقل كاهلك. تسامح وتغفر لترتاح أنت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...